كثير من الوفود السياسية التي تزور مواقعنا في الميدان، في الضفة وقطاع غزة، في الأردن ولبنان، وفي سورية، نقترح عليها زيارات ميدانية للمخيمات الفلسطينية. أصبحنا لكثرة ما سمعنا منهم خبراء بردود الأفعال: ما أن يدخل الزائرون إلى مخيم مثل جرمانا أو دنون في سورية، شاتيلا أو مار الياس في بيروت، الوحدات أو البقعة في الأردن، رفح أو جباليا في غزة، بلاطة أو جنين في الضفة، حتى تنبت في عيونهم الأسئلة الحيرى، وتعتريهم الدهشة. نقرأ في عيونهم قولاً بات مألوفاً لدينا: هل يعقل تصور أن شهداء وحملة أقدس قضية خرجوا من بيوت الصفيح البالية هذه؟ ترى هل ساروا من هذه الأزقة التي لا تتسع لمرور توابيت شهدائهم في رحلتهم نحو فضاء الحرية، كي يمسحوا عن وجه الإنسانية فظائع العنصرية الصهيونية وصنيعتها إسرائيل الاحتلالية. لكن سرعان ما تتلاشى دهشة الزائرين وكثيراً ما يكسرون جدران الوقت المحدد لزيارتهم، ويبحرون في نقاشات سياسية غنية ودافئة وحارة مع ثلاثة أجيال تجمعها عذابات المنفى وعناد العودة إلى الوطن بالنضال ومعمودية الدم الطهور. ما تلبث أن تعود الأسئلة الحيرى إلى عيونهم، إذ تحضر ألسنة صغار غزة ونابلس وجنين وبيت لحم إلى حلبة الحوار، تسقط حدود الجغرافيا المصطنعة، وهي التي لم تقف يوماً أمامهم. حرموا من السكن في وطنهم لكن الوطن يسكنهم، بريق عيونهم يفتح أمام الزائر الحائر، أفقاً لا تُعرف له نهاية، وبحاراً لن يُعرف لها قرار. إشارة طفل إلى جدار من جدران المخيم تكفي لتبديد سحب الحيرة مرة أخرى، تنطق صور الشهداء التي تزين صدر الجدران: ذلك الحلم الفلسطيني الذي ينبت كل صباح على شبابيك المخيم كما الندى، حبل سري يربط أشبال الفلسطينيين بنضالات وتضحيات الآباء، ويوصلها إلى الجيل الذي سيأتي. يسألك مناضل عريق كيف يمكن لطفل بمثل عمر فارس عودة أن يقف في وجه دبابة؟! الإجابة بسيطة: لأنه المخيم المخيم الفلسطيني، كلمات لها عند السائل سحر القبول. لماذا يُقتل محمد الدرة بدم بارد؟! وقد عجز صدر والده عن حمايته، فرد الوالد جناحيه كما طائر النورس يدافع عن محمد، لم تخطىء رصاصة قناص المحتل الإرهابي الهدف، كانت تعرف ما تريد، أرادت بخطف روح الصغير أن تقتل روح التواصل بين الأجيال الفلسطينية. جيل محمد الدرة وفارس عودة هو الجيل الذي سيعود ليسكن أرض كنعان ويعمرها. بداية نهوض طائر الفينيق الفلسطيني فأل سوء على غربان الاحتلال، فهو ايذان بقرب رحيلها. هكذا تسقط مرة واحدة أكذوبة القتلة الصهاينة، ففلسطين ليست أرضاً بلا شعب، والشعب الذي نبت منها وتنزرع أجياله فيها عميقاً منذ فجر التاريخ يستحق هذه الأرض، التي لا يمكن تصور وجودها من دون وجوده عليها. الخوف من محمد الدرة والعائد فارس عودة أحفاد كنعان الفلسطيني سبب كافٍ للقتل عند الإرهابي ارييل شارون. معظم عجائز الحركة الصهيونية بدأوا حياتهم روّادا غزاة مستعمرين، زودتهم تكنولوجيا الغرب بكل ما تفتقت عنه أدمغة العاملين في مصانع أسلحة الموت، قتلوا ما قتلوا من أبناء شعبنا، واغتصبوا ما اغتصبوا من أرضنا، لكنهم على أبواب خريف عمرهم، جراء دموية دولة الحروب الاحتلالية وما يقابلها من صمود فلسطيني يصطدمون بجدران اللاجدوى، يصرخون: أنهر الدماء الفلسطينية التي سفكت لم تعطنا الأمن الذي بقينا ننشده، يحذرون قادة كيانهم من عظيم ابتلاء القاتل الإسرائيلي الصهيوني ونهايته الدامية، وقد بدأت في الأفق تلوح شارات انتصار الدم الفلسطيني على سيف الاحتلال. لماذا يخاف القاتل من القتيل؟ لماذا يخاف الصهيوني على مصير دولته الاحتلالية المدججة بآخر مبتكرات أسلحة القتل الفتاكة؟ لماذا لا ينحني الفلسطينيون رغم المذابح والموت والدمار الذي يلحقه بهم الاحتلال؟ لماذا يتحدثون عن فجر فلسطيني مقبل؟ إنها تلك القوة التي لا يمتلكها سوى صاحب الحق، وهو ما لم يكن يوما من الأيام ملكاً للصهاينة. من حق أي قارئ كريم أن يتساءل لماذا يكتب نايف حواتمة مقالاً جرعة الوجدانيات فيه أكثر بكثير من جرعة السياسة؟ أكتبه لأنني من المؤمنين بأن سياسة لا يسكن مكوناتها وجدان الشعب، سياسة ستموت غريبة عن واقع الفعل، وأثرها الوحيد الذي سيبقى في ذاكرة الشعب الجمعية سقوط راسميها ودعاتها. يكتب أحدهم: "أصبحت بعض تنظيمات منظمة التحرير الفلسطينية الأساسية مجرد معلق على الأحداث، وقد نأت بنفسها بعيداً عن العملية السياسية الجارية مكررة أخطاءها نفسها من المسيرة الأوسلوية". مع افتراض حسن النيات لا يمكن تصنيف هذا القول وأحكامه الجائرة إلا في خانة الحماقات التي تخرج رأسها خارج التاريخ، وقد فشلت في اخراج التاريخ من رأسها. أهل الكلام لم يسمعوا بانتفاضة الشعب بكل أجياله والمقاومة دفاعاً عن تراب الوطن وتمسكاً بحق العودة. فبالأمس القريب انهارت المسيرة الأوسلوية، وها هي مسيرة "خريطة الطريق" تصبح بلا طريق. فالإسرائيليون لا يعرفون سوى طريق الضغط من أجل انتزاع مزيد من التنازلات، ومن سرقوا قرار شعبنا الثابت الوحيد في سياستهم الهروب من الضغوط الأميركية والإسرائيلية والاقليمية بمزيد من التنازلات ليصلوا إلى مرحلة عري ليس في جعبتهم شيء يقدمونه. يا أهل أوسلو إذا ضاقت بكم الصدور والتبست عليكم الأمور، وتاهت بكم السبل والدروب، عودوا ولو بزيارة إلى مخيمات شعبكم، ففي الأزقة مئات ألوف فارس عودة، ومحمد الدرة. في عيونهم ينبت اليقين كما العوسج على تلال الجليل ونابلس والخليل. صور الشهداء على جدران المخيم تمسح عن القلوب دنس الخطايا. طفل في أحد أزقة جرمانا يركض صوبي مصافحاً بيده ورافعاً يده الأخرى بإشارة النصر، صائحاً فلسطين كزغرودة. تمنيت لو تتكرر على مسامعي ملايين المرات. أنا لم أعد اذكر اسمك يا صغيري، لكنك تبقى في ذاكرتي فارساً من فرسان جيل الاستقلال الفلسطيني. أنت صورة مصغرة عن الحبل السري الذي أمن تواصل أجيال شعبنا في مسيرة النضال، أنت من ضمير الشعب الذي علمنا كيف ومَن نحب. ما ضلّ مناضل التزم جانب الحق في شعبه، وبريق الكاميرات لن تضع أحداً في دائرة الحدث وصناعة التاريخ. مستقبل فلسطين يقررها أبناء مخيمات ومدن وقرى وبلدات فلسطين. قلوبهم أبقى. وخاسر من يرتضي لنفسه الانزلاق في حل السياسات العبثية، سياسة التنازلات أو المغامرات، سياسة النزعات الفئوية الأنانية، حيث التنازل وضياع الحقوق. حجارة الأرض تبقى والزبد إلى زوال. مع وصول الصهيونية الاحتلالية إلى موسم الخريف يتجدد الربيع الفلسطيني، ينهض الشهداء، وليل عذابات الروح مهما طال فآخره نهار، قد أزف موعد شروق شمس استقلال فلسطين. * الأمين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين.