سيشهد التاريخ العالمي في المستقبل على أن أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر والتي تمثلت في الهجوم الإرهابي الشامل على مراكز القوة الاقتصادية والعسكرية في الولاياتالمتحدة الأميركية، كانت - على عكس ما يرى عديد من الباحثين - نهاية الامبراطورية الأميركية! وإذا كان المؤرخ الأميركي الكبير البريطاني الأصل بول كيندي سبق له أن تنبأ بسقوط القوة الأميركية في كتابه المعروف "صعود وسقوط القوى العظمى"، فإن ما تبع هجوم الحادي عشر من أيلول سبتمبر إنما يؤكد صدق هذه النبوءة. وبيان ذلك أن الولاياتالمتحدة الأميركية في رد فعلها العنيف والمتعجل على الأحداث المهولة اصدرت قراراً إمبراطورياً بالحرب ضد الإرهاب شعاره: من ليس معنا فهو ضدنا!، وجاء في القرار التاريخي أن الحرب ضد الإرهاب حرب من نوع جديد لا يحدها مكان أو زمان، بمعنى أنها تتسع دوائرها لتشمل المعمورة كلها من ناحية، وأنها يمكن أن تستمر إلى الأبد من ناحية أخرى. وبدأت الولاياتالمتحدة الأميركية حربها ضد الإرهاب بالهجوم على أفغانستان لتصفية تنظيم "القاعدة" والقضاء على نظام "طالبان" المتحالف معه. غير أن هذه الحرب لم تكن سوى خطوة من خطوات متعددة اتخذتها الولاياتالمتحدة في سبيل الحفاظ على الأمن الداخلي الأميركي. وهكذا أصدرت حكومة الولاياتالمتحدة الأميركية مجموعة كاملة من التشريعات التي تكفل لها القبض على الأشخاص المشتبه فيهم واعتقالهم مع حرمانهم من حقوقهم القانونية التي تنص عليها التشريعات الأميركية ذاتها. بل إن بعض هذه التشريعات نص على جواز محاكمة المتهمين بالإرهاب أمام محاكم عسكرية في جلسات سرية في غير حضور محامين للدفاع. وهذه المحاكم من حقها أن تصدر أحكاماً بالإعدام، وبالإضافة إلى ذلك أعطيت للسلطة التنفيذية ولقوات الشرطة سلطات واسعة غير مسبوقة في التنصت على المكالمات الهاتفية وتفتيش المنازل، والقبض على المشتبه فيهم، وخلقت هذه التشريعات الاستثنائية مناخاً ثقافياً يسوده الإرهاب والقمع أشبه ما يكون بالمناخ الثقافي الذي ساد أيام الحقبة المكارثية، حيث ألغيت سيادة القانون، وأطلق عقال الاتهامات الجزافية ضد المثقفين الأميركيين بتهمة الشيوعية. وفرضت إدارة الرئيس بوش بعد 11 أيلول سبتمبر نوعاً من الرقابة الإعلامية وخضعت وسائل الإعلام للهستريا التي أشاعتها هذه الإدارة، إذ أصبح كل من يعارض توجهات الحرب العشوائية ضد الإرهاب يتهم بعدم الوطنية. غير أنه في المجال الدولي أخذ لفظ الامبراطورية ومشتقاته يتردد كثيراً لتوصيف السلوك السياسي الأميركي، ليس ذلك فقط بل أخذت الانتقادات العنيفة تصدر من حلفاء الولاياتالمتحدة الاميركية في أوروبا. ومن أبرز هذه الانتقادات الكتاب الذي أصدره الكاتب الفرنسي المعروف آلان جوكس بعنوان "امبراطورية الفوضى"، متهماً الولاياتالمتحدة الاميركية أنها بسلوكها العدواني والفظ ليس فقط إزاء أعدائها الحقيقيين أو المحتملين ولكن أيضاً بالعداء لحلفائها الأوروبيين إنما تنشر الفوضى في مجال النظام العالمي الراهن، وهو لا يقتنع بهذا التوصيف، ولكنه يتقدم خطوات أخرى للأمام لكي يضع توصيات استراتيجية تكفل للدول الأوروبية مقاومة الهيمنة الأميركية على النظام العالمي. { التحدي العالمي للإمبراطورية: ولم تقنع الولاياتالمتحدة الأميركية بحربها ضد أفغانستان والتي استطاعت فيها أن تسقط بسهولة كبيرة نظاماً سياسياً متخلفاً وبدائياً لأنها سرعان ما حولت كل طاقاتها العدوانية لاتجاه العراق. والواقع أن استهداف العراق استراتيجية أميركية تعود إلى العام 1991 عقب تحرير الكويت بواسطة قوات التحالف الدولي التي قادتها الولاياتالمتحدة الأميركية، ولسنا في حاجة إلى سرد كل تفاصيل الحصار على العراق والعقوبات التي طبقت عليه. غير أن أهم ما في هذا السجل التاريخي أن أركان إدارة الرئيس بوش وعلى رأسهم تشيني نائب رئيس الجمهورية، ورامسفيلد وزير الدفاع، وبول وولتز نائب رئيس الدفاع، وريتشارد بيرل رئيس مجلس الأمن القومي والذي أجبر على الاستقالة أخيراً، سبق لهم أن تقدموا بمذكرة سياسية للرئيس كلينتون يطلبون فيها ضرورة غزو العراق عسكرياً، وإذا كان كلينتون - لأسباب شتى - لم يستجب للطلب، إلا أن هذه الطغمة الشريرة وجدت نفسها في كراسي الحكم بعد تولي الرئيس بوش السلطة في البيت الأبيض. وهكذا بدأوا تنفيذ مخططهم القديم، غير أن الجديد في الموضوع هو التحدي العالمي للامبراطورية والذي تمثل في المعارضة العنيدة لكل من فرنسا وألمانيا وروسيا والصين للخطة الاميركية للتدخل العسكري في العراق بتهمة حيازته لأسلحة الدمار الشامل، وقد شهدت ساحة مجلس الأمن مبارزات سياسية حامية ضد الخطط الاميركية، ومع ذلك - تطبيقاً لنزوعها الامبراطوري - أصرت الولاياتالمتحدة الأميركية على غزو العراق عسكرياً من دون شرعية دولية. واستطاعت بالطبع أن تقضي على النظام السياسي العراقي وهو نظام مغامر مارس القمع على الشعب العراقي طوال عقود وتخصص في تهديد جيرانه من دول الخليج، واتبع سلوكاً إرهابياً في التعامل مع دولة الكويت، منذ قرر غزوها وضمها إلى العراق، إلى رغبته الأخيرة إذ لم يتوقف عن تهديدها. ودخلت القوات المسلحة الاميركية إلى العراق مدعومة بالقوات البريطانية رافعة شعار "تحرير العراق"، وبلغت السذاجة بأركان إدارة الرئيس بوش أنهم ظنوا وهماً أن القوات الاميركية ستقابل بالورود باعتبارها قوات تحرير، غير أن الأحداث أثبتت أن الشعب العراقي قرر مقاومة الاحتلال الاميركي، وبغض النظر عن وصف المقاومين بأنهم فلول النظام السابق. وهكذا وقعت الولاياتالمتحدة الأميركية في المستنقع العراقي وأصبحت في حيرة من أمرها! هي تريد الانفراد بالسلطة في العراق، والاستئثار بثرواته الهائلة، والتحكم في النفط العراقي، ولكن تزايد سقوط الضحايا من بين القوات المسلحة الأميركية ومردود ذلك العكسي على الرأي العام الاميركي والرئيس بوش يستعد للولاية الثانية، أجبرها إجباراً على التماس العون الدولي. وهكذا تحرك باول وزير الخارجية في مجلس الأمن وقدم مشروع قرار لتشكيل قوة دولية بقيادة أميركية لمساعدة القوات الاميركية في مهمة احتلال العراق! غير أن الدول الأوروبية واصلت تحديها للإمبراطورية، على أساس ضرورة المشاركة الفعالة للأمم المتحدة في حكم العراق موقتاً حتى ينتهي الاحتلال وكذلك في مهمة إعمار العراق. وإذا كان الرئيس بوش اضطر إلى أن يطلب من الكونغرس اعتماداً إضافياً يزيد على الثمانين بليون دولار لمواجهة كلفة احتلال العراق، فإن ذلك من شأنه أن يزيد من عجز الموازنة الاميركية بطريقة غير مسبوقة، وقد يؤدي إلى تصاعد المعارضة السياسية الداخلية لتوجهات إدارة الرئيس بوش، وخصوصاً بعدما تبين أن حكاية أسلحة الدمار الشامل "ليس لها أي أساس، وأنها كانت بالنسبة لكل من الولاياتالمتحدة الأميركية وبريطانيا مجرد ذريعة لغزو العراق". وهكذا يمكن القول إن الولاياتالمتحدة الأميركية التي تعثرت تعثراً واضحاً في العراق، يمر مشروعها الامبراطوري بمرحلة سقوط لا شك فيها. فقد فشلت في أن تفرض إرادتها السياسية على المجتمع الدولي، وفي الوقت نفسه هناك محاولات دائمة من قبل أطراف أوروبية وآسيوية لكي تقف ضد الهيمنة الاميركية العالمية. { إنكشاف النظام العربي: ولا شك أن النزوع الامبراطوري الاميركي وما صاحبه من اتهامات للدول الإسلامية والعربية بأنها منابع للفكر المتطرف، بحكم إنسداد قنوات التعبير الديموقراطي، ومصادر الإرهاب العالمي قد ضاعف من أزمة النظام العربي. النظام العربي وخصوصاً منذ الغزو العراقي للكويت عام 1990 يمر بمرحلة تشرذم واضحة، وخصوصاً بعد سقوط نظرية "تلاشي التعرض العربي"، حين كانت إسرائيل هي المصدر الأساسي للتهديد. بعد الغزو - وحتى بعد تحرير الكويت - تحولت العراق لتصبح هي مصدر التهديد بالنسبة للدول الخليجية، التي عقدت معاهدات دفاعية مع الولاياتالمتحدة الأميركية وبريطانيا دفاعاً عن أمنها القومي. وإذا أضفنا إلى ذلك التهم التي كانت توجهها الولاياتالمتحدة الأميركية حتى قبل 11 أيلول سبتمبر لعديد من الدول العربية وخرقها لحقوق الإنسان، وعدم توافر الشروط الديموقراطية لنظمها السياسية، لأوردنا أن موقف الدول العربية حقاً ازداد سوءاً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر. فقد أعلنت الولاياتالمتحدة الأميركية أن استراتيجيتها تقوم على تجفيف منابع التطرف، والإرهاب، في الدول العربية وأن ذلك يمكن أن يتم من خلال مشروع للشراكة الأميركية العربية في مجال التطوير الديموقراطي، وخصصت الولاياتالمتحدة الأميركية ملايين الدولارات لتطبيق المشروع، ومارست ضغوطاً هائلة على عديد من البلاد العربية لفتح آفاق التطوير الديموقراطي، وتجديد الخطاب الديني، وتغيير برامج التعليم وهكذا يمكن القول إن عديداً من الدول العربية واقع الآن بين مطرقة الولاياتالمتحدة الأميركية من جانب وسندان فقدان السلطة الكلية من جانب آخر! وأيا ما كان الأمر، فيمكن القول إن محصلة هذين العامين اللذين مرا على 11 أيلول سبتمبر، تتمثل في خسارة صاخبة للولايات المتحدة الأميركية على الصعيدين الداخلي والخارجي معاً، على الصعيد الداخلي تحول المجتمع الاميركي من مجتمع مفتوح إلى مجتمع مغلق تسوده للأسف القوانين الاستثنائية التي تهدد أمن المواطن الاميركي نفسه، أياً كانت أصوله، وعلى المستوى الخارجي زادت كراهية العالم للولايات المتحدة الأميركية باعتبارها دولة إمبريالية ظالمة، تقوم سياستها على العدوان، باستخدام قوتها العسكرية الفائقة. ويمكن القول إن فشل الولاياتالمتحدة الاميركية المحتم في العراق، سيضطرها إلى الانسحاب منه، وسيكون ذلك إيذاناً بأفول المشروع الامبراطوري الاميركي، لا لشيء إلا لكونه مشروعاً يسير في اتجاه مضاد لمنطق التاريخ.. لا مستقبل لنظام عالمي تهيمن عليه قوة عظمى وحيدة ولو كانت الولاياتالمتحدة الاميركية، وإنما المستقبل المأمول يكمن في نظام عالمي تعددي، يضم في جنباته اقطاباً متعددة، في ظل قواعد جديدة تكفل الحرية والعدالة لشعوب العالم جميعاً. * كاتب ومفكر مصري