يسكنه وجه تريز. يسكنه صوتها. منذ عام غادرت "البيت اللي شبابيكو حمر" ولم يكن منصور الرحباني يدري انها تقيم في كل شيء من ذلك البيت، وفي محيطه، وفي رائحة التراب حوله الطالعة مع اوّل زخة مطر، وفي نسمة الهواء الباردة المقطوفة من اغصان شجر الصنوبر الكثيف الذي يغطي المكان. يسكنه طيف تريز. يسكنه حزنها الذي كبر وتملّك منها ومنه على مدى سنوات عذاب وفرح ورضا وغضب وانتصار وخيبة. وحينما يسترجع بعضاً من ذلك الوقت والعمر والنسيان معاً تهبّ فيه عواصف وتندلع رياح صعبة ويكاد يبكي... او هو بالفعل يبكي لكنه يداري دمعه بمزيد من العصب المكابر الذي لا يقوى حتى على مواجهة كلمة، فكيف بمواجهة الذكرى الغامضة في معناها والبصمات التي تركتها في زوايا الغرفة والمطبخ والصالون والممر الذي يفضي الى غرفة الكتابة والتأليف والانقطاع عن العالم؟ كأنما منصور الرحباني يستفيق على تريز. تريز الحبيبة والزوجة التي تركته وما كانت لتتركه لولا ان يد القدر امسكت بها وصعدت، ويد القدر اقوى. يعرف منصور الرحباني ان يد القدر اقوى، ولذلك يكتب لتريز قصائد حزينة. قصائد عن القيامة، وعن الله، وعن المحبة، وعن الإنسان الضعيف الذي يعتقد انه الأقوى وأنه الأقدر وأنه الأجمل وأنه الأبقى، وعند لحظة الغياب لا يملك شروى نقير من الردّ والتحدّي. بماذا يرد الإنسان؟ وماذا يتحدّى؟ وكيف يوقف زحف الصمت على ذاته المقهورة؟ اكثر من عشر قصائد كتبها منصور الرحباني. اكثر من عشرين قصيدة كتبها منذ رحيل سيّدة بيته وحياته تريز "مخلّفة" في السبعين عاماً التي يحملها على كتفيه حملاً يشبه جانحي النسر على جسد منهك. اكثر من عشرين قصيدة ولا يريد ان ينشر منها شيئاً. يقول: اسمعني ولا تكتب شيئاً. وحينما احاول منصتاً على الهاتف ان ادوّن سطراً او سطرين مما يقرأه لي، استشعر انه يعرف ماذا افعل فيسرع في القراءة الجميلة حتى يضيّعني أو أَُضيِّع ما يقول. فلا أتذكر بعد فراغ صوته من قراءة القصيدة إلا انها رسالة حب عذب وعميق ومبرّح للمرأة التي كانت رفيقة الحلو المرّ.