تميزت الأيام القليلة الماضية بحدوث سلسلة أعمال سياسية وعسكرية من المتوقع أن تقود نتائجها الى تأسيس مرحلة جديدة في الشرق الأوسط. وكان واضحاً ان الدافع الى تنشيط التحرك المفاجئ هو المأزق الأميركي في العراق، واحتمالات تأثير ضحايا الجيش على معركة الرئاسة المقبلة. خصوصاً بعدما نشر البنتاغون اسماء 211 قتيلاً اعترف انهم سقطوا قبل أول أيار مايو، أي يوم اعلان وقف العمليات. ثم اذاع الرئيس بوش بياناً آخر قال فيه ان العدد الاضافي للقتلى لم يزد على 80 عسكرياً خلال الشهرين الأخيرين، وأن هذه النسبة الضئيلة لا يمكن أن تؤثر على وضعه الانتخابي. والمؤكد انه استعار اسلوب امتصاص الأزمات من وزير دفاعه دونالد رامسفيلد الذي قال مراراً ان عدد ضحايا السير في أميركا يتجاوز كثيراً عدد ضحايا المتفجرات في العراق. وفي تقديره أن الحل السياسي المرضي سيؤدي حتماً الى نشر الأمن والنظام والاستقرار، الأمر الذي يوقف اعمال العنف والمقاومة المسلحة. عقب الاعلان عن تشكيل مجلس الحكم الانتقالي، توقعت واشنطن ان يكون صنع السلام في العراق أسهل من صنع الحرب. ولكنها سرعان ما اكتشفت ان الأمن الذي وفره صدام حسين بالقوة والرعب، عجز عن توفيره الحاكم بول بريمر بواسطة القوات الأميركية. ومع أن بريمر وعد العراقيين بتشكيل مجلس سياسي وجمعية تأسيسية لصوغ دستور حديث، إلا انه فوجئ بانتقاد قادة المعارضة السابقة لأن السلطة التنفيذية محصورة به وحده، كما فوجئ باتساع عمليات المقاومة التي يتعرض لها الجنود الأميركيون، الأمر الذي شغله عن تحقيق مشروع الاعمار واعادة البناء. ومع ازدياد حوادث القتل والنهب ولدت عصابات مسلحة في بغدادوالبصرة تخصصت في سرقة السيارات والمنازل والمحلات، اضافة الى استهداف عائلات ثرية خُطف أطفالها مقابل الافراج عنهم بفدية تراوحت قيمتها بين عشرين وثلاثين ألف دولار. وكان من نتيجة حال الفلتان ان شهدت بغداد حركة نزوح جماعية الى الخارج استخدمت فيها عمان كمحطة أولى للديسبورا العراقية الثالثة. ولوحظ ان هناك عائلات صمدت في العراق تحت اسوأ الظروف وأقساها، اضطرت هذه المرة الى الهرب حرصاً على سلامتها وكرامتها. والسبب ان الفراغ الأمني الذي نشأ إثر سقوط النظام وحل الجيش والحزب، لم يستعاض عنه بقوة نافذة قادرة على بسط السلطة والهيبة. ويبدو ان الدول التي وافقت على المشاركة في التخفيف عن كاهل القوات الأميركية اشترطت أن ترسل وحداتها الى مناطق هادئة بعيدة عن بؤر التوتر. ومع أن هذه المناطق غير موجودة أصلاً في العراق، إلا أن الوحدات التي وصلت أو التي ستصل، ليست مدربة على حرب الشوارع. ويستدل من هوياتها واعدادها الضئيلة ان مشاركتها جاءت كترضية لأميركا وليس حباً بالعراق، مثل: فيجي 700 عنصر وجورجيا 190 عنصراً وألبانيا 200 عنصر وبلغاريا 500 عنصر واوكرانيا 1800 عنصر الخ. في الوقت ذاته تحاول الادارة الأميركية سحب نصف قواتها العاملة في العراق قبل نهاية السنة، على أن يتجدد أفراد النصف الآخر كل ستة أشهر. وتقول صحيفة "واشنطن بوست" ان هذا القرار اتخذ على ضوء تقارير القيادة المركزية التي حذرت من مخاطر الهجمات المتواصلة، ومن تأثير ذلك على معنويات الجنود ونفسياتهم. والثابت ان الوزير كولن باول قام باتصالات متكررة مع حكومات أوروبية وآسيوية بهدف الحصول على قوات بديلة تحل محل جزء من القوات الأميركية. ورفضت كل من فرنسا والمانيا وروسيا والهند وباكستان بحجة أن المشاركة يجب أن تكون تحت مظلة الأممالمتحدة. وتحاول حكومة بلير اقناع ادارة بوش بضرورة منح الأممالمتحدة صلاحيات أوسع لعل القرار الجديد يشجع الدول المترددة على ارسال قوات اضافية للمشاركة في ضبط الأمن واعادة الاعمار. ويبدو ان عمليات العنف التي تعرضت لها القوات الأميركية في البصرة، خلقت جواً من الاستياء والتذمر بين الضباط والجنود، الأمر الذي استغلته المعارضة البريطانية لمضاعفة هجومها على حكومة حزب العمال. قبل أن تتبخر الآمال بمشاركة قوات عربية في حفظ الأمن داخل العراق، طلب الحاكم بول بريمر وضع دراسة ميدانية حول امكانات تحقيق هذه الخطوة. وتبين له من خلال مراجعة شملت كل شرائح المجتمع، ان العراقيين يرفضون تدخل العرب في شؤونهم أكثر مما يرفضون تدخل الأميركيين. والسبب ان المجموعات المؤيدة لنظام صدام حسين تعتبر ان دخول الجيوش العربية في جبهة التحالف سنة 1991 شجع الولاياتالمتحدة على عزل النظام والانتقام منه ومن أنصاره. أما المجموعات المؤيدة للمعارضة العراقية التي تمثلت بمجلس الحكم الجديد، فهي بطبيعة الحال رافضة أي تدخل غير أميركي لاقتناعها بأن الدول العربية سكتت عن ظلم صدام حسين، وأن قواتها قد تساعد على حمايته وبعث نظامه. يبقى الفريق الثالث المحايد الذي يهمه الوضع المعيشي واستتباب الأمن أكثر مما يهمه التخلص من الاحتلال الأميركي. وهكذا استبعدت فكرة احياء نموذج قوات الردع العربية في لبنان، خصوصاً بعدما رفضت الجامعة العربية الاعتراف بمجلس الحكم الانتقالي بحجة ان ميثاقها يحظر ضم دول تحت الاحتلال. وبما أن مجلس الأمن شرع احتلال العراق بواسطة القوات الأميركية، فإن مجلس الحكم أصبح يمثل الحاكم المحتل. في سبيل تجاوز هذا الاشكال جرت محاولات عدة من أجل تجسير الهوة بين مجلس الحكم العراقي وبين الجامعة العربية. ولقد قام بهذه المهمة المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة سيرجيو فييرا دي ميلو، الذي زار تركيا ومصر من أجل الحصول على دعم جيران العراق. وتوقع مبعوث كوفي انان أن يزور وفد من مجلس الحكم مقر الجامعة العربية الاسبوع المقبل بهدف فتح حوار مع الأمين العام عمرو موسى لعل هذه الخطوة تمهد لمساندة سياسية وعسكرية. ولكي تضمن واشنطن موافقة سورية على دعم سياسي لمجلس الحكم، فقد سمحت لبغداد باستئناف العلاقات التجارية مع دمشق. وكانت هذه العلاقات قد تأثرت بسبب ايقاف ضخ النفط العراقي الذي استوردته دمشق بأسعار مخفضة جداً. كذلك تأثر حجم المنتجات المحلية بعد توقف التجارة بين البلدين. وهكذا انخفضت نسبة العلاقات التجارية من ثلاثة بلايين دولار في السنة الى مئة مليون في أفضل الأحوال. وتأمل ادارة بوش بأن تولي سورية موضوع الاستقرار في العراق اهتماماً أكبر على اعتبار ان الانفتاح الاقتصادي يخدم مصلحتها الوطنية، بينما ترى دمشق ان عملية بناء علاقات حسنة مع مجلس الحكم المعين تحتاج بالمقابل الى اعتراف عربي جماعي بالوضع الجديد، والى مساهمة عربية أوسع في جهود الأمن، والى مساندة أميركية أقوى في المسألة الفلسطينية. هذا الاسبوع تعرضت العلاقات الأميركية السورية للاهتزاز بسبب العملية الثأرية التي نفذها "حزب الله" بعد اغتيال علي صالح بأن قتل أحد سكان "شلومي" حبيب دادون. ويبدو أن الحكومة الاسرائيلية لم تتوقع رد الفعل هذا في وقت تدعو سورية الى التهدئة في لبنان وتستعد لتجديد ضخ النفط من الموصل والاشتراك في عمليات اعادة اعمار العراق. ويعترف الوزير كولن باول بأنه فوجئ بحجم التوتر الأمني الذي فجره اطلاق النار ضد الطائرات الاسرائيلية. كما فوجئ باستعداد "حزب الله" لارسال مئات الصواريخ باتجاه شمال اسرائيل في حال نفذ شارون تهديداته بقصف دمشق وبيروت والجنوب. واعتبر الأميركيون ان هذا النشاط جرى خارج اطار القواعد المتفق عليها مع سورية وايران، وان السيد حسن نصرالله يستطيع تسخين الساحة الاقليمية اذا ما حاولت اسرائيل استغلال جمود نشاط الحزب للقيام بعمليات اغتيال ضد عناصره. وفي هذا السياق تلتقي سياسة "حزب الله" مع سياسة "حماس" و"الجهاد الاسلامي" على اعتبار ان منطق الثورة لا يقيم وزناً لمنطق الدولة. ولكي تمنع الانهيار الاقليمي تدخلت واشنطن مع اسرائيل بطريقة ساعدت على ضبط ميزان الرعب، خوفاً من وقوع خطأ عسكري قد يدمر كل المشاريع السياسية في فلسطينوالعراق! * كاتب وصحافي لبناني.