تحظى العلاقات السعودية - الاميركية بأهمية مميزة ضمن علاقات الولايات المتحدة في الشرق الاوسط. ولعقود عدة كانت السعودية نقطة ارتكاز في السياسات الاميركية. واذا كانت العلاقات السياسية بين البلدين بدأت في الثلاثينات إثر إلحاح شركات النفط الاميركية، فإها تعززت بمرور الوقت خصوصاً في عهد الرئيس الاميركي دوايت ايزنهاور في الخمسينات. منذ تلك الفترة وحتى وقوع احداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر 2001 حافظت الشراكة السعودية - الاميركية على صلابتها واجتازت اختبارات عديدة غير انه بعد احداث الحادي عشر من ايلول بدا واضحاً ان تلك الشراكة بدأت تنفك تدريجاً، ولا يعود الامر الى مشاركة عدد من السعوديين في تنفيذ هجمات الحادي عشر من ايلول، وانما له صلة مباشرة بالتغيرات الدولية السابقة لتلك الاحداث واللاحقة لها. هذه الدراسة تتناول تاريخ العلاقات السعودية - الاميركية بشكل عام مشيرة الى الاهمية الاستراتيجية للسعودية صعوداً وهبوطاً عند الولايات المتحدة. ولقد اعتمدت في اعداد هذه الدراسة على بعض الوثائق الخاصة بوزارة الخارجية الاميركية. في كانون الثاني يناير عام 1956 كتب رئيس الوزراء البريطاني انتوني ايدن رسالة إلى الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور يشتكي فيها من "الدور السعودي" في الشرق الأوسط. قال ايدن في رسالته: "اعتقد ان من الواجب ان اتخاطب معك حول الوضع في الشرق الاوسط والذي يتطور بسرعة". وتحدث ايدن عن "الأموال السعودية" قائلاً انها "تدعم صحفاً في سورية والأردن ولبنان" وان بعض تلك الصحف "يسارية بشدة وشيوعية او قريبة من الشيوعية". ثم أشار ايدن الى جهود سعودية مصرية سورية لفك ارتباط الأردنببريطانيا من خلال تقديم دعم مالي بالتعاون مع الاتحاد السوفياتي. وختم ايدن رسالته بتحذير ايزنهاور من مغبة وقوع الشرق الأوسط برمته في احضان الشيوعية، وشدد على ضرورة منع ذلك من خلال دعم "الأصدقاء" في الأردنوالعراق، وعلى أهمية"ايجاد ضوابط لاستخدام الأموال السعودية، ومنع السعوديين من اللعب على الورقة الروسية"، مضيفاً انه "اذا استمر السعوديون بصرف أموالهم والتصرف على هذا النحو، فلن يبقى شيء لغير الدب" ويعني الاتحاد السوفياتي. ورداً على رسالة ايدن تم اعداد خطاب من ايزنهاور تشير مسودته الى "ادراك الولايات المتحدة للمشكلة" وانه "من الحيوي تقوية النفوذ الغربي في السعودية اذا كنا نريد النجاح في اقناع السعوديين باستخدام اموالهم لاغراض أفضل"، غير ان الخطاب لم يرسل. كانت بريطانيا في ذلك الوقت تواجه مشاكل عديدة في الشرق الاوسط قبل رحيلها عن المنطقة، كما كانت خلافاتها مع السعودية تتصاعد بسبب مشكلة واحة البريمي. ولذلك فقد سعت بريطانيا الى محاولة تحجيم الدور السعودي المناهض لها ولمصالحها، فيما كانت الولايات المتحدة تسعى الى تثبيت أقدامها في الشرق الاوسط عبر بوابة السعودية، حيث كانت العلاقة السعودية - الأميركية تتعزز منذ بدأت ايام الملك عبدالعزيز. وفيما تحاول بريطانيا اقناع الولايات المتحدة بأهمية "اتباع سياسة متشددة" تجاه المملكة فإنها كانت تصف النظام السعودي بأنه "فاسد ومتخلف ومعاد للغرب"، كما جاء على لسان الديبلوماسي البريطاني شكبروه اثناء مباحثات له مع مسؤولين في الخارجية الأميركية قبيل زيارة رئيس الوزراء البريطاني إيدن إلى الولايات المتحدة بداية عام 1956. غير ان الولايات المتحدة لم تكن ترى ضرورة للمنهج المتشدد حيال السعودية، وقد عبر عن ذلك الرأي مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى اذ أورد في مذكرة مؤرخة 17/1/1956 "ان البريطانيين غير قادرين على استيعاب ان وضعهم في الخليج يتضمن صيغة امبريالية، وهم يكررون القول ان نصائحهم ودعمهم لشيوخ الخليج وسلطان مسقط مرغوب فيه من جانب هؤلاء"، وذكر انه أوضح للديبلوماسي البريطاني "ان القوميين العرب يعتبرون الوجود البريطاني في الخليج والأردن وجودا امبريالياً" مضيفاً "ان علينا ان نواجه حقائق الحياة والاقرار بأننا لسنا في القرن التاسع عشر" وموضحاً انه لم يكن راغباً في التلميح بأن الولايات المتحدة ترغب في مغادرة بريطانيا الخليج اليوم او غداً، "لكن لا جدوى من التظاهر بأن الشيوخ الذين يرحبون بالدعم البريطاني ملائكة وان كل من يعارضونه شياطين". بالطبع لم تأخذ الولايات المتحدة هذا الموقف الذي يبدو الآن "عقلانياً" من باب انصاف السعودية ولا ممارسة لدور الحكيم بقدر ما كانت مصالحها في الخليج ومخاوفها من نجاح الشيوعية في التغلغل في الشرق الأوسط تفرض عليها التقارب مع السعودية، لقد صاغت تلك المصالح والمخاوف المرتبطة بالنفط جانباً مهماً من المبادىء الرئيسية التي قامت عليها السياسة الأميركية في الشرق الاوسط منذ عام 1957 وحتى سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991. كما ان مصالح ومخاوف السعودية ايضاً دفعتها الى تعزيز علاقتها بالولايات المتحدة. كانت السعودية تتنازع مع بريطانيا للسيطرة على واحة البريمي، كما كانت تسعى الى الحصول على وضع أفضل في مفاوضاتها مع الولايات المتحدة بشأن قاعدة الظهران، وتريد بالطبع ابعاد شبح الشيوعية عن شبه الجزيرة، كما كانت تحاول منع امتداد القومية العربية، وتريد ايضاً تطوير الخدمات الأساسية لمواطنيها وضمان عائد مناسب لبيع النفط. لقد بدأت العلاقات السعودية - الأميركية قبل تلك الفترة حين طلبت شركات النفط الأميركية العاملة في السعودية من واشنطن ممارسة دور أكبر لضمان الأمن والاستقرار السياسي في الخليج وهو ما دفع الرئيس الأميركي روزفلت عام 1943 الى الاعلان بأن الدفاع عن المملكة يمثل "مصلحة حيوية للولايات المتحدة" ثم قام بإرسال اول بعثة عسكرية أميركية الى السعودية والتقى في عام 1945 بالملك عبدالعزيز على ظهر باخرة في قناة السويس وهو اللقاء الذي "دشن" العلاقات الأميركية - السعودية، ومهما تكن أهمية مرحلة "التأسيس" في تلك العلاقات فإن الاستراتيجية التي أعلنها الرئيس ايزنهاور في كانون الثاني يناير من عام 1957 شكلت بداية "الشراكة السياسية" بين السعودية والولايات المتحدة، وهي الشراكة التي يبدو انها بدأت تنفك الآن! قبيل خروج بريطانيا من الشرق الاوسط، ومع تعاظم المد الشيوعي واكتشاف المزيد من حقول النفط في الخليج، وقيام ثورة تموز يوليو 1952 في مصر وظهور حركة القوميين العرب، كان لزاماً على الولايات المتحدة ان تحدد سياستها تجاه الشرق الاوسط، فأصدر الرئيس ايزنهاور في يناير عام 1957 ما عرف ب Eisenhower Doctrine اي "عقيدة ايزنهاور" وهي تتضمن المبادىء الرئيسية التي تقوم عليها سياسة الولايات المتحدة في الشرق الاوسط، وقال ايزنهاور في وثيقته التي قدمها الى الكونغرس: "ان الشرق الاوسط يمر بمرحلة جديدة حرجة في تاريخه المهم الطويل" ثم تحدث عن الخطر الشيوعي وأطماع الاتحاد السوفياتي في الشرق الاوسط، واضاف ان الامم الحرة في الشرق الاوسط تحتاج وتريد قوة مضاعفة لصيانة استقلالها. وحدد ايزنهاور العناصر الرئيسية التي تقوم عليها وثيقته ومن بينها: مساعدة ومعاونة اي دولة او مجموعة دول في الشرق الاوسط لتطوير الاقتصاد... اطلاق برامج المساعدات العسكرية... ارسال قوات اميركية لحماية حدود واستقلال دول الشرق الاوسط التي تطلب المساعدة. لقد كانت "الحرب ضد الشيوعية وتأمين تدفق النفط" عصب السياسة الاميركية حتى عام 1991. ونظراً الى موقع السعودية واهميتها السياسية في الخليج ونظراً الى ضخامة انتاجها ومخزونها النفطي، فإنها الشريك الذي لا بد منه. تعاقبت الادارات الاميركية وتولى رئاسة الولايات المتحدة رؤساء من الحزب الجمهوري وآخرون من الحزب الديموقراطي، بعد ايزنهاور الجمهوري جاء كينيدي الديموقراطي ثم جونسون الديموقراطي ثم نيكسون وفورد الجمهوريان، ثم كارتر الديموقراطي ثم ريغان الجمهوري لفترتين ثم بوش الاب وهو جمهوري ايضاً، ولم تتغير المبادىء الرئيسية للسياسة الاميركية في الشرق الاوسط واستمرت الشراكة السعودية - الاميركية مجتازة اختبارات صعبة اقليمية ودولية مثل حربي 1967 و1973 وتداعياتهما كما تعززت تلك الشراكة في مواجهة مهمات وحروب اخرى مثل مواجهة الاحتلال السوفياتي لأفغانستان وجهود طرده منها التي استخدم فيها الطرفان اسامة بن لادن، والحرب العراقيةالايرانية التي دعم خلالها الطرفان صدام حسين، وحرب تحرير الكويت. كما واجهت الشراكة السعودية - الاميركية كل مراحل القضية الفلسطينية، وعلى رغم تباعد مواقفهما إلا أن الانحياز الاميركي لاسرائيل والحماس السعودي للفلسطينيين لم يتسبب في فك الشراكة. يعتقد بعض المحللين ان احداث الحادي عشر من ايلول 2001 ونتائجها هي المسؤولة عن الارتباك الحالي في العلاقات السعودية - الاميركية، وان تبعات تلك الاحداث ستقود الى اعلان نهاية شراكة سياسية امتدت لما يقارب سبعين عاماً. فهل هذا صحيح؟ هل للامر علاقة ب"الاموال السعودية" التي اشتكت منها بريطانيا عام 1956 ولم تتجاوب معها الولايات المتحدة؟ ام ان المسألة تعود الى النظام السعودي "الفاسد المتخلف المعادي للغرب" كما كان يصفه الانكليز في الخمسينات فتحالفت معه الولايات المتحدة؟ وهل المطلوب اتباع سياسة اميركية "متشددة" تجاه السعودية وهو ما طلبته بريطانيا عام 1956 ورفضته الولايات المتحدة من باب "مواجهة حقائق الحياة"؟ ان محاولة الاجابة على تلك الاسئلة مسألة صعبة، غير انه لا بأس من "مواجهة حقائق الحياة" مرة اخرى، فقد تساعد تلك المواجهة على معرفة ما يحصل. كان الرئيس ايزنهاور قد صمم برنامجه لمواجهة الخطر الشيوعي مرتكزاً الى استباق الاحداث، اذ لم يكن يرغب في الانتظار ريثما يبلع الدب الروسي احدى دول الشرق الاوسط كي يتحرك وانما سعى الى تأمين السيطرة الاميركية من خلال ارسال قوات الى الشرق الاوسط واقامة قواعد عسكرية، كما انه اراد عبر برنامجه مساعدة دول في الشرق الاوسط للنهوض اقتصادياً او تقديم مساعدات مالية لها، ولم يتم ربط اي من ذلك بالاوضاع الداخلية للدولة المتلقية، ولم تكن الولايات المتحدة تكترث بطبيعة الانظمة الحاكمة ديكتاتورية كانت ام ديموقراطية، وبالطبع لم تكن هناك دولة واحدة ديموقراطية! ان المهم لدى الولايات المتحدة هو تعاون تلك الانظمة معها في مواجهة الشيوعية وتأمين مصالحها النفطية. ولقد كانت السعودية نقطة ارتكاز مهمة في السياسة الاميركية في الشرق الاوسط فهي دولة معادية للاتحاد السوفياتي وغنية بالنفط وتقدم تسهيلات عسكرية للولايات المتحدة. ولم يتغير الامر كثيراً بعد تولي كنيدي رئاسة الولايات المتحدة عام 1960 اذ عمل هو وجونسون ضمن الاطار نفسه، غير ان الأحداث الدولية والاقليمية في نهاية الستينات وطوال السبعينات كان لها اثر كبير في سياسة الولايات المتحدة في الخليج، وكانت تلك الاحداث تعزز دور السعودية تارة وتخفضه تارة اخرى. ففي كانون الثاني يناير من عام 1968 اعلن رئيس الوزراء البريطاني هارولد ويلسون اعتزام بريطانيا الانسحاب من الخليج بحلول نهاية عام 1971 وبهذا الاعلان اصبح الطريق ممهداً امام الولايات المتحدة لأخذ زمام المبادرة او الجلوس في مقعد القيادة بدلاً من تقديم الدعم لبريطانيا، ولذلك كان لا بد للولايات المتحدة من ان تعيد صياغة سياساتها في الشرق الاوسط خصوصاً ان هناك تخوفاً من قيام الاتحاد السوفياتي بملء الفراغ الذي تخلفه مغادرة الانكليز. ومع استمرار ثبات اهداف السياسة الاميركية في الشرق الاوسط المتمثلة في ضمان تدفق النفط ومنع وصول الروس الى الخليج، اعدت ادارة الرئيس الاميركي نيكسون استراتيجية تقوم على اساس دعم عسكري قوي لايران والسعودية في نفس الوقت، ويعود سبب هذا الدعم الى ان نتائج التدخل العسكري الاميركي في فيتنام لم تكن مشجعة للتدخل في منطقة اخرى ولم يكن الرأي العام الاميركي يقبل بتدخل جديد، لذلك رأت ادارة نيكسون ضرورة تأهيل ايران والسعودية عسكرياً للقيام بمهمات الدفاع عن الخليج حال ظهور الحاجة مع استعداد الولايات المتحدة لتقديم اسناد بحري وجوي وتقليص مشاركة القوات البرية، وقد عرفت هذه السياسة ب Twin pillar. كانت ايران في ذلك الوقت تحظى بأفضلية على السعودية وكان شاه ايران يرغب في القيام بدور "شرطي الخليج"، ولشرح هذه السياسة حدد مساعد وزير الخارجية الاميركي جوزيف سيسكو امام الكونغرس في آب اغسطس 1972 ست نقاط: دعم التطور السياسي في المنطقة، دعم الحكومات القائمة للحفاظ على استقلالها مع تشجيعها على التعاون الاقليمي، المساعدة في تحديث الجيشين السعودي والايراني لتأهيلهما للدفاع عن بلديهما ورعاية امن الخليج، تكثيف الوجود الدبلوماسي الاميركي، الابقاء على قوة بحرية صغيرة في البحرين تقوم بزيارة موانئ الخليج كرمز للاهتمام الاميركي. ولقد كانت الولايات المتحدة ترغب في رؤية نتائج دمج الاموال السعودية بالقوة العسكرية الايرانية. وعلى رغم نشوب حرب تشرين الاول اكتوبر 1973 وقطع امدادات النفط من الخليج فإن الاهمية الاستراتيجية للسعودية لم تتأثر بل أنها أصبحت اكثر اهمية وهو ما دفع الولايات المتحدة الى تعزيز وجودها العسكري في المحيط الهندي في قاعدة دييغو غارسيا. ومنذ عام 1979 دفعت الاحداث العلاقات السعودية - الاميركية الى المزيد من الارتباط. ففي ذلك العام سقط شاه ايران وخسرت الولايات المتحدة حليفاً مهماً، وجاء الخميني مع شعار تصدير الثورة الاسلامية، كما نشبت حرب محدودة بين اليمن الجنوبي الموالي للاتحاد السوفياتي واليمن الشمالي القريب من السعودية والولايات المتحدة، ثم قام الروس بغزو افغانستان، وبعدئذ في عام 1980 بدأت الحرب العراقية - الايرانية. كان الرئيس كارتر قد اعدّ استراتيجية جديدة في السنة الاخيرة لرئاسته في ضوء تلك المتغيرات وقد عززت تلك الاستراتيجية دور السعودية. لقد اوضح كارتر في عام 1980 ان اي محاولة من قبل قوة خارجية للسيطرة على الخليج سوف تعتبر اعتداء على المصالح الحيوية للولايات المتحدة وان هذا الاعتداء سيردع بأي وسيلة بما فيها القوة العسكرية وكانت هذه رسالة واضحة للاتحاد السوفياتي. وازاء هذه التطورات رأت ادارة الرئيس كارتر ضرورة الاستعداد لاحتمالات التدخل العسكري المباشر في الخليج فتم انشاء قوات التدخل السريع لمواجهة اي نزاع عسكري طارىء وتم ارسال طائرات "اواكس" الى السعودية. وحين تسلم الرئيس ريغان رئاسة الولايات المتحدة عام 1980 ومع الاحتلال السوفياتي لأفغانستان اصبح الخطر السوفياتي هو الشغل الشاغل للإدارة الاميركية، وسعت تلك الإدارة الى حفز دول الخليج للتحالف معها في مواجهة الاتحاد السوفياتي، واصبحت السعودية في هذه الفترة نقطة ارتكاز مهمة لتنفيذ السياسة الاميركية في الخليج فازدادت مبيعات السلاح والمساعدة العسكرية والتمرينات المشتركة، كما اعيد تشكيل قوات التدخل السريع لضمان نجاحها - حين يلزم الامر - في تأمين تدفق النفط ومنع الروس من الوصول الى المنطقة. كما تحددت اهداف عملية لتلك القوات وهي الدفاع عن السعودية وضمان بقاء مضيق هرمز مفتوحاً وعدم توسع الحرب العراقية - الايرانية. ومع استمرار تلك الحرب وبدء "حرب الناقلات" ازداد التعاون الاميركي - السعودي الداعم للعراق وقد كانت استراتيجية الدعم تقوم على عدم السماح لأي من الطرفين بتحقيق الانتصار، فيما كان التعاون السعودي - الاميركي في افغانستان يستهدف حتما طرد الروس. بعد انتهاء الحرب العراقية - الايرانية وانحسار الخطر السوفياتي واجهت العلاقات السعودية - الاميركية اختباراً كبيراً تمثل في الغزو العراقي للكويت في آب اغسطس عام 1990 وتعززت الشراكة بين البلدين في حرب تحرير الكويت في عهد الرئيس جورج بوش واستقبلت السعودية 400000 جندي اميركي، ومن اراضيها انطلقت حرب التحرير. غير ان وجود القوات الاميركية في السعودية سلط الاضواء على الاوضاع الداخلية في المملكة في وسائل الاعلام الاميركية. وعلى رغم انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 وزوال خطر الشيوعية، فإن السياسة الاميركية اعتبرت استمرار تدفق نفط الخليج مصلحة حيوية بالنسبة اليها، واحتفظت السعودية بأهميتها في عهد الرئيس كلينتون - أول رئيس اميركي بعد انتهاء الحرب الباردة - اذ ان السياسة التي تبنتها ادارة كلينتون في الخليج تتطلب دعماً هائلاً من "الاصدقاء" في المنطقة. اعتمد كلينتون على سياسة "الاحتواء المزدوج" لايرانوالعراق وكذلك العقوبات الاقتصادية، وكي تنجح مثل هذه السياسة لا بد من وجود قوات عسكرية قريبة تحقق عنصر الردع ولا بد ايضاً من تعاون الدول المحيطة بإيرانوالعراق لنجاح العقوبات الاقتصادية، واذا كان الخطر الشيوعي قد زال فإن طبيعة النظامين الايرانيوالعراقي جعلت احتمال عدم استقرار الخليج امراً جدياً. وعلى رغم قيام تنظيم "القاعدة" التابع لاسامة بن لادن بعمليتي تفجير سفارتين اميركيتين في كينيا وتنزانيا والرد الاميركي بقصف معسكرات القاعدة في السودان وافغانستان، الا ان العلاقات الاميركية - السعودية لم تتأثر الى ان وقعت احداث الحادي عشر من ايلول 2001. من الخطأ الاعتقاد بأن انتماء عدد كبير من منفذي احداث هجمات الحادي عشر من ايلول الى الجنسية السعودية هو سبب الخلل الذي يشوب العلاقات الاميركية - السعودية حالياً، كما ان من الخطأ الاعتقاد بأن الاوضاع الداخلية للمملكة هي السبب، فهذه الاوضاع هي بلا شك أفضل مما كانت عليه في العقود الاربعة الماضية. ان مصالح الولايات المتحدة الحيوية هي التي تصوغ سياساتها، وقد حدث تبدل جذري في "مصادر الخطر" على تلك المصالح واستتبع الامر تبدل جذري في السياسات. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 زال الخطر الذي صاغ سياسات الولايات المتحدة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولقد رأينا في العرض السابق اثر ذلك الخطر على العلاقات الاميركية في الشرق الاوسط عموماً وفي الخليج، واذ انشغلت ادارة الرئيس كلينتون في الفترة بين 1992 الى 2000 بدول اوروبا الشرقية من جهة وبمحاولة احتواء إيرانوالعراق من جهة أخرى، فإنها غفلت عن تحديد "مصادر الخطر" المحتملة والمتمثلة في الجماعات الاسلامية المتشددة، ولم تتمكن تلك الادارة من صوغ استراتيجية جديدة للشرق الاوسط لفترة ما بعد الحرب الباردة. وإذ لم تكن سياسات الرئيس بوش تجاه الشرق الأوسط قد توضحت بعد حين وقعت احداث الحادي عشر من ايلول، فقد صاغت تلك الاحداث سياسات الرئيس بوش الابن تجاه المنطقة. ولعله من الجدير ملاحظة ان عوامل نفسية تحكمت الى حد بعيد في صياغة تلك السياسات، فالهجمات اصابت الكبرياء الأميركية في مقتل. ورغم ان الرد الأميركي على تلك الهجمات بدا سريعاً عبر حرب أفغانستان، الا ان الرد الحقيقي والأهم تجسد في استراتيجية الرئيس بوش التي أعلنها في ايلول عام 2002، ان فهم تلك الاستراتيجية والأفكار التي تستند إليها هو أفضل وسيلة لفهم مصدر الخلل الحالي في العلاقات الأميركية - السعودية. فتلك الأحداث هي التي حفزت الادارة الأميركية لصياغة سياسة جديدة تجاه الشرق الأوسط لحماية مصالحها. تنطلق استراتيجية الرئيس بوش من حقيقة فرضتها أحداث الحادي عشر من ايلول وهي أن "أمن" الولايات المتحدة وليس "مصالحها" فقط يأتي من الشرق الأوسط، أو كما قال مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى وليام بيرنز "في الشرق الأوسط يعيش أقرب الأصدقاء لنا، ويوجد ثلثا احتياط النفط العالمي. ومنه جاء ارهابيو الحادي عشر من ايلول"... وتسعى الاستراتيجية إلى ضمان أمن الولايات المتحدة الداخلي عبر تجفيف منابع الخطر فيما وراء البحار، وتعتبر الاستراتيجية الارهاب الدولي العدو الأول الذي حل محل الخطر الشيوعي. بل انها تعتبر الارهاب الدولي أكثر خطراً، فأحداث الفوضى والألم في الولايات المتحدة لا يحتاج كما تقول الاستراتيجية أكثر من "شبكات مستترة من الأفراد... وبثمن يقل عن ثمن شراء دبابة واحدة". وإذ تشرع الاستراتيجية في بيان عناصر "القوة الأميركية" المتوفرة في الترسانة العسكرية فإنها تحذر الدول التي تساند الارهاب وتقول: "سوف تحاسب الولايات المتحدة الدول التي تتورط في الارهاب من ضمنها تلك التي تمنح ملاذاً آمناً للارهابيين لأن حلفاء الارهاب هم أعداء الحضارة". وتؤكد الاستراتيجية أن "على الولايات المتحدة أن تدافع عن الحرية والعدالة لأن هذه المبادئ حق وصواب لجميع الشعوب أينما كانت، ولا تملك هذه الطموحات دولة واحدة، كما ما من دولة مستثناة منها وتشير الاستراتيجية إلى التوحيد بين القيم والمصالح الأميركية، وتذهب إلى حد اعلان أن الولايات المتحدة سوف تشن "حرب أفكار لكسب المعركة ضد الارهاب الدولي" وإنها سوف تدعم الحكومات المعتدلة والعصرية في العالم الاسلامي "لنضمن ألاّ توفر الظروف والعقائد التي يروجها الارهابيون أرضاً خصبة في أي دولة". وباختصار شديد يمكن القول إن الادارات الأميركية المتعاقبة وحتى سقوط الاتحاد السوفياتي لم تكن معنية كثيراً بالشؤون الداخلية للدول الحليفة لها طالما أن علاقاتها مع الأنظمة الحاكمة "مريحة" وطالما كانت تلك الأنظمة "تراعي" المصالح الأميركية. وكثيراً ما كانت الإدارة الأميركية تغض النظر عن تجاوزات تلك الأنظمة في مجال حقوق الانسان بل إنها كانت تحث تلك الأنظمة بحجة مكافحة الشيوعية على قمع الحركات الشعبية التي تطالب بالانفتاح السياسي... لقد كان ضمان تدفق المصالح الأميركية يتطلب دعم الأنظمة المناهضة للاتحاد السوفياتي... أما بعد أحداث الحادي عشر من ايلول فقد أصبح ضمان "أمن ومصالح" الولايات المتحدة يتطلب فرض القيم الأميركية حتى أن الكويت التي حررتها الولايات المتحدة من قوات صدام حسين عام 1991 لم تتعرض في السنوات العشر اللاحقة إلى ضغط أميركي لتعديل سياستها الداخلية بقدر ما تعرضت له بعد الحادي عشر من ايلول. في 8 تشرين الثاني نوفمبر 2002 ألقى مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى وليام بيرنز خطاباً مهماً في مجلس الشؤون العالمية في بليتمور في ولاية ماريلاند قال فيه إن "الحقيقة المجردة هي أن الشرق الأوسط الغارق في مستنقع النزاعات الداخلية يشكل تهديداً للشعب الأميركي". ويضيف متحدثاً عن الاصلاح السياسي والاقتصادي في دول الشرق الأوسط فيقول: "بالنسبة الى الولايات المتحدة من مصلحتنا العميقة تشجيع هذه التغييرات الهيكلية طويلة الأجل... تقع معظم هذه التحديات خارج سيطرتنا لكن لا واحدة منها تبقى خارج نطاق نفوذنا"! ولعل من المهم جداً التمعن في محتويات خطاب آخر ألقاه وليم بيرنز