لم تتوقف واشنطن طوال السنتين الماضيتين عن مطاردة تنظيم "القاعدة" أينما وجد. لكنها، مع استتباب الأوضاع لمصلحتها في أفغانستان، بدأت تدرس استراتيجية بعيدة المدى للتعامل مع موضوع الإرهاب تقوم على أساس تغيير أنظمة "ديكتاتورية" في الشرق الأوسط وإحلال أنظمة "ديموقراطية" محلها. وهكذا جمعت معادلة أميركية بسيطة نقيضين أيديولوجيين - نظام بعثي في بغداد و"قاعدة" إسلامية تُكفّره. تزامن حديث الأميركيين عن صلة بغداد ب"القاعدة" مع اعتبار بعض مسؤوليهم ان المغامرة الأفغانية التي أثمرت نظاماً جديداً موالياً لهم، يمكن تصديرها الى دول أخرى. قال هؤلاء أن "الانتصار" في أفغانستان حرم "القاعدة" قاعدتها الخلفية، لكنه وحده لا يكفي لضمان أمن أميركا من عمليات جديدة "رهيبة" قد يقوم به تنظيم أسامة بن لادن. أشاروا الى المعلومات التي كانوا يحصلون عليها من تحقيقاتهم مع عناصر "القاعدة" وتحليلهم الوثائق التي صادروها في أفغانستان، اكتشفوا ان "القاعدة" أجرت اختبارات على مواد كيماوية وربما بيولوجية في معسكراتها الأفغانية خصوصاً على مادة "الرايسين" أو سم الخروع. كذلك عرف الأميركيون ان عناصر "القاعدة" درسوا إمكان ضرب الطائرات التي خططوا لخطفها في أميركا في هجمات 11 سبتمبر في مفاعلات نووية، قبل استقرار أمرهم على برجي مركز التجارة في نيويورك ومبنى "البنتاغون" قرب واشنطن وربما مبنى "الكابيتول" لو لم تسقط الطائرة الرابعة التي قادها زياد الجراح في بنلسفانيا. زادت هذه المعلومات مخاوف المسؤولين الأمنيين الأميركيين من ان "جنون القاعدة" قد يقودها الى القيام بما لا يُمكن تخيّله. وزاد هذا الخوف بعد اكتشفاهم ان "القاعدة"، على رغم كل الضربات التي تعرضت لها، ما زالت تدرس عمليات تتسبب في قتل جماعي للأميركيين، مثل تفجير "قنبلة قذرة" "قنبلة إشعاعية" داخل اميركا، وربما في مدينة بالغة الكثافة السكانية مثل شيكاغو ولاية إيلينوي. وقد تحققوا مع هذه "الفكرة" بعدما اعتقلوا، في أيار مايو 2002، أميركياً يدعى خوسيه باديلا عبدالله المهاجر كان على اتصال مع قياديين في "القاعدة" في باكستان. وجاءت قضية "القنبلة المشعة" مع تواتر معلومات، خلال تلك الفترة، عن انتقال عناصر مرتبطة ب"القاعدة" الى العراق، المعروف بأن له باعاً طويلاً في التجارب على الأسلحة الكيماوية والبيولوجية. أحد قادة "القاعدة" الذين انتقلوا الى العراق كان أحمد فضل الخلايلة المعروف ب"أبو مصعب الزرقاوي". لم يكن واضحاً ماذا يفعل هؤلاء في العراق. لكن مجرّد وجودهم هناك أثار قلق المسؤولين الأميركيين، خصوصاً اولئك الراغبين في إطاحة نظام صدام في إطار مشروعهم الأكبر للمنطقة "تغيير خريطة الشرق الأوسط" من خلال "إقامة أنظمة ديموقراطية فيه". هنا، اختلطت مخاوف الأميركيين من "بعبع القاعدة" برغبة بعض مسؤولي الإدارة، خصوصاً "صقور" وزارة الدفاع وعلى رأسهم دونالد رامسفيلد وبول وولفويتز، في إطاحة النظام العراقي. تغيّرت المعادلة. لم تعد واشنطن تبحث عن "أدلة" على علاقة ما بين الطرفين. فإذا كان الوصول اليها متعذراً، صارت "الشبهة" تكفي. وهكذا، لم تعد المعلومات عن انتقال "الزرقاوي" الى بغداد للطبابة، بين أيار مايو وحزيران يونيو 2002، مجرّد خبر عن "إرهابي مُطارد" يحتاج الى عملية جراحية تُقطع فيها ساقه المتضررة بفعل القصف الأميركي لأفغانستان. "لا بد انه هناك بالاتفاق مع النظام العراقي"، كما جادل بعض المسؤولين الأميركيين. وجاءت المعلومات الأردنية عن تورط "الزرقاوي" في التخطيط لعملية قتل الديبلوماسي الأميركي في عمّان لورنس فولي في تشرين الأول اكتوبر 2001، لتزيد قلق الأميركيين من هذه "الصلة" غير الواضحة - إن لم تكن وهمية - بين "العراق والقاعدة". رأى كثيرون في ذلك الوقت ان مزاعم الأميركيين عن وجود هذه "الصلة" بين النظام البعثي في بغداد وقاعدة أسامة بن لادن التي تُكفّر البعثيين، لا تعدو كونها مجرد شبهات تُستغل لحسابات سياسية لتبرير الحرب. فتلك "الصلة" ضعيفة في نواح كثيرة أهمها ان الأميركيين لم يُقدّموا دليلاً واحداً يربط الزرقاوي بأي من المسؤولين العراقيين. قالوا ان وجوده في بغداد لا يمكن ان يتم بمعزل عن موافقة نظام صدام. وربما كان ذلك صحيحاً، ولكن ماذا عن الأنباء التي أشارت أيضاً الى وجوده في ايران، وأيضاً في سورية ولبنان، وحتى دخوله المزعوم الى الأردن وخروجه منه في 2002؟ كل ذلك تجاهله الأميركيون. فما يهمهم فقط هو "الصة العراقية" ب"القاعدة". أدلة باول لم يتوقف الأميركيون عن هذا الحد. بل دفعوا بأكبر مسؤوليهم الى الأممالمتحدة ليقدم هذه "الصلة" المزعومة دليلاً تُبرر الحرب قال وزير الخارجية كولن باول، في خطابه أمام المنظمة الدولية في شباط فبراير الماضي، ان الزرقاوي يقود "شبكة إرهابية مرتبطة بالعراق"، وانه "يستطيع من خلال شبكته الإرهابية في بغداد، ان يدير شبكته في الشرق الأوسط وخارجه". وأضاف ان هذا الشاب الأردني ينشط كذلك في مناطق خارجة عن سلطة صدام، وتحديداً في كردستان العراقية من خلال ارتباطه بجماعة "أنصار الإسلام". وإذا كان ذلك لا يكفي لتبرير "خطر الزرقاوي"، فقد كان لا بد من إعطائه "صبغة دولية" تربطه بمجموعات متشددة ناشطة في بقاع مختلفة في العالم. وهكذا ربط باول الناشط الأردني بمجموعات مختلفة لا رابط واضحاً بينها. فهو مرتبط، مثلاً، بشخصين يُعرفان ب"ابو أشرف" و"أبو تيسير"، وأيضاً ب"أبو حفص" روسيا و"أبو عطية" في ممر بانكيسي في جورجيا، وأيضاً بخلية في بريطانيا يُشتبه في تورطها في صنع مادة "الرايسين" السامة لإطلاقها ربما في محطة لقطارات الأنفاق، وأخرى في فرنسا متهمة أيضاً بالتورط في التخطيط لهجوم كيماوي، وبخلية ثالثة في إسبانيا، و"ربما بخلية إيطالية" أيضاً. بدا الزرقاوي، بعد هذا الوصف الشيّق الذي قدّمه باول، وكأنه فعلاً "بعبع مخيف" يُهدد أوروبا بالمواد الكيماوية وليس طريداً بساق واحدة يفر من دولة الى أخرى لتفادي اعتقاله. عشية بدء الحرب الأميركية ضد صدام، خرج زعيم "القاعدة" بشريط مُسجّل دعا فيه الى الجهاد ضدهم. جادل بأن الدفاع عن العراق واجب على كل مسلم. لكنه كان واضحاً أيضاً في كلامه عن صدام والتأكيد ان دفاع "القاعدة" عن العراق ليس دفاعاً عن صدام الذي نفى بدوره في مقابلة مُسجلة مع سياسي بريطاني معروف أي علاقة لنظامه بتنظيم "القاعدة". وهكذا بدأت "حرب إطاحة صدام" وانتهت بين آذار/مارس ونيسان/ابريل 2003 قبل ان يجف حبر نفي العراق و"القاعدة" بوجود علاقة تربط بينهما. وعلى رغم مرور شهور اليوم على قلب النظام، لم يُثبت الأميركيون شيئاً من مزاعمهم عن الزرقاوي ولا عن "صلة" العراق ب"القاعدة". لكن هذه الحرب التي بررتها إدارة بوش بأنها تدخل في إطار "الحرب على الإرهاب"، تبدو اليوم مصدراً أساسياً ل"الإرهاب" ضد الأميركيين. فالفوضى التي تعم البلاد وتصاعد حدة العمليات التي تستهدف "قوات الاحتلال" كلها مؤشرات توحي بأن "القاعدة"، أو المنظمات التي تحمل فكراً شبيهاً بفكرها، قد تسعى الى ملء الفراغ الذي خلّفه سقوط صدام. ويكاد لا يمر يوم من دون حصول عملية تتبنى كثير منها منظمات مجهولة، بعضها إسلامي والآخر موال للنظام المخلوع. لكن لا يبدو ان هناك دليلاً حتى الآن على وجود صلة مؤكدة بين الطرفين. ومهما كانت الحال، فإن ما لا شك فيه ان "القاعدة" ترغب في استغلال العراق "جبهة ضد الأميركيين". ربما نقلت اليه بعض عناصرها الموجودين في ايران وسورية أو في دول خليجية. وربما تشارك فعلاً في العمليات الحاصلة حالياً مثل تفجير السفارة الأردنية وتفجير مقر الأممالمتحدة في بغداد. لكن في ظل عدم وجود دليل مباشر على تورطها في تلك العمليات، فإن المرجح ان وجودها في الساحة العراقية لا يزال في طور البداية وبناء الخلايا، بالتعاون مع بعض الجماعات الإسلامية ك"أنصار الإسلام". والأرجح أيضاً ان يبقى من تبقّى من قادة "القاعدة" في أماكن اختبائهم الحالية، في باكستانوايران، بدل الانتقال الى عراق ليس فيه مكان لا تستطيع يد الأميركيين الوصول اليه. هل فشل الأميركيون في تصدير "التجربة الأفغانية" الى العراق؟ المؤشرات الأولية تدل على ذلك، إن لم يُحققوا معجزة تجمع العراقيين في حكم يمثّلهم جميعاً ولا يكون فيه مغبونون. فصدام الذي سقطت تماثيله في المدن العراقية، لم يعد وحده في المعركة ضد الأميركيين. ف"شبح" بن لادن يقاتل معه أيضاً.