على رغم مرور عام على توقيع اتفاقية مشاكوس بين الحكومة السودانية و"الحركة الشعبية لتحرير السودان"، لم يحدث تقدم يذكر، حتى ان السناتور جون دانفورث، مبعوث الرئيس الاميركي صرح أخيراً بأنه لا يعرف بصراحة ماذا يريد الجانبان، مبدياً استغرابه من عدم تمكنهما العام المنصرم من تسوية مشكلات عالقة، سبق لهما الاتفاق على تسوية ما هو أكثر تعقيداً منها. وربما أراد دانفورث بهذا التصريح الإعلان صراحة بأنه لا يضغط على أي من الجانبين، ويؤكد أنهما يتحملان نتيجة تمسك كل منهما بموقفه. فقائد "جيش تحرير السودان" جون قرنق وافق على الاقتراحات التي قدمها الجنرال الكيني لازاراس سيمبويو، رئيس الفريق المفوض من "إيغاد" والمتابع لهذه المحادثات منذ أعلنت هذه المنظمة مبادرتها، ومن ثم فهو يعلم خبايا تلك المحادثات عبر ثماني سنوات، ولعله هو الذي صاغ اتفاق مشاكوس، كما أنه يعرف الأشخاص المفاوضين من طرفي النزاع والحدود الممكن أن يقبلوها، وربما كان هو الذي وضع هذه الحلول الوسط التي عرضها على كل من "جيش التحرير" وحكومة الخرطوم، وربما تصور أن حكومة الخرطوم هي التي سترفض مقترحاته، ولكنه لم يكن يتوقع أن يصل الرفض إلى تصريحات غاضبة من الرئيس عمر البشير، ولا التظاهرات التي قامت في الخرطوم تطالب بالتمسك بالخرطوم عاصمة تطبق فيها الشريعة، في وقت كان اجتمع فيه في القاهرة كل من السيد محمد عثمان الميرغني رئيس التجمع الوطني لكل أحزاب المعارضة في السودان، ومعه الصادق المهدي بكل ثقله، وجون قرنق ذاته أحد أطراف المفاوضات، وصاغوا "إعلان القاهرة" والذي اتفقوا فيه على أن تكون الخرطوم عاصمة "قومية" وتحاشوا كلاً من عبارتي "علمانية" أو "إسلامية". وكان في ذلك حكمة وحل وسط، ولا بد من أن يكون جون قرنق داعية سياسياً0 له قدرات بارعة غير مسبوقة، إذ سبق أن وقع اتفاقاً مع حسن الترابي. وهكذا كان رفض حكومة الخرطوم اقتراحات "إيغاد" عنيفاً وأدى الى تعقيد الأمور لأن أهم ما في هذه المحادثات هو "الكواليس" والمتوسطين بين الأطراف المتنازعة، ولو كنت بينهم لقمت برحلات مكوكية بين الخرطوم ونيروبي لأن إدخال الجماهير كطرف - في مثل هذه الملابسات الدقيقة - يفسد الطبخة كلها، وهنا مكمن الخطر. إن الأيام القليلة المقبلة حساسة وحاسمة، فإذا أصر كل طرف على إعلان رفضه - من خلال مستويات عليا - وبكلمات جارحة تسيء وتحرج الطرف الآخر، فإن الأمور قد تتعقد وتدخل في تصريحات حادة تظل تتصاعد حتى يشتعل وربما يؤدي إلى تفجر الموقف العسكري مرة اخرى. وعلى رغم أن السيناتور دانفورث آثر الحكمة وأعلن حياده بين الأطراف المتصارعة، إلا أن قوى الضغط في أميركا ليست صامتة أو محايدة، فثمة ما يوحي بأن الكونغرس الأميركي قرر إدانة الخرطوم بممارسة الرق ومطالبة إدارة الرئيس بوش بمعاقبة السودان. وليس من قبيل المصادفة - كما جاء في جريدة "الحياة" في 19/7/2003 - أن "منظمة العفو الدولية" أعربت عن "قلقها" لأوضاع حقوق الإنسان في السودان، وأن ما يجري في دارفور هو أمر جدير بالتسجيل لأنه يدخل في إطار تداخل الصراعات الحالية في السودان، لأن ما يجري في دارفور يزيد من إحراج حكومة الخرطوم، إذ أن متمردي دارفور شنوا هجوماً على مدينة "كتم" في شمال دارفور، وأعلن ماني اركومينادي الأمين العام ل"حركة تحرير السودان" وأظن أنها تأخذ الاسم ذاته للحركة التي يقودها جون قرنق ولكنها حركة مستقلة أن جيشه قتل 302 من جنود الحكومة، وهو أمر يزيد من الضغط على حكومة الخرطوم، ويمعن في إحراجها بإطلاق اللواء إبراهيم البشري قائد السلاح الجوي الذي أسر من مدة والمطالبة بالتفاوض مع الحكومة. وكلها ملابسات تضع حكومة الخرطوم في مأزق لتوقع وتسلم السلطة لمن يبدأ من جديد. فاللحظة الحالية مناسبة للتخلي عن الشعارات العنترية في اللجوء إلى محادثات "الكواليس"، وربما يتخلى جون قرنق عن إصراره على التمسك بمقترحات "إيغاد" لتكون هناك مقارنة مع ممثلي حكومة الخرطوم التي ثارت بتصريحات غاضبة وبعدها أرسلت مفوضين إلى مصر اختارتهم بطريقة ليست ديبلوماسية ليكونوا من المنتمين لجنوب السودان والذين كانوا من معاوني جون قرنق ثم آثروا المكاسب "الرخيصة" بمناصب من الشمال وهو اسلوب معتاد في هذه اللحظات "اليائسة" من المحادثات. إن السودان هو أكبر الدول الافريقية مساحة، وربما كان أكثرها ثراء لتنوع مصادر ثرائه، وعلاوة على ذلك، فإنه همزة الوصل الطبيعية بين شمال افريقيا العربي، وبين افريقيا السوداء، وهذه ميزة يمكن أن تستثمر ليكون الرابط بين العرب والأفارقة، كما يمكن بسوء نية أو بمؤامرات أن تصب الزيت لتحويل الصراع الدموي الذي استمر نحو 35 عاماً متقطعة داخل السودان، لتكون صراعاً عربياً - أفريقياً دامياً! إن الحياة علمتنا أن المعيشة المستقرة في الوطن مشروطة بوجود ضمانات للحرية والديموقراطية وعدم الغدر من الحكومات الباطشة! وللسودان خصوصية فرضتها الجغرافيا وهي أن حوله تسع دول تحيط به من كل جانب، وهناك قبائل في السودان وخارجه، وهذا أمر مأسوي، ولن يحل من طريق التدخل العسكري، ولكن بالمفاوضات والحوار وبالتراضي من أهل القبائل ذاتها، وهذا الأمر لن يتم من خلال حكومة مركزية في الخرطوم، ولذلك، ولأسباب أخرى كثيرة ليس هذا موقعها، فإن النظام الفيدرالي هو الحل الأمثل للسودان الجديد. لذلك لا مناص من إجراء انتخابات جديدة، ليس فقط تطبيقاً لاتفاقات مشاكوس، أو غيرها، ذلك أن وجود الحكومة الحالية بتوجهاتها الفكرية المنحازة، أمر ضد مجريات الأمور في العالم كله، لأن التنوع وقبول الآخر هو السمة الغالبة للاتفاق مع "الآخر". وفي ما يتعلق بالسودان لا يوجد "آخر" واحد داخلياً بل يوجد "آخرون" في أربعة أركان السودان، كما أن هناك "آخرين" خارج السودان، لذلك فإن حكم السودان ليس متعة بل مشقة. إن أي حكومة مقبلة في الشمال أو في الجنوب لديها مهمات ضخمة هائلة في كل من الجوانب السياسية لخلق حال من التراضي العام، ثم فوق ذلك، لخلق مناخ يؤدي إلى إقبال الهيئات الدولية لتقديم منح وتبرعات وهو أمر متوقع كما يخلق مناخ إقبال مستثمرين يوفرون التنمية في مشاريع شتى ومتنوعة. الحق، إن الأسابيع القليلة المقبلة، حساسة وحاسمة، وتحتاج من كل الأطراف الفاعلة في محادثات السلام إلى كل من الحكمة واليقظة، لإمكان عبور هذه الحقبة من دون استفزاز لطرف قادر على تفجير المواقف بأكملها. أما مرحلة ما بعد السلام، فهي أكثر تعقيداً في هذا "الفضاء" السوداني المملوء بالقبائل والمذاهب السياسية، والفرق الدينية والمتطرفة، منها أو المتطرفة وهي مسلحة، ولكنني على ثقة في إطار معرفتي بالكثير من الشخصيات السياسية الفاعلة، أنهم - في مجملهم - سيجمعون على تكوين حكومة جبهة وطنية قادرة على أن تعبر بالسودان للسنوات القليلة المقبلة لأنه سيكون بعده - في ظني - أكبر دولة نامية ثرية، وستتقدم من خلال التنوع في صوره كافة، وعلى الله قصد السبيل. * كاتب مصري.