استعرض الرئىس صدام حسين قبل اسابيع، بكل زهو وهو يطلق الرصاص من على منصة عامة في بغداد، وعلى مدى ساعات، آلاف "المتطوعين" العراقيين "من اجل تحرير فلسطين"، وهم يدوسون بأقدامهم صور الدولار الاميركي. وليس جديداً على العرب عموماً وعلى العراق خصوصاً استخدام المعاناة الفلسطينية كورقة سياسية، وهي استخدمت في اعقاب اي هزيمة فلسطينية او عربية كأداة لتكريس الاستبداد او للقفز على السلطة باسم "تحرير فلسطين". فانقلاب 1941 في العراق اطاح الشرعية الدستورية وانحاز الى المانيا النازية بتأثير القضية الفلسطينية والفلسطينيين، الامر الذي انتهى باحتلال العراق مجدداً بقوات بريطانية. وفتحت هزيمة العرب في حرب 1948 الابواب واسعة للانقلابات العسكرية باسم "تحرير فلسطين" فأطاحت ما كان موجوداً، على ضعفه، من ممارسات ديموقراطية وبرلمانية في دول مثل سورية ومصر. وتكررت التجربة بعد هزيمة 1967 حين توسعت رقعة الدكتاتويات العسكرية في انحاء العالم العربي لتمتد الى مغربها. ان الاستغلال السلبي للقضية الفلسطينية ليس مقصوراً على النخب الحاكمة بل امتد الى القوى الحزبية المعارضة. ومن المفارقات ان يسقط عبدالكريم قاسم، الذي شارك في حرب 1948 وشرع في اقامة وتدريب اول جيش فلسطيني عام 1959، ضحية حزب البعث وعداء القوميين له بتهمة الشعوبية والدكتاتورية. ان معظم الاحزاب القومية، ان لم يكن جميعها، التي افرزتها هزيمة العرب في فلسطين جعلت من "الانقلابية"، و"الثأر" و "الدم والحديد والنار"، والوصاية على الشعب باسم "الطليعة" بديلاً من الديموقراطية والبناء الاقتصادي. وذهبت ابعد من ذلك بإعاقة التحولات الديموقراطية في العديد من الدول العربية وكرّست الممارسة الدكتاتورية عند استلامها السلطة باسم "تحرير فلسطين". ان هذه القوى التي استلمت السلطة في الخمسينات والستينات باسم "تحرير فلسطين" تسببت بضياع المزيد من ارض فلسطين، كما انها كانت اكثر دكتاتورية. يحارب الفلسطيني اليوم باسم الوطنية من اجل اقامة الدولة الفلسطينية على الارض المحتلة عام 1967، وقد حصر المقاومة بذكاء في داخل الاراضي المحتلة عام 1967، وبذلك كسب العطف كمحارب من اجل الاستقلال والتحرر من الاحتلال، وليس كقومي عربي يطالب بازالة "الكيان الصهيوني" وغيرها من شعارات "الثورة العربية" و"الوحدة العربية" التي اعتاد عليها الشارع العربي في الخمسينات والستينات. فالفلسطيني يحارب اليوم من ارض فلسطينية يعيش عليها، وليس من ارض شعب عربي آخر، ولا يريد ان يكون مصيره مصير لاجئي 1948 او 1967 اذ انه اكتشف بالملموس ان شعارات "الاخوة" العربية و"القومية" العربية ليست بديلاً من وطن فلسطيني ودولة فلسطينية، خصوصاً ان تجربة العمل الفلسطيني في مواطن عربية اخرى الاردنولبنان وسورية اثبتت فشلها الى حد القطيعة عندما ارادت الحركة الفلسطينية فرض اجندتها السياسية على الاولويات الوطنية لتلك البلدان العربية، و"ايلول الاسود" مجرد مثال. هنا اخطأ الاسرائيليون في فهم اهمية ما تبقى من الارض بالنسبة الى الفلسطيني، اذ ان الضفة الغربيةوغزة باتتا اليوم "مسادا" الشعب الفلسطيني. وبالمقابل نجحت القيادة الفلسطينية في مزاوجة البعد الوطني بالديني عندما جعلت انهاء احتلال المقدسات الاسلامية والمسيحية هدفاً لها، وهذا ما شهدت عليه قمة الدوحة الاسلامية بالحضور الفلسطيني المسيحي المكثف. ان الهم الوطني وليس القومي اخذ يحتل الاولوية في فكر النخب السياسية العربية ومنها الفلسطينية، فانطلاقة "فتح" هي في الاساس تعبير عن هذا التحول. وبعد عقود من النضال استطاعت الحركة الوطنية الفلسطينية انتزاع شرعية التمثيل الفلسطيني من الوصاية العربية التي مورست باسم "القومية". كما ان مشاعر التضحية في ثلاث حروب مع اسرائىل دفعت بالمواطن المصري الى التساؤل: هل يريدون تحرير فلسطين بآخر جندي مصري؟ ان هذه القناعة كانت وراء التحول لصالح مسيرة السادات السلمية والتي استرجع بها ما كان محتلاً من ارض الوطن المصري. وكذلك حال ابن الجنوب اللبناني، الذي طالما وظف لخدمة الاجندة الحزبية لقوى خارج منطقته باسم القومية، ولم يستعد اللبناني دوره الا عندما اخذ يحارب لتحرير ارض لبنانية محتلة، وفي هذا كان سر نجاحه في تحقيق الانسحاب الاسرائىلي من الجنوب اللبناني. الامر الذي لم تستطع تحقيقه المقاومة الفلسطينية التي عاشت سنوات في لبنان، وبالذات في جنوبه، وذلك لأن اولوية العمل الفلسطيني كانت "استنزاف" اسرائىل بابناء الجنوب اللبناني وليس انسحاب اسرائىل من الجنوب اللبناني. اثبتت تجربة نصف قرن من الصراع العربي - الاسرائىلي اولوية البعد الوطني على الوهم القومي، وليس هناك من نظام عربي مستعد للتضحية بالعامل القطري او الوطني من اجل "القومي"، ولكن هناك من لا يزال يلبس العباءة القومية لتمرير اضيق السياسات القطرية. وخير مثال على ذلك صواريخ صدام حسين على اسرائيل ابان حرب الخليج الثانية، التي انتهت بخدمة اسرائيل وخسارة اكثر من ربع مليون فلسطيني مواقع عملهم في الخليج. واليوم يزايد صدام حسين على السلطة الفلسطينية بمطالبتها بالتخلي عن مبدأ السلام مقابل الارض الذي هو اساس الشرعية الدولية لاستقلال الضفة وغزة، بقوله في اجتماع لمجلس الوزراء العراقي في منتصف تشرين الثاني نوفمبر الماضي: "ان موضوع استبدال الارض بالسلام موضوع لا نؤمن به"، ويضيف مطالباً مصر والاردن بالغاء اتفاقاتهما مع اسرائىل. هذا الخطاب المتطرف هو عين الخدمة لمتطرفي اسرائىل، فبطل اقتحام الاقصي واحتلال بيروت ارييل شارون هو اول المطالبين باسقاط معادلة الارض مقابل السلام، وهكذا يغذي متطرفو اسرائىل وصدام بعضهم بعضاً. ان اعتبار السلام خياراً استراتيجياً، لا يعني الاستسلام للواقع بل العمل لتغييره ولو باستخدام العنف للتوصل الى تسوية سياسية، وبهذه الحال تصبح الانتفاضة امتداداً للعمل السياسي وليس بديلاً منه. فالانتفاضة اثبتت ان المستوطنات اليهودية في غزة والضفة عبء على اسرائىل، وان استنزاف الفلسطينيين اقