لم يكن الشباب الجزائري يتخيل خلال سنوات السبعينات أو الثمانينات أنه سيأتي اليوم الذي يمكن له فيه إنتقاد أوضاع بلاده أمام الجماهير وممارسة المعارضة عبر الميكروفون. وبمجرد أن شهدت الجزائر انفتاحاً سياسياً صاحبه انفتاح إعلامي وثقافي واسع، حتى اندفعت جيوش من أبناء جيل الاستقلال نحو منافذ الحرية والديموقراطية. وفي الوقت الذي اختار بعضهم مهنة الصحافة، اتجه البعض الأخر نحو العمل السياسي من خلال الانخرط في احد الاحزاب. وبين هؤلاء وأولئك برز فريق آخر قرر تكسير جدار الصمت عبر موسيقى "الراب" التي أصبحت المنافس رقم واحد لموسيقى "الراي". فرقة "أم بي أس" تعتبر من أشهر فرق "الراب" الجزائرية التي اختارت الموسيقى لتفجر بها أحاسيسها، وتنتقد من خلال أغانيها الجريئة كل ما يجري في البلاد. وإذا كانت الفرقة التي تضم أربعة شباب من خريجي الجامعات قد أبدت تخوفاً كبيراً في بداية مشوارها الفني من الإنضمام إلى صفوف المعارضة رسمياً، فإنها في المقابل حرصت على أن تشتهر باسم يؤكد للمتمعن فيه بأنه قنبلة موقوتة، بحيث يعني اسم "أم بي أس" عند ترجمة أولى حروفه إلى العربية "الميكروفون الذي يكسر الصمت". "محند" و"رضوان" هما مؤسسا الفرقة. حكايتهما مع "الراب" لا تختلف كثيراً عن حكاية غيرهم من الشباب الجزائري الذي يحمل هموم جيل بأكمله، ويريد طي صفحة الماضي بكل الطرق والوسائل. فبمشيئة الصدف التقى الصديقان واكتشف كل منهما موهبة الآخر في مجال الموسيقى وكتابة الكلمات، بما جعل الأمور بينهما تسير نحو تكوين فرقة موسيقية. وعلى رغم أن "محند" يتأثر بالراب الفرنسي، و"رضوان" يعشق الراب الأميركي. فأنهما نجحا بجدارة في رسم معالم جديدة لموسيقى الراب الجزائري، تتميز كلماتها بالجرأة، وتنفرد ألحانها بإيقاعات شرقية، بعد أن أدخلا عليها أنواعاً موسيقية أخرى من التراث الجزائري مثل "الاستخبار". فرقة "راب" أخرى لا تقل شهرة عن سابقتها، اختار مؤسسوها اسم "حامة بويز" لينطلقوا به نحو عالم الشهرة داخل وخارج البلاد. وعلى رغم أن أعضاء أول فرقة راب في الجزائر بدأوا مشوارهم من حي "الحامة"، أحد الأحياء الشعبية في العاصمة، ولم تكن لديهم أدنى الإمكانات للبروز في عالم الفن، غير أن عزمهم الكبير على تفجير ما يختلج قلوبهم من هموم ومشاكل لا يمكن اختصارها فقط في كلمات الإرهاب، والبطالة والفقر والتهميش، دفعهم إلى قيادة ثورة موسيقية حقيقية داخل مجتمعهم، سيما بعد أن أصبحوا أكثر فرق الراب راديكالية. ولعبت الكلمات القوية التي تستخدمها "حامة بويز" في أغانيها دوراً كبيراً في أن تشتهر وتخطف اهتمام كبار المنتجين الجزائريين، بينهم شريف فلاح الذي وافق في عام 1997 على إنتاج أول شريط للفرقة يحمل اسم "أولاد البهجة"، ثم في عام 1998 أنتج لها ثاني شريط يحمل اسم "عوامة"، وحقق نجاحاً كبيراً عكسته أرقام المبيعات، إذ فاق عدد الأشرطة المباعة في شهور قليلة حوالى 100 ألف شريط، الأمر الذي دفع بأهل الفن إلى التأكيد على أن موجة "الراب" جاءت لتقضي على موجة "الراي" التي تربعت على عرش الأغنية الجزائرية عقوداً. ويقول "مراد رحماني" أحد مؤسسي فرقة "اليوم غير البارح"، إن اختياره دخول عالم "الراب" لم يكن بدافع كسب الأموال، وإن أهدافه تتعدى ذلك بكثير، لأنه "يحمل رسالة صادقة، ويتمنى أن يصل محتواها إلى أبعد الحدود وإلى أكبر عدد من الأشخاص"، لذلك فهو يحرص على الغناء بمختلف اللغات... العربية والفرنسية والإنكليزية وحتى الأمازيغية. وفي دردشة مع "الحياة" أكد "مراد" أن الأوضاع التي مرت بها بلاده، من انتفاضة الشباب في الخامس من تشرين الأول أكتوبر عام 1988، الى موجة التطرف الديني التي صاحبتها أزمة دموية عنيفة خلال عقد التسعينات، كانت كافية ليبحث كل شاب بطريقته وليقول بأعلى صوته كلمة "كفى". ويشدد على القول: "لقد عانى الشباب الجزائري كثيراً، وحان اليوم الوقت ليعبر كل واحد عن رأيه بصراحة ومن دون قيود، لأن عهد الرقابة ولّى، وحل محله عهد الديموقراطية الحقيقية والشفافية". ويؤكد "حليم اسطمبولي" طالب في جامعة باب الزوار أن انتشار فرق "الراب" في الجزائر، يدل على نجاح هذا النوع الموسيقي في استقطاب جمهور واسع، لا سيما من فئة الشباب التي تشكل الغالبية في المجتمع. ويضيف: "أنا شخصياً، أختار الاستماع إلى أغاني الراب برفقة زملائي في الجامعة، لأنها تحكي بموضوعية الواقع الذي نعيشه نحن الشباب في ظل المشكلات والمعاناة اليومية التي تفرضها الظروف العامة للبلاد". ويستبعد حليم أن ينافس "الراب" بجدية "الراي" خلال السنوات المقبلة، قائلاً: "في الوقت الذي تمكنت فيه فرق "الراب" من تحسين نوعية أغانيها والتقرب من جمهورها، انشغل نجوم "الراي" في كسب الأموال من خلال إنتاج أشرطة وألبومات تجارية لا تمت بأي صلة الى فن "الراي" الأصيل الذي تركه أمثال الفنان القدير بلاوي الهواري، وغيره من رموز الفن الجزائري". وبعيداً من فرق "الراب"، يرى عبدالكريم سليماني المتخصص في علم الاجتماع، أن "الانتشار والنجاح الواسعين اللذين حققتهما موسيقى "الراب" في الجزائر يعودان لعدد من الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية"، ويوضح "أولاً تجب الإشارة إلى أن 75 في المئة من المجتمع الجزائري هم شباب لا تزيد أعمارهم عن 35 عاماً، لذلك فإن أي نوع موسيقي ينتشر بينهم يتحول إلى ظاهرة مجتمع، ثانياً، إن الأزمة العنيفة التي مرت بها الجزائر خلال سنوات التسعينات جعلت فئة عريضة من المجتمع، وغالبيتها من الشباب، تسعى إلى تغيير الأوضاع وخصوصاً السياسية منها، باعتبارها كانت من أهم أسباب أزماتها ومشكلاتها. لذلك فإننا سنجد عدداً كبيراً من الشباب الذين لجأوا إلى الموسيقى للتعبير عن آرائهم ومواقفهم السياسية، وعادة ما تكون مواقف معارضة للسلطة، وذلك في مقابل فئة أخرى اختارت العمل السياسي من خلال الأحزاب أو المنظمات". والمعروف أن الأغنية السياسية في الجزائر تتسع دائرة شهرتها بحسب أهمية الظروف السياسية التي تمر بها البلاد. وكلما ظهرت أزمة صاحبتها موجة موسيقية، وهذا الثابت يعود إلى بداية القرن الماضي، عندما كانت البلاد تعيش تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، حيث كان بعض الفنانين ينتهزون فرصة تجمع المواطنين ليرددوا أغاني تحمل رسائل سياسية، وتنتقد الأوضاع السائدة آنذاك من فقر وتهميش وعنصرية. كما كانت هناك فرق تعرف باسم "المداحين" تجوب الأسواق والشوارع، وهي تردد أغاني مطولة على وقع موسيقى "البندير" - آلة موسيقية تشبه آلة الطبل". والمثير في الأمر أن كلمات تلك الأغاني كانت مشفرة، لئلا يتمكن الاستعمار من فهم معانيها. وكانت ألسنة "المداحين" تطاول كبار المسؤولين والحكام الفرنسيين.