خريطة الطريق، مثل هدنة الثلاثة أشهر، لا تنقصها النقاط للرفض والقبول من قبل الاطراف المعنية فلسطينيا واسرائيلياً، مع ذلك كان الالتزام بهما أعلى بدرجات من كل القرارات الدولية والاتفاقات السابقة عليهما. لماذا؟ السؤال جوابه في عدد من العناصر: القرار الاميركي بدعمهما وفرض الالتزام بهما على كل من الطرفين وقواهما المختلفة، والوضع الداخلي الفلسطيني الذي وصل الى مفترق طرق حول اسلوب العمل الاجدى في هذه المرحلة، وبروز تيارات ترى، للمرة الأولى، في العسكرة خطأ وقعت فيه الانتفاضة الثانية، في حين أقرت اطراف العسكرة بأن استخدامها للسلاح لم يكن دائماً في حالة انسجام مع تطورات الموقف محلياً واقليمياً ودولياً، فيما الأخطاء في اسلوب العمل منعت التكيّف الصحيح مع هذه التطورات. والامر الاهم ان سكان الضفة والقطاع ما عادوا على خط واحد مع قياداتهم في ترتيب الاولويات، خصوصاً في ظل الازمات المتلاحقة التي حصلت في المنطقة وألقت بثقل متزايد على الحالة المعيشية للمواطن الفلسطيني. لكن العنصر الثالث يتمثل بالحالة التي تمر بها اسرائيل نفسها. فهي عاشت في ظل تطورات الحرب على العراق حالة من التهميش الدولي، وهي متهمة من قبل المعسكر المضاد للحرب، بأنها كانت احدى رافعات الدعوة للحرب والتجييش لها. ولا شك ان الحملة العالمية ضد الحرب وجّهت سهاماً كثيرة الى المرمى الاسرائيلي في هذا المجال. وهي منظور اليها من معسكر الحرب نفسه، أنها عبء اضافي يجب العمل دائماً على استبعاد اي دور أو حضور لها في الحرب. بالاضافة الى ذلك فان سنوات الانتفاضة لم تكن سنوات مجد للاسرائيلي الذي عبر عن خوفه على مستقبله في هذه المنطقة بأساليب عدة ابرزها تفويض شارون بالحل الامني، الامر الذي فشل وزاد في تفاقم المسألة. والنجاحات التي حققتها السياسة الشارونية في صياغة حالة تماه بين حرب اسرائيل ضد المنظمات الفلسطينية وبين حرب واشنطن ضد القاعدة وغيرها من قوى وجماعات تمارس العمل المسلح حيث امكنها ضد الوجود الاميركي، لم تؤد الى تخفيف تأزمات الوضع الاسرائيلي، لأن جوهر القضية ومصدر الصراع ما زال بعيداً عن الحلول، حتى التي يدعمها المجتمع الدولي ووافقت عليها قيادات اسرائيلية من رابين الى باراك مروراً بنتانياهو وبيريز. في هذه الغضون باتت واشنطن منخرطة اكثر في حل فلسطيني اسرائيلي وتعتبره الجناح الآخر لسياسة التدخل النشط التي تمارسها إزاء المنطقة انطلاقاً من العراق وفي نقاط حساسة أخرى غيرها. وإذا كان إفشال خريطة الطريق وتابعتها الهدنة تشكل فشلاً كبيراً للسياسة الاميركية، فهذا لا يقتصر على الموضوع الفلسطيني وحده بل يطال المنطقة والعالم ككل. لذلك تدرك الاطراف المعنية ان ضرراً كبيراً سيلحق بالذي تحمّله اميركا مسؤولية الفشل، بل الامر سيكون اكثر حساسية إذا كانت اسرائيل الطرف الذي تؤدي مواقفه الى فشل المبادرات الاميركية لأن اسرائيل، منظوراً لها كحليف لاميركا، ستترجم سياساتها بالنسبة لابناء المنطقة على انها سياسات اميركية، ما يؤجج حالة العداء لاميركا التي استدرجتها الحرب على العراق وقبلها المواقف، المعتبرة عربياً، على أنها منحازة للدولة العبرية. ولن يكون الأمر أقل خطورة على الطرف الفلسطيني العربي إذا حمّلته واشنطن مسؤولية فشل هذه المبادرات لأن الأمر عندها سيقع في خانة استمرار الحرب ضد الارهاب وضد سياسات نشر الكره لاميركا، وهما ما حمّلتهما واشنطن مسؤولية مباشرة وغير مباشرة في احداث ايلول 2001. لكن ذلك لا يعدم هامشاً لمناورة يقوم بها أحد الطرفين الاسرائيلي او الفلسطيني العربي، فيحول حساسية الموقف الاقليمي بالنسبة لواشنطن الى عامل ضغط ضدها او وسيلة ناجعة للرد على ضغوطها. في ظل هذا الهامش تتحرك اسرائيل كما تتحرك اطراف فلسطينية وعربية حيث تحصل الخروقات المضادة، سواء لخريطة الطريق أم للهدنة المعلنة في فلسطين وغير المعلنة في لبنان. ومثل هذا الهامش مرشح للتوسع الى حد انفلات العقال، كما هو مرشح للتقلص الى حد الزوال وانعدام حظ الفرقاء من المناورة. وفي ذلك نجد تفسير ما حدث مؤخراً في فلسطين لعمليات القتل الاسرائيلي لفلسطينيين في نابلس وعمليتي رأس العين وشلومي والتصعيد على الجهة اللبنانية اغتيال أحد كوادر حزب الله في العمق المدني اللبناني وما تبعه من عملية في مزارع شبعا ورد على احدى المستعمرات الاسرائيلية في الجليل الاعلى. قد يكون ما حدث مجرد اختبار اولي لامتحان رد الفعل الدولي، بعامة والاميركي بخاصة. وهنا لا بد من القول ان اسرائيل اظهرت، حتى الآن، إدراكاً لحساسية الموقف الذي هي فيه فلجأت الى مجلس الأمن بمناورة مزدوجة: اظهار نفسها في لبنان بالمعتدى عليه بعد ان نفذت القرارات الدولية، واحراج سورية التي ترأس مجلس الأمن الدولي في هذا الشهر. كما أنها لم ترد بالطريقة التي اعتادت عليها إزاء أحداث أقل اهمية من عمليتي تل ابيب وشلومي. وأظهر الجانب الفلسطيني أنه ما يزال يتمتع بمشروعية الرد المسلح على اعمال العنف الاسرائيلي ضد ابناء الشعب الفلسطيني في حين ان المقاومة في لبنان رغم تعرضها لاعتداء في عمق مناطقها باغتيال احد كوادرها، حصدت ملامة تعدت الطرف الاميركي الى الطرف الاوروبي. وظهر أن العالم من حولها أقرب الى التفسير الاسرائيلي في تنفيذ القرار ال 425 من التفسير اللبناني السوري الذي تشرّع المقاومة وجودها على أساسه، والقائل بأن مزارع شبعا وجرود كفر شوبا المحتلة من قبل اسرائيل تخضع للقرار نفسه الذي كانت تخضع له الاراضي اللبنانية التي انسحب منها الاحتلال في أيار مايو 2000. الولاياتالمتحدة، من جهتها، ظلت، في الموضوع الفلسطيني، أكثر ميلاً لتنبيه اسرائيل إلى خطورة مواقفها واعلان تحفظ واشنطن عن الرد الموسع الذي يمكن ان تلجأ إليه اسرائيل. خريطة الطريق والهدنة قد تسقطان امام خروق اكثر جدية مما حصل، لكنهما قد تصمدان بانتظار تطورات بعضها متصل بالوضع العراقي وبعضها بالوضع الانتخابي الاميركي. وحتى تأتي تلك التطورات يبدو الموقف العربي بعموميته ملتبساً ومرتبكاً في حقه، والموقف الاسرائيلي على حراجته يوظف الوقائع لباطله.