أحسنت إيران صنعاً بارسالها وفداً من مسؤوليها الحكوميين إلى بغداد لاجراء محادثات مع أعضاء مجلس الحكم العراقي. كذلك أحسنت صنعاً حينما أكد الوفد استعداد طهران للتعاون مع مجلس الحكم ومساعدة العراقيين في إعادة إعمار بلادهم. فهذه الخطوة، التي جاءت مفاجئة بعض الشيء، أشارت إلى خرق اقليمي ممتاز لإيران التي تشعر بالحاجة إلى فضاء اقليمي أرحب بعدما شدد الأميركيون والأوروبيون الخناق عليها بتهمة محاولتها انتاج أسلحة للدمار الشمال، وللعراق الذي أنهكته، لا مراراته الداخلية فحسب، بل مراراته أيضاً من الفضاء الاقليمي والعربي. لكن مع هذا تخطئ طهران إذا اعتقدت أنها وفت بواجبها ازاء العراق بشكل لم يعد أمام العراقيين سوى الاطمئنان إلى الجار الإيراني. فالأرجح أن العراق، الذي يشعر بامتنان ازاء الخطوة الإيرانية، يعتقد أن هذه الخطوة تظل ناقصة إذا لم تقترن بخطوات أخرى في الاتجاه الصحيح نفسه، من بينها: وقف طهران تدخلات أجهزتها السرية في الشؤون الداخلية العراقية، وضبط حدودها مع العراق، خصوصاً في شرق بعقوبة، وحظر نشاطات جماعة "أنصار الإسلام" في مناطقها الحدودية المتاخمة لشرق السليمانية. هذه خطوات أساسية ومهمة للتأكد من جدية طهران في قرارها بدء صفحة جديدة من العلاقات مع العراقيين، على رغم معرفة المهتمين بالشأن الإيراني أن القرار الرئيسي في خطوات كهذه هو في يد أجهزة أخرى لا تخضع لسلطة الحكومة المركزية لا مباشرة ولا بشكل غير مباشر. على رغم هذا، المفرح أن يسجل الإيرانيون نقطة لم يجرؤ على تسجيلها حتى أقرب حلفاء واشنطن في المنطقة. والمفرح أيضاً أن يؤشروا إلى قدرتهم على التركيز على ما يفيد بلدهم أكثر من التركيز على ما يفيد سياساتهم. والأكيد أن التفاؤل لا تلغيه شكوك بعض المراقبين في أن طهران لم تأتِ إلى بغداد لمخاطبة العراقيين، ولا لمعاونتهم في إعادة تعمير بلادهم، إنما جاءت لحديث غير مباشر مع من يقف على خشبة المسرح العراقي: الولاياتالمتحدة. فطهران تشعر أن واشنطن بدأت تتشدد في كلامها عن قرب تصنيع أول قنبلة نووية إيرانية، فيما الأوروبيون لا يترددون عن إعلان دعمهم الصريح للتشدد الأميركي ضد إيران، على عكس الموقف الأوروبي من تصريحات أميركية سابقة حول أسلحة الدمار الشامل العراقية. ثم هناك الأزمة الناجمة عن قتل صحافية كندية من أصل إيراني وتوترات داخلية عميقة في القطاع الطلابي تتهم فيها إيرانالولاياتالمتحدة بالتحريض. لهذا يرى المتشككون أن إيران، التي أرادت العراق ضعيفاً قبل صدام حسين وخلال حكمه وبعد زواله، تعمل على استثمار زيارة وفدها إلى بغداد لكسب مزيد من الوقت في صراعها مع واشنطن. أما الحديث عن التعاون مع العراقيين وإعادة العافية إلى بلدهم وتعزيز قدرتهم وموقعهم الاقتصادي، فليس في نهاية المطاف سوى إحدى "لطائف الحيل" الإيرانية بحسب المتشككين. لكن ما فات على هؤلاء هو أن الزمن لم يعد فيه متسع للطائف الحيل. وفات عليهم أن واشنطن قد لا تكون مستعدة لسماع كلام إيراني ناعم في بغداد مع وجود فعل خشن في طهران. وهذه أشياء قد تكون إيران على دراية تامة بها. لكن ما لا تعرفه لحد الآن هو أن العراقيين لم يعودوا ما كانوا عليه في زمن صدام حسين. فتطورات الحرب أنقذتهم من المنافي الأوروبية والأميركية والإيرانية، وأعادتهم إلى أرضهم. كما أن المسؤولية الوطنية التي أصبحوا يواجهونها في الوقت الراهن، إن في الشمال أو الوسط أو الجنوب، تجعلهم غير مستعدين لإعادة زج بلادهم في اتون معادلات الصراع الإيراني مع كائن من كان، حتى واشنطن. لكن على رغم هذا كله، يظل ارسال الحكومة الإيرانية وفداً رسمياً إلى بغداد بمثابة خطوة حكيمة ووجيهة وتشير إلى الاتجاه الصحيح على رغم كونها ناقصة. * كاتب كردي عراقي.