في مايو 2003 شارحاً جانباًً من أجندة العمل الأميركية طبقاً لاستراتيجية الرئيس بوش. لقد حدد بيرنز في خطابه المهم أربع نقاط ذات أهمية خاصة في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، أولها: اعطاء "تحدي تحقيق انفتاح الأنظمة السياسية في المنطقة أولوية". ويقول شرحاً هذه النقطة: "لقد التحقت بالسلك الديبلوماسي الأميركي قبل واحد وعشرين عاماً وخدمت في عهد أربع ادارات وأمضيت معظم ذلك الوقت في العمل على قضايا شرق أوسطية، والقول بإننا لم نولِ اطلاقاً اهتماما كافياً لما ينطوي عليه تحقيق انفتاح بعض الأنظمة السياسية المتجمدة على المدى الطويل من أهمية خاصة في العالم العربي، هو انتقاد منصف لجميع جهودنا خلال تلك السنوات"، ويضيف أن تحقيق الانفتاح السياسي "ليس مجرد مسألة قيم أميركية أو ضمان حقوق الإنسان الأساسية... إنه أيضاً مسألة مصالح أميركية واقعية" ثم يقول إن "الاستقرار ليس ظاهرة جامدة لا متغيرة، والأنظمة التي لا تجد سبلاً للتكيف مع تطلعات شعوبها إلى المشاركة ستصبح أنظمة هشة قابلة للاحتراق" ثم يؤكد بعد ذلك أن الشرق الأوسط "لا يتمتع بأي حصانة من هذه الحقيقة تميزه عن أي جزء آخر في العالم" وان بعض الأنظمة العربية ستجد صعوبة في التغيير "وقد لا يتقدم بعضها إلى الحد الكافي بالسرعة الكافية وقد لا يبذل بعضها محاولة جاهدة على الإطلاق وهذه هي الأنظمة التي يرجح انضمامها أكثر من غيرها إلى صفوف الدول الفاشلة حول العالم"، ثم يشير بيرنز إلى أن الرئيس بوش يعتقد بأن "من مصلحتنا جداً في الأمد الطويل أن ندعم التغيير الديموقراطي" مؤكداً أن هذا التغيير ليس "مجرد تغيرات سطحية أو تجميلية أو تغيرات يتم تأجيلها بشكل مستمر... بل هي تغير حقيقي". وفي سبيل تحقيق هذا "التغير الحقيقي" أعدت إدارة الرئيس بوش برامج مفصلة ضمن "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط" وهي برامج تندرج تحت عناوين الاصلاح السياسي والاصلاح الاقتصادي والاصلاح التعليمي. إدارة الرئيس بوش ترى أن "الارهاب الدولي" هو الخطر الرئيسي على أمن الولايات المتحدة ومصالحها، او بعبارة أكثر صراحة هو "الإرهاب الإسلامي" لذلك فهي عازمة على تغيير البيئة التي تعتقد أن هذا الإرهاب يزدهر فيها. إن الخلل القائم حالياً في العلاقات السعودية - الاميركية هو نتاج تغير المعادلات السياسية الدولية والإقليمية تغيراً جذرياً.. فقد سقط الاتحاد السوفياتي وزال خطر الشيوعية، واندثر القوميون العرب، وبرزت الجماعات الإسلامية، وزال نظام صدام حسين، وايران تحت الاحتواء الأميركي. والعراق ونفطه تحت الاحتلال الأميركي، فيما يتنامى خطر "الإرهاب الإسلامي" الذي وصل الأراضي الأميركية... كل هذه المتغيرات لا بد أن تهزّ المبادىء التي قامت عليها السياسة الأميركية في الشرق الأوسط منذ عهد الرئيس إيزنهاور وهو العهد الذي بدأت فيه الشراكة الأميركية - السعودية... ووسط هذه المتغيرات الجذرية بدأ يُنظر الى السعودية لا كركيزة أساسية للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط وانما ك "ساحة تغيير". تغيرت القيمة الاستراتيجية للدور السياسي السعودي وإن استمر النفط في الحفاظ على أهميته غير أنه فقد قيمته وسط هذه المتغيرات كأداة سياسية مؤثرة في العلاقات الأميركية - السعودية، ويمكن للنفط العراقي أن يحد كثيراً من أي "استخدام سياسي" للنفط السعودي. لقد تغيرت المعادلات وتجري الآن صياغة معادلات بديلة. لم تعد الولايات المتحدة بحاجة إلى استخدام الأراضي السعودية لتأمين وجودها العسكري أمام "الاندفاع" القطري و"الاستعداد" الكويتي و"التبرع" البحريني هذا في حال الانسحاب من العراق. وتحتاج المملكة إلى إعادة صياغة سياساتها الداخلية والخارجية للتأقلم مع المتغيرات الدولية والإقليمية. والسؤال الذي يطرح نفسه هو ماذا تملك المملكة من أدوات التغيير؟ على المستوى الداخلي "فأهل مكة أدرى بشعابها" لكن المؤكد هو أن المسافة الفاصلة بين الشأن الداخلي والشأن الخارجي تقلصت كثيراً، وأعتقد أن صياغة سعودية رسمية وشعبية لمشروع تطوير سياسي حقيقي في المملكة أفضل بكثير من الاكتفاء بمقاومة مشروع الإصلاح الأميركي من دون تقديم بديل، فلن يكون في مقدور السلطات السعودية مواجهة الضغط الأميركي من دون مشاركة فاعلة تلقائية من الشعب السعودي ذاته في مقاومة هذا الضغط. أما على الصعيد الخارجي فالشيوعية لن تستيقظ والحرب الباردة لن تتجدد، وزيارة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد السعودي إلى موسكو والزخم الذي رافقها، وحاجة روسيا إلى "الأموال السعودية"، لن تعيد للمملكة أهميتها الاستراتيجية السابقة حتى لو انضمت روسيا إلى منظمة المؤتمر الإسلامي. ولا يمكن إعادة عبدالناصر إلى حكم مصر ولا يكفي عرقلة الاعتراف العربي بمجلس الحكم العراقي لإجبار الولايات المتحدة على التراجع عن سياساتها تجاه الشرق الأوسط. إن الأوراق المتاحة أمام السعودية لموازنة علاقاتها مع الولايات المتحدة غير مؤثرة، فالأنظمة العربية جميعها وبلا استثناء تتسابق لدرء الغضب الأميركي، ودول الخليج التي كانت تتبع المملكة أصبحت تجتهد في "التماس العذر من الشقيقة الكبرى" بعدما كسرت قطر الحاجز النفسي في استقلالية القرار، كما أن التيار الشعبي العربي الأقوى في معاداته للولايات المتحدة هو التيار الإسلامي لكن المملكة تدرك أن من الخطورة بمكان استمرار دعم هذا التيار واستخدامه في هذه الفترة بالذات كما فعلت مع القوميين العرب، فهذا التيار ليس تنظيرياً ويصعب التحكم به. وهكذا فليس امام المملكة سوى مكانين للتحرك والمناورة بعيداً عن شؤونها الداخلية... العراقوواشنطن. "فالاموال السعودية" يمكن أن تلعب دوراً مهماً هنا وهناك! أما من جانب الولايات المتحدة فإن إدارة الرئيس بوش لا بد أنها تدرك الآن بعد تجربتها القصيرة في العراق أن "الحماس" عند صياغة الخطط والبرامج ورسم السياسات لا يكفي لضمان تحقيق الاهداف. بل قد يتسبب الحماس في الصياغة إلى اندفاع غير محسوب عند التنفيذ... إن سهولة إسقاط نظام صدام حسين لا تعني أن إعادة بناء العراق وتحويله إلى "الدولة النموذج" أمر سهل بدوره... كما أن القدرة على "فرض" الإصلاح السياسي لا تعني أن النتائج ستكون مذهلة حتماً. أليست استراتيجية الرئيس بوش موجهة أساساً للتعامل مع "أدوات ونتائج" السياسة الأميركية في السنوات السابقة! إن صدام حسين و"طالبان" وبن لادن أيضاً كانوا في يوم ما أدوات أميركية. في كانون الثاني عام 1956 طالبت بريطانيا الولايات المتحدة اتباع سياسة متشددة ضد السعودية وقد تم عقد عدة اجتماعات في واشنطن بين مسؤولين بريطانيين وأميركان لمناقشة هذه المسألة.. وتعليقاً على الإلحاح البريطاني كتب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى مذكرة إلى رئيسه قال فيها: "The British desire to show firmness is probably shared by many people. our view is that we should be careful not to exert more pressure than the traffic will bear". وهنا الترجمة: "ربما يشارك اناس كثيرين الرغبة البريطانية في التشدد. وجهة نظرنا اننا ينبغي أن نكون حذرين، فلا نمارس ضغطاً أكثر مما يمكن تحمله"... الولايات المتحدة بحاجة اليوم إلى التمعن جيداً في محتوى تلك المذكرة... فلا يبدو أن أحداً يحسب النتائج المحتملة. * رئيس تحرير "الوطن" الكويتية والطبعة العربية من "نيوزويك". والمقال ينشر بالتزامن مع "الوطن".