يمر عام، ويعود اللقاء مرة أخرى مع السينمائيين التونسيين من محترفين وهواة في أروقة المدينة الصغيرة قليبية التي اعتادت ان تحتضن "مهرجان فيلم الهوا" العريق منذ نحو أربعين عاماً شاهدة على صعود نجم الكثير من السينمائيين العرب ومنهم التوانسة فريد بوغدير والطيب الوحيشي ورضا الباهي والمصرية عطيات الأبنودي. تميزت الدورة الأخيرة بالحضور العربي المكثف لسينمائيين محترفين أتوا الى المهرجان بغرض التكريم أو المشاركة في لجان التحكيم منهم أسماء البكري من مصر وجان شمعون وإليان الراهب من لبنان وهشام كايد السينمائي الفلسطيني المقيم في بيروت ومحمد توفيق العراقي المقيم في الدنمارك، ومن السينمائيين التونسيين محمود بن محمود المقيم في بلجيكا والذي ترأس لجنة التحكيم الدولية لهذا العام والمنتج نجيب عياد والمخرجة سلمى بكار وهشام بن عمار وغيرهم. يتميز مهرجان قليبية عن غيره من المهرجانات الصغيرة بجوه الحميمي ومناقشاته السينمائية الطويلة. ولكن يبدو أن تمسك المهرجان في دورته الواحدة والعشرين باسم "الهواة" يعطل من مسيرته ولا يسهم بحال في تطويره. بل يجعله مصاباً بالفصام. فها هو يستضيف المحترفين، ويعرض الأفلام المحترفة في مسابقته الدولية ضارباً بعرض الحائط المقاييس المفترض مراعاتها في أفلام الهواة. بينما يقع الظلم على الأفلام التونسية وبعض الأفلام العربية التي تم تنفيذها بالفعل من قبل هواة السينما. ما حدا بلجنة التحكيم الدولية الى ان تعلن في توصياتها عن أهمية انتقاء أفلام تعكس مفهوم الهواة في شكل واضح. أما الحجة القوية للتمسك بالاسم فهو ان المهرجان تنظمه الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة لكنها حجة لا تستند الى المنطق. إذ من الممكن أن تنظم هذه الجامعة مهرجاناً للشباب أو مهرجاناً للأفلام المستقلة. كما يمكن أن يجمع مهرجانها بين قسمي الهواة والمحترفين. تلاشي المفهوم المشكلة لا تكمن فقط في تحديد معيار لأفلام الهواة والذي في تصورنا يسهل تحديده، بينما في تغير مفهوم هواة السينما على مستوى العالم. فلقد انقرض "السوبر 8 ملم"، وتراجعت أشرطة ال"16 ملم"، بينما انتقلت السيادة للفيديو الرقمي بمقاساته المختلفة. وعندما بدأ نجم "الرقمي" في الصعود، أخذ هذا التيار المتنامي يدمج بين عشاق السينما من محترفين وهواة منضوين تحت لواء الكاميرا الرقمية، والمونتاج اللاخطي على أجهزة الكومبيوتر... انسل تحت هذا التيار طلاب فن، محللون، موثقون، فنانون تشكيليون... ولكل منهم هدف وغاية، وعلى سبيل المثال هناك الكثير من الفنانين التشكيليين وجدوا في الصور المتحركة والأصوات وسائل جديدة للتعبير عن رؤاهم الفنية تضاف الى أدواتهم القديمة. لكن هل يمكن اعتبار هؤلاء الفنانين من الهواة أم من المحترفين إذا أخذنا في الاعتبار أن بعض هذه الأفلام يتم تمويلها أو تسويقها عبر المحطات التلفزيونية؟ المسابقة الدولية لا يمكننا أن نترك هذا الجدل التصنيفي جانباً ونحن ننظر في الاعتبار الى أفلام المسابقة الدولية لأننا سنجد أن هناك أكثر من 50 فيلماً أتى معظمها من أوروبا وبخاصة من ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وروسيا ويغلب عليها طابع الاحتراف، حتى على مستوى العيار، إذ صور معظمها على شريط 35 ملم. بينما على مستوى الموضوعات تتمحور السينما الإيرانية حول ذاتها لتشكل الكليشيه فيه الذي اصبح سلعة قابلة للتصدير من مهرجان كان وحتى مهرجان قليبية، ينطبق هذا أيضاً على الفيلم الفائز بجائزة الصقر الذهبي وهو فيلم "شجرة الأرز" للمخرج أزما نجافيان الذي اتخذ من تفاصيل عالم الصيد البحري وصناعة الشباك موضوعاً له مغرقاً في الجماليات من دون أي أبعاد تتخطى الشكل. أما الفيلم الفائز بالجائزة الفضية فهو فيلم اسباني يحمل اسم "60 عاماً" للمخرج سولا خافي الذي لا يتعدى كونه معالجة مبتسرة لرائعة جورجي أمادو "الرجل الذي مات مرتين". ولا يشي الفيلم بأي إضافة على المستوى الفني أو الفكري. بينما تجاهلت لجنة التحكيم أفلاماً أكثر أهمية مثل الإنكليزي "أبطال" لبول ويتنغتون، والإيطالي "روتين" للورا كيوسوني. أما الصقر البرونزي فذهب الى الفيلم التونسي "انحباس" لأنور الأحور وهو الفيلم الوحيد من الأفلام الفائزة الذي تنطبق عليه مقاييس الهواة بالفعل، وهو عبارة عن رحلة داخلية عبر شخصية محبطة تجتر آلامها وإحباطاتها داخل عالمها المغلق المغرق في العطن. جعل الأحور في فيلمه تاريخ 9 نيسان/ إبريل: سقوط بغداد دلالة رمزية لما يحدث من طوفان داخل شقته تختلط فيه بقايا الطعام بألوان العفن لتؤدي الى تركيب جدلي/ جمالي. ان هذه اللحظة المكثفة بسوداويتها لم تود بنا الى انتحار بطلنا بل تركته على أعتاب التردد/ التراجع، ربما الأمل. السينما التونسية نحو الأسوأ على رغم وعي الأحور في "انحباس" بأزمة بطله ومحاولة تجاوزها، إلا أنه يعكس اتجاهاً في السينما التونسية الشابة بات واضحاً في معظم أفلام المسابقة الوطنية وهو اتجاه محبط ينحو نحو الجانب المظلم من دون وعي كاف بأبعاد المشكلات المطروحة. وأصبح الأسود في هذه الأفلام غير مبرر. بالطبع يعكس أزمة، لكنها أزمة مبهمة فكرياً تسير جنباً الى جنب مع الضعف التقني الذي اعترى معظم هذه الأفلام. الاستثناءات القليلة تتمثل في فيلمين: "رجل وذاكرة" لمروان المؤدب الذي نوهت به لجنة التحكيم الدولية على رغم انه لم يعرض سوى في المسابقة الوطنية التي حرمته لجنتها من الحصول على جائزة ونوهت به أيضاً. أما الفيلم الآخر فهو "المدرعة عبدالكريم" لوليد مطار وهو فيلم بالأبيض والأسود استخدم السخرية المريرة كأسلوب لطرح موضوع الهجرة غير الشرعية أو "الحرق". اعتمد وليد على المحاكاة الساخرة بحب ووعي لعلامة من كلاسيكيات السينما وهو فيلم "المدرعة بوتمكين" لسيرغي إيزنشتاين، واستخدم تقنيات الفيديو الرقمي ليمرر محاكاته من إيحاءات ومؤثرات بقدم الخامة المستخدمة، الحركة غير الطبيعية الناتجة من السرعة المستخدمة وقتئذ، اللوحات المكتوبة بديلاً من الحوار... ترك وليد بمدرعته أثراً يتجاوز الشخصيات المحبطة التي خلفتها الأفلام التونسية الأخرى. واستحق بجدارة أن يفوز بالجائزة الأولى في المسابقة الوطنية، والحصول على تنويهين من اللجنة الدولية ولجنة النقاد. مسابقة أفلام معهد السينما وهي مسابقة يضيفها المهرجان الى نشاطاته للمرة الأولى وتمنح لجنة تحكيمها جائزة واحدة لأحسن فيلم طلابي. لجنة أفلام المعاهد تكونت من المخرجة المصرية أسماء البكري واللبنانية إليان راهب والبلجيكي تياري دي سميدت. وأسندت اللجنة جائزتها عن استحقاق للفيلم الهندي "هوراه... هوراه" لتيل باسو الذي يعرض الحياة داخل محطة قطار ضخمة تسيطر عليها الحياة البائسة، ويتعرض فقراؤها دوماً لمطاردات الأمن، وتحول الأبواب الحديدية الضخمة دون احتمائهم بالمحطة. كما أسندت اللجنة تنويهاً للفيلم اللبناني "كلنا للوطن" لفادي قاسم، وآخر لفيلم "الذبابة" للألمانية آريان ماير. وإن كانت هناك أفلام أخرى لا تقل أهمية عرضت في القسم نفسه منها "سلم الرمادي" للبناني أمين درة، و"الرجل الشيء" للبولندي سلافومير فبيكي، و"أن تنام بهدوء حتى السابعة" للمصري تامر محسن.