يلتهم خروفا في 30 دقيقة    15 مليار دولار لشراء Google Chrome    أقوى 10 أجهزة كمبيوتر فائقة في العالم    تنافس شبابي يبرز هوية جازان الثقافية    لماذا رفعت «موديز» تصنيف السعودية المستقبلي إلى «مستقر» ؟    إصابة طبيب في قصف إسرائيلي استهدف مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة    مسودة "كوب29" النهائية تقترح 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة    «اليونيسف» تحذر: مستقبل الأطفال في خطر    3 أهلاويين مهددون بالإيقاف    اختبارات الدور الثاني للطلاب المكملين.. اليوم    "مركز الأرصاد" يصدر تنبيهًا من أمطار غزيرة على منطقة الباحة    "الداخلية" تختتم المعرض التوعوي لتعزيز السلامة المرورية بالمدينة    «الغرف»: تشكيل أول لجنة من نوعها ل«الطاقة» والبتروكيماويات    افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    المدينة: ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف ومواقع تاريخية    «مجمع إرادة»: ارتباط وثيق بين «السكري» والصحة النفسية    رصد أول إصابة بجدري الماء في اليمن    600 شركة بولندية وسلوفاكية ترغب بالاستثمار في المملكة    آل غالب وآل دغمش يتلقون التعازي في فقيدهم    أمراء ومسؤولون يواسون أسرة آل كامل وآل يماني في فقيدتهم    المملكة تعزز التعاون لمكافحة الفساد والجريمة واسترداد الأصول    نائب وزير التجارة تبحث تعزيز الشراكة السعودية – البريطانية    «واتساب» يتيح التفريغ النصي للرسائل الصوتية    بحضور سمو وزير الثقافة.. «الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    تحفيزًا للإبداع في مختلف المسارات.. فتح التسجيل في الجائزة السنوية للمنتدى السعودي للإعلام    فعاليات متنوعة    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    القِبلة    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    30 عاماً تحوّل الرياض إلى مركز طبي عالمي في فصل التوائم    الأكريلاميد.. «بعبع» الأطعمة المقلية والمحمصة    خسارة إندونيسيا: من هنا يبدأ التحدي    مشكلات المنتخب    تأثير اللاعب الأجنبي    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    «النيابة» تدشن غرفة استنطاق الأطفال    «صواب» تشارك في البرنامج التوعوي بأضرار المخدرات بجازان    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    الخليج يُذيق الهلال الخسارة الأولى في دوري روشن للمحترفين    مستقبل جديد للخدمات اللوجستية.. شراكات كبرى في مؤتمر سلاسل الإمداد    "تقني‬ ‫جازان" يعلن مواعيد التسجيل في برامج الكليات والمعاهد للفصل الثاني 1446ه    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    1.7 مليون ريال متوسط أسعار الفلل بالمملكة والرياض تتجاوز المتوسط    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    المدى السعودي بلا مدى    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوم بكت نيويورك وواشنطن قال "المحافظون الجدد": وجدناها، هذه بيرل هاربر ... نا قسم ثاني
نشر في الحياة يوم 11 - 09 - 2003

وما من شك في أن نتانياهو اهتم. فأقطاب "المحافظين الجدد" أصدقاؤه الشخصيون يجمعه بهم الموقع الذي يحتله الإرهاب في تفكيرهم جميعاً، واعتبارهم أمن إسرائيل، كائناً ما كان تأويله، أولوية أميركية بقدر ما هي إسرائيلية. وبعد كل حساب، فرئيس حكومة اسرائيل السابق شقيق القتيل الاسرائيلي الوحيد في عملية عنتيبي، والأهم أنه نجل أحد مؤسسي تلك النظرة المتشائمة بجنس بشري لا يُساق إلا بالقوة. فأبوه المؤرخ بنزيون نتانياهو الذي اعتنق دعوة فلاديمير جابوتنسكي القومية المتصلبة، هو من أصدر كتاباً من 1384 صفحة عنونه "أصول محاكم التفتيش في اسبانيا القرن الخامس عشر"، مدمراً ما كانت تواضعت عليه الرواية التاريخية لتلك الحقبة. أما الفكرة التي دافع عنها بنزيون فأن اليهود حتى لو تحولوا الى المسيحية قلباً وقالباً يبقون، في حساب غيرهم، يهوداً فحسب. ولأن كراهية اليهود تخترق الأزمنة والأمكنة فلا يسع الاندماج تذليلها، ما من علاج لهذا الداء اللاتاريخي الا الإنعزال المحروس بالنار والحديد. وبنيامين إبن بنزيون بقدر ما أن وليم إبن ايرفينغ كريستول، ودانيال إبن ريتشارد بايبس، المهاجر الروسي ومؤرخ "امبراطورية الشر" الذي عمل مستشاراً لريغان، وروبرت إبن دانيال كايغان الذي حذّر من "نوم" أميركا فيما السوفيات يتسلحون، ودوغلاس إبن دالِك فايث، المناضل في التنظيمات القومية الجابوتنسكية ببولندا الثلاثينات.
وهذه حالة ما بعد حداثية، إلا أنها بعض أسوأ عيّنات المزاج ما بعد الحداثي. فانبعاث الهوية وفعالية منظومة القرابة التي يحتفظ بها غالباً المهاجرون في مهاجرهم، يتجاوران مع وطنية تجمع بين شوفينية قومية جامعة وتحزيب مؤدلج بالغ التفتيت. وهذه العناصر كلها تذرّ قرنها في الجامعات ومراكز البحوث وقنوات الاتصال الأشد عصرية في شقها التقني، لتضخ من الكلام أكثر ما يحول دون خروج البشر من حرب قايين وهابيل. لكنها أيضاً، وهو الأخطر، تفتي غير هيّابة في شأن التسلح النووي وتلهو على مقربة من زناده.
كلينتون الكريه
بيد أن أميركا التي كانت تستمتع بثمار الازدهار الاقتصادي غير المسبوق لعهدي بيل كلينتون ليست نتانياهو. فحين أصدر وليم كريستول في 1 كانون الأول ديسمبر 1997 عدداً خاصاً من مجلته "ويكلي ستاندارد" بعنوان "صدام… ينبغي أن يذهب"، اقتصر الإهتمام على نطاق ضيق من المؤمنين بالدعوة ممن لا يعوزهم التبشير بها. وما لبث الجمهوريون ان تفرّغوا كلياً للمعركة الرئاسية، حيث راح المرشح جورج دبليو بوش ينتقد انشغال كلينتون بالخارج، مؤكداً على أن دور الولايات المتحدة في العالم عرضة للتقليص لا التوسيع. لكن قبل العدد الخاص، وفي العام نفسه، أسس كريستول المعهد الذي ربما كان أهم ما أنشأه "المحافظون الجدد" في وثوبهم على السلطة: معهد "مشروع القرن الأميركي الواحد والعشرين" الذي غدا واجهة يلتحم خلفها الجمهوريون الرسميون الأشد يمينية، كتشيني ورمسفيلد، والقيادات المسيحية الرجعية بما فيها الكاثوليكية، كغاري باور ووليم بينّيت، فضلاً عن العشيرة الايديولوجية للمؤسس نفسه. وكان ما يجمع بين هذه العناصر، عدا التوجه الايديولوجي العام، ما تعرّضوا له من عزل وتهميش في السنوات الكلينتونية. فقد تشارك الثالوث تشيني ورمسفيلد وولفوفيتز في التحول الى "مسؤولين سابقين" على يد رئيس مثّل لجميع المصابين بالإمساك النضالي كل الكريه والمكروه: العولمة والتعدد الثقافي والراحة الاقتصادية والتلوث الأخلاقي في وقت واحد. وكانت كبرى جرائم كلينتون أنه لم يملأ، على مدى سنوات حكمه، "فراغ القوة" الذي خلفه انهيار السوفيات. هكذا استحق الرئيس السابق صرخة مسعورة أطلقها وليم بينّيت، وزير التعليم في عهد ريغان وأحد أقطاب "القرن"، ناعياً "موت الغضب" في أميركا.
ولأن الغضب ينبغي أن لا يموت، تولى مشروع "القرن" في "بيان المبادىء" ذي الطبيعة المنيفستوية، قرع طبول التصحيح رداً على اعوجاج طاغٍ، وتوكيد الهوية الريغانية الجامعة للمنضوين فيه، ولنشاطهم التصحيحي بالتالي. كما تولى تطوير نظرية الابتداء بالعراق: ففي بلاد الرافدين تُستَهل الحرب على الإرهاب بقدر ما تنطلق منه صناعة الشرق الأوسط الجديد. فإذا صح أن تلك الآفة إسلامية وشرق أوسطية، صح أن العراق مدخل استئصالها، هو الذي يحاذي إيران غرباً، وسورية، ومن ثم الموضوع الفلسطيني - الاسرائيلي، شرقاً، والجزيرة العربية والخليج شمالاً، وتركيا، وبالتالي روسيا، جنوباً. وفي مقابل عبور الارهاب الدول والحدود، لا بد من مكافحته انطلاقاً من دولة - قاعدة بعينها. فإذا كان صيت صدام الأسود وضعف شرعيته واهتراء جيشه بسبب الحصار تؤهّله لأن يكون الهدف الأسهل، فثروة العراق النفطية وطاقاته البشرية وكفاءاته العلمية ترشّحه لأن يكون نقطة الانطلاق المضمونة لتغيير المنطقة بكاملها.
وقد آن بالفعل، بحسب تلك النظرية، تغيير المنطقة على وجه يجفف الإرهاب في ينابيعه فيما يفرض حلاً أميركياً - إسرائيلياً للمشكلة الفلسطينية، المصدر الأول للارهاب. فما خلا اسرائيل، وبدرجة أقل تركيا، تقف دول تلك المنطقة كلها في الطابور المزدحم انتظاراً والمتحرّق شوقاً للتغيير المنشود. ذاك أن البلدين هذين هما وحدهما من يمارس الديموقراطية وتجمعه بالولايات المتحدة المصلحة في مكافحة الإرهاب.
وثمة من قلقوا وهم يعاينون "القرن" كما يرسمه معهده. وثمة، بين الأوروبيين خصوصاً، من نبّهوا إلى وجود مسودّة للهيمنة الأميركية على نطاق كوني. غير أن القلق لم يصر خوفاً: صحيح أن انضمام تشيني ورمسفيلد إلى "المحافظين الجدد" أعطاهم وزناً غير مسبوق، إلا أن الصحراء التي تفصلهم عن بلوغ الذروة كانت لا تزال ضخمة جداً. فهم، في أحسن أحوالهم، أضحوا لوبي شرعياً يستطيع الضغط على القرار بفاعلية أكبر. وفي أسوأها، تعبير عن نوستالجيا الى الزمن الريغاني حيث احتل معظمهم مواقع متفاوتة التأثير. والراهن أن كريستول والآخرين لم يُخفوا صدورهم عن "مبادىء" رونالد ريغان التي أوضحها على النحو التالي: "أميركا قوية. سياسة خارجية متجذّرة أخلاقياً… تدافع عن الأمن الأميركي والمصالح الأميركية. وفهمٌ ]مفاده[ أن القيادة الأميركية هي المفتاح لا للاستقرار العالمي فحسب، بل لأي أمل في نشر الديموقراطية والحرية حول العالم". وغالباً ما ألمح المراقبون الليبراليون إلى أن "المحافظين الجدد" كلهم، أكانوا باحثين مقاتلين في مراكز الأبحاث أم معلّقين في الصحف والمجلات، يكثرون الاستشهاد ب"الوضوح الأخلاقي" لدى ريغان.
مع هذا لم يلحظهم كلينتون، فوجّه إليه "مشروع القرن" رسالة مفتوحة، في 1998، يحضّه فيها على قلب صدام بالقوة يمارسها طرف واحد: "فنحن لم يعد في وسعنا الاعتماد على شركائنا في تحالف حرب الخليج" لفرض نظام التفتيش في بغداد. أما "الاستراتيجية الوحيدة المقبولة فتلك التي تستأصل إمكانية تمتّع العراق باستخدام أسلحة الدمار الشامل، أو التهديد باستخدامها".
وتمضي الرسالة: "وهذا ما يعني، على المدى القريب، رغبة في اللجوء الى العمل العسكري إذ الديبلوماسية، كما هو واضح، تعاني الفشل. أما على المدى البعيد فيعني إزاحة صدام حسين ونظامه من السلطة". لكن الرئيس الديموقراطي الذي عالج العراق البعثي عامذاك بعدد من الضربات الجوية، حافظ على استراتيجية "الإحتواء" التي بدىء بها أواخر عهد بوش الاب. وبدا، مجدداً، أن الدعوة لم تقع على آذان صاغية. فكلينتون، مثله في هذا مثل سلفه الجمهوري، رأى أن سياسة "تغيير الأنظمة" كيفما اتفق تتسبب، بين أمور أخرى، في مزيد من الارهاب الكوني الذي يرتدّ على الأميركان قبل غيرهم.
جورج دبليو وبن لادن
ولم يطل الانتظار في الظل وإن شابهُ قدر من التعثّر. فجورج دبليو إذ ترشّح للرئاسة لم يبدُ لمعظم "المحافظين الجدد" صاحب القامة الذي يتصدى للتحديات، لا سيما بالطريقة التي رسموها هم فيها. وهل يمكن لأي كان، حتى لو كان "محافظاً جديداً"، أن تخونه الفراسة هنا؟
والحال أن كثيرين منهم تعاطفوا، في الطريق الى الانتخابات، مع منافسه الجمهوري جون ماكين الذي ارتبط اسمه بالقتال والسجن في فيتنام. وكانت الخشية لا أن يكون جورج دبليو إبن أبيه فحسب، بل أن يكون أسوأ من ذلك. فالوالد، على الأقل، رافق ريغان كما عرف العالم الخارجي، فيما النجل لا يزال يخطىء الفرق بين غانا وباكستان.
لكنْ كان ثمة ما يطمئن. فقد تردد أن جورج دبليو استمد فكرته عن "المحافظة العطوفة" من غيرترود هيميلفارب، مؤرخة الحقبة الفيكتورية في انكلترا وزوجة إيرفنغ كريستول التي شاركته ارتكاب نجلهما وليم. كما أن جيب، شقيق دبليو، كان أحد موقّعي "بيان المبادىء" الذي أصدره "مشروع القرن" لدى تأسيسه في 1997. بيد أن الطمأنة الأكبر بما لا يُقاس صدرت عن اختيار دبليو ديك تشيني نائباً له. وعلى الاختيار هذا ترتبت نتائج خارقة تتالت تدريجاً. فقد جيء بصديق تشيني، دونالد رمسفيلد، وزيراً للدفاع، وببول ولفوفيتز نائباً له، وبريتشارد بيرل ليرأس المجلس الاستشاري للوزارة. وعلى العموم، فمن أصل الثمانية عشر اسماً الذين وقّعوا رسالة "مشروع القرن" إلى كلينتون، بات عشرة يتولون مناصب مهمة في الإدارة الجديدة. وبدت المفارقة الأبرز أن الأغلبية الساحقة من هؤلاء مدنيون يتوزعون المناصب في وزارة الدفاع. واستحضر الوضع الجديد نظريته، فابتدأ أحدهم يومذاك، إليوت كوهين، تجهيز كتابه الذي صدر بعد عامين بعنوان "الإمرة العليا: الجنود والسياسيون والقادة في زمن الحرب". وما أراده البروفيسور والخبير الاستراتيجي المذكور البرهنة على ان الحروب أخطر من أن تُترك للعسكريين، على ما سبق أن رأى كلاوزفيتز. فما أن تدخل أمة حرباً حتى تغدو القرارات الأساسية، بما فيها كيفية توزيع الجنود وتحديد أولوياتهم وأي درجة من القوة ينبغي اعتمادها لضمان أمنهم، مهمة القيادة المدنية وحدها. وربما وجد دبليو، وقد حُمل على قراءة الكتاب، ما يدغدغه في "العبقريات" العسكرية لأربعة مدنيين هم ابراهام لينكولن في الحرب الأهلية الأميركية، وجورج كليمنصو في الطور الأخير من الحرب العالمية الأولى ومفاوضات الهدنة التي تلتها، وونستون تشرشل إبان الحرب الثانية، ثم ديفيد بن غوريون في حرب 1948 العربية اليهودية. لكن القراء الأعرف من الرئيس، وهم محيط من البشر، لا بد أن تقلقهم مماثلات تاريخية مع تجارب عقائدية سابقة: فبعد ثورة أكتوبر الروسية سمّي بعض الحزبيين البلاشفة مفوّضين في الجيش يراقبون الضباط الموروثين عن القيصرية ممن لا يثق بهم النظام الجديد. وإبان الحرب الثانية كانت القرارات العسكرية لهتلر وكبار النازيين غالباً ما تتعارض مع تقديرات الجنرالات الألمان المغلوبين على أمرهم. أما "الثورة الثقافية" الصينية الشهيرة فعنت، في أحد أبرز وجوهها، إخضاع المجتمع للجيش وإخضاع الجيش للحزب. على ان "المحافظين الجدد"، هنا أيضاً، لم يستوقفهم أن خصمهم صدام حسين كان هو الآخر مدنياً أخضع الجيش العراقي وزجّه في معارك وضع هو بنفسه خططها التي كانت آية في الفشل.
على أية حال، فلا المناصب في وزارة الدفاع بدت كافية بذاتها ولا الكتاب. المطلوب كان إقدام أسامة بن لادن على ما أقدم عليه في 11/9/2001. فهو الذي قدّم الهدية النادرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي فانطلق من عقاله الجنون.
الحقيقة اللازمة للخرافة
الباقي غدا معروفاً، وقد تكشّف على إيقاع أحداث هيولية بالغة التسارع: حربين في أفغانستان والعراق، وجو ذعري لم تعرفه الولايات المتحدة ولا عرفه الشرق الأوسط. مع هذا يحتفظ بعض التفاصيل بأهميته. ففي اجتماع وزاري عُقد بعد 30 ساعة فقط على ضربات "القاعدة"، وقبل أن يتضح تماماً من الذي يقف وراءها، أصر رمسفيلد، بحسب رواية الصحافي بوب ودوارد، على ضرورة استهداف صدام. ومع الاجتماعات الأولى التي عقدها مستشارو الرئيس للأمن القومي بُعيد 11 أيلول، طرح وزير الدفاع ونائبه ولفوفيتز رأييهما في إطاحة النظام البعثي، إذ ما دام العراق دولة ارهابية باتت الحرب على الارهاب تستهدفه حكماً. وساد، في هذه الغضون، جو الترهيب والكوارث انطلاقاً من حقائق فعلية لكنها مضخمة ومنظمة. هكذا عمّ الكلام على شبكات تعمل على نطاق عالمي، وعلى دول إرهابية تنظّم نشاطاتها بدقة الكومبيوتر. وتبعاً للتحليلات الذعرية هذه، بدت الدول دائماً أخطر من الشبكات لأنها أقوى وأغنى، فضلاً عن استخدامها السفارات والحقائب الديبلوماسية لإنجاز عملياتها.
والأهم كان نشر الفرضية القائلة إن ما حصل في 11/9 أقل مما سوف يحصل ويتخذ شكل إرهاب ذري أو بيولوجي. اما العبرة فضرورة التضافر حول السلطة وأجهزة الأمن والتعامل بجدية مع رئيس قائد كان الشك، حتى تلك اللحظة، يساور ظرف انتخابه. وإذ تغلبت، هنا، "المحافظة الجديدة" على "الليبرالية الجديدة" من داخل مجمّع ايديولوجي وسياسي واحد، أعيد الاعتبار للدولة التدخلية، لا في خدماتها الاقتصادية والاجتماعية، بل في أنيابها القمعية المسنونة.
وامتدت عملية الخوف والتخويف الى جوانب أخرى. فمناقشة الحرب وسياساتها، أو التشكيك بالتأويل الرسمي للأحداث، قُدّما "عملاً غير أميركي" تخالطه شبهة الخيانة. واستورد المجتمع ما صدّرته له الدولة من خوف، فمارس أسوأ هواياته الوطنية: تجميع البنادق. هكذا لم ينقض غير أشهر ثلاثة على تدمير البرجين حتى بيع أكثر من مليون قطعة سلاح في الولايات المتحدة. ذاك أن الارهاب قد يأتي من تحت الأسرّة ومن وراء الجدران، كما كانت وسائل الإعلام التي يمتلكها روبرت مردوك، ويتولاها "المحافظون الجدد"، تشيع. ولأن الحال على ما هي عليه، افتتح معسكر غوانتانامو بموافقة شعبية تكاد تكون اجماعية في الولايات المتحدة، كما مرر الكونغرس، بعد شهر ونصف الشهر على 11/9، "القانون الوطني الأميركي" فلم يعارضه الا صوت واحد في مجلس الشيوخ. وتُرك لقبضة من النقاد الليبراليين واليساريين أن يحذّروا من أن ذاك القانون يخل بالأداء الديموقراطي ويضرب فلسفته المعمول بها تقليدياً في أميركا: فهو يعامل المواطن على انه متهم الى ان يثبت العكس، وفي انتظار الاثبات يحرمه معظم حقوقه وضماناته القانونية. وبموجب القانون إياه، طُلب من الأميركان أن يمارسوا الوشاية بما يفيض كثيراً عن ضفاف المثقفين والفنانين ممن طالبتهم مكارثية الخمسينات بالإخبار عنهم. فوزارة العدل، برئاسة جون أشكروفت، بادرت الى ملء علب البريد باستمارات تسأل من يتسلمها أن يشي بأي تصرف غريب أو مشبوه يبدر عن جيرانه.
كان الأمر، إذاً، بمثابة طائرة أخرى تقصف عقل أميركا وتكمل ما بدأه قاصفو البرجين. وإذ شكك هذا السلوك بمبدأ التعاقد الاجتماعي، تمكنت الأدلجة المحكمة من بوش نفسه، فإذا به بين ليلة وضحاها يفتي في أمور الشأن الإنساني والخير والشر. وفعلاً ظهر "محافظ جديد" آخر، هو ديفيد فروم، يكتب له الخطاب الذي ألقاه في كانون الثاني يناير 2002 عن "محور الشر"، شاملاً إيران إبان الإعداد لحرب على العراق! وبدا دبليو مُطالَباً بالاهتمام بشؤون المبادأة وحقائق الاستراتيجيا، عملاً بالوصية الضمنية المبثوثة في كتاب إليوت كوهين. فقد كان على الرئيس، بكلمات كريستول، أن يتعلم، قبل أي درس آخر، أنه "من غير المقبول أن نجلس في المؤخرة ونترك المجموعات الإرهابية أو الديكتاتوريين يطورون أسلحة دمار شامل يضربوننا بها أولاً".
وتروي الكاتبة والصحافية إليزابيث درو كيف أنه لم تمر الا فترة قصيرة على 11 ايلول حتى كان أعضاء مدنيون في الإدارة يطلعون بعض القادة العسكريين على أن ستة أنظمة، فضلا عن العراقي، ينبغي ان تطاح لاحتضانها مجموعات ارهابية. فالسلطات القائمة في كل من سورية ولبنان وإيران والصومال والسودان وليبيا مطروحة على جدول التصفية. ونشأت بورصة تصعد فيها وتهبط أسماء الأنظمة المرشحة لأن تُقلب والبلدان المعرّضة للتحويل الجذري. وحتى 1 أيار مايو الماضي على الأقل، بدا دبليو ملتزماً هذه النظرية: فقد سمّى انتهاء "المعارك الكبرى" في العراق، "انتصاراً واحداً في الحرب على الإرهاب التي بدأت في 11 أيلول 2001 ولا تزال مستمرة".
لقد طفق الثوار يعيدون إنشاء العالم من صفر. فهم أرادوا، أيضاً بحسب كريستول، "أميركا توكيدية ومثالية لا تبحث عن أعذار، تطلق الثورات الديموقراطية في العالم، ولا تتردد، إذا لزم الأمر، في استخدام القوة لهذا الغرض". ولأن أي روبسبيير لا يطيق جيروندييه، اختاروا وزير الخارجية كولن باول، المعروف بحذره الشديد حيال الحروب والموت، خصمهم. والحق أنه لو تُرك الأمر لهم لبدأت الحرب العراقية خريف 2002، هي التي لم يؤخّرها إلا نجاح باول ورئيس حكومة بريطانيا توني بلير في إقناع بوش بالتوجه الى الأمم المتحدة. وفي تصعيد مفاجىء للمعركة، نيط بوافد جديد إلى "المحافظين الجدد"، هو رئيس المجلس السابق نيوت غينغريتش، التشهير بوزير الخارجية علناً، ومن على منصة أحد أبرز معاقلهم، "أميريكان إنتربرايز إنستيتيوت".
وكانت للمدنيين حربهم في موازاة السعي إلى قضم وزارة الخارجية، بعدما اخترقوها بجون بولتون، نائب الوزير، المفروض على وزيره. وقد جادلوا بأن الحرب تلك لا تستدعي أكثر من أربعين إلى ثمانين ألف جندي. ذاك ان القوة الصغيرة التي تتجه من واشنطن الى بغداد لا بد ان يضخّمها مقاتلو "المؤتمر الوطني العراقي" والفارون من الجيش والمنشقون عنه، فيما يتكفّل الورد المنثور على الجنود المحررين تعطير المهمة وتسهيلها. وراح العسكريون، وقد غدا عددهم في الخارجية التي يرأسها عسكري سابق أكثر مما في الدفاع "المدنية"، ينتفون شعورهم. هكذا أدلى رئيس أركان الجيش، الجنرال أريك شينسكي، بشهادة أمام الكونغرس مغايرة تماماً لتقديرات "المحافظين الجدد"، فرأى أن ما بعد انتهاء القتال يحتاج الى ما لا يقل عن مئتي الف جندي. وبدورهم كره رمسفيلد وولفوفيتز والآخرون المستعجلون أن يعرف الرأي العام الاميركي بأن الحرب مكلفة، فسارعوا الى التشكيك بشهادة الجنرال. ورفض رمسفيلد المطالبة بتوفير عدد مرموق من أفراد الشرطة العسكرية يكون جاهزاً لفرض الأمن حالما ينتهي القتال. وبالطبع رفضوا جميعاً انتظار الأمم المتحدة التي قدّر البعض ان مجلس أمنها يمكن ان يصدر قراراً ثانياً، كما رفضوا بناء أحلاف عسكرية تتعدى الحليف البريطاني.
هكذا كانت حرباً ايديولوجية بامتياز. فحين تبيّن ان الحروب لا تُخاض بالايديولوجيات، طوّروا نظريات أخرى لتطويق المآخذ. ذاك ان الرأي العام الأميركي، في حسبتهم، مستعد لتقبل الخسائر في العراق حيث لن تتكرر فيتنام مطلقاً. وحتى في فيتنام نفسها لم يصدر كره الحرب عن المجتمع الاميركي، إذ بقي التأييد لها قوياً برغم الجثث، فلم يتراجع إلا مع محاولات الادارات المتعاقبة اقناع الجمهور باستحالة النصر. والشيء نفسه يصح في الصومال والبلقان وغيرهما، بما يستوجب من جورج بوش أن يستنتج الدرس اللازم: إكمال الشوط وعدم التراجع في منتصف الطريق لأن ما يتخذه من قرار سيكون المصيري والحاسم. ولئن كان الباحث والمؤرخ البريطاني الأصل بول كينيدي قد تنبأ، منذ عقدين، بسقوط الامبراطورية الاميركية بعد فترة سطوة تطول، وابتكر تعبير "التمطّط الامبريالي" الذي يرفع الانفاق على الحرب والقواعد مفضياً الى الانهيار، فهم طوّروا نظرية نقيضاً: فحصة الدفاع من الإنفاق الأميركي الراهن لا زالت، قياساً بإجمالي الناتج المحلي، تقلّ كثيراً عما كانته إبان الحرب الباردة. ثم أن الولايات المتحدة لن تنفق على بناء العراق ما سبق ان انفقته على إعادة بناء أوروبا واليابان.
وإذا بدا بعض هذا الكلام صحيحاً، فبعضه الآخر أن أميركا تئن تحت عجز قيمته ثلاثة تريليون دولار لباقي العالم، وميزان مدفوعاتها العالمي لن يسمح لها، بالتالي، بحروب لا نهاية لها ولا شريك لها فيها. لكن إذا كان على الأميركان أن يقلقوا من جراء هذا المشروع الانقلابي، فعلينا نحن أيضاً أن نقلق. فالعرب إنما وفّروا الحقيقة التي لا بد لأي خرافة أن تستند اليها لكي تكتمل كخرافة. فمعظم الوصف الذي صدر عن "المحافظين الجدد" لأحوال الشرق الأوسط ونُظمه وتعليمه واستبداده صحيح. وهم إذا ما كذبوا في خصوص سلاح الدمار الشامل في العراق، أو العلاقة بين "البعث" و"القاعدة"، فإنهم لم يكذبوا في توصيف النظام الذي سحق العراقيين وروّع المنطقة نيفاً وعقوداً ثلاثة. وهم لئن أخفوا مسؤوليتهم عن الارهاب، فنحن أيضاً أخفينا مسؤوليتنا فعظّمنا فاعليه وأعلناهم "شهداءً" ولا نزال، بعد عامين على 11/9 نسبّق كل "إرهاب" ب"ما يُسمى". وحتى الآن، لم يوفّق العرب في الاجابة عن سؤال طرحه "المحافظون الجدد" عليهم، وهو: أين هي الأواليات الداخلية للديموقراطية والإصلاح في المجتمعات العربية؟ وبمعنى مشابه تستثير الأنظمة التوتاليتارية، ومنها السوفياتي الراحل، الخوف المشروع حقاً، وتستدعي تعزيز القوة لمنع خطرها.
مع هذا، فردّ الخطر شيء والتهديد شيء آخر، تماماً كما أن وصف السؤ شيء وجعله أسوأ شيء مختلف. وقد يكون من الجائز السؤال عن قدرتنا على التغيير الذاتي، بل رغبتنا فيه. إلا أن المؤكد أن نزعة الاستئصال والتغيير الفوري الشامل لن تخلّف وراءها غير الدم وغير أفق لا ترسمه إلا علامات استفهام كبير. ففي حالة العراق، تتساوى احتمالات انهيار البلد مع احتمالات قيامه. وفي الحالات الأخرى، يتبدى كيف أن الخطأ الذي بنته عشرات السنوات، إن لم يكن مئاتها، يستحيل على "الصح" أن يقتلعه في غضون أيام، وهو ما تزداد استحالته حين ينعدم المثال الذي يُفترض بتقدم العرب أن يفضي إليه؟
لكن حتى لو جاز غض النظر عن الشق الإيديولوجي في هذا المشروع الخلاصي، وحتى لو جاز التغاضي عن طابعه الذعري، بقي شيء واحد غير قابل للإشاحة: أن المشروع لا يتمتع بالنزاهة. فلدى الاقتراب من إسرائيل شارون تختفي حقيقة يعرفها كل المتعاملين مع الحروب. ذاك أن مُمجدي هذه الأخيرة تغنّوا، منذ الأساطير الأولى للانسانية، بالمعاناة والتغلب على الذات فيما هم يقاتلون العدو. وحتى لو كانوا يحاربون العتم والشر، ظلت تتجاذبهم صراعات داخلية ووجدانية كانت جزءا من "المطهر". وهذا ما لا يبدي مثله أولئك الصامتون عن انتهاكات ما أن يطالها وصفهم حتى ينقلب مديحاً. فالقوس لا بد من أن يفرّط بسهم من سهامه حتى يصيب هدفاً قريباً، فكيف وأن الأهداف عديدة ونائية والحرص على السهام كبير جداً؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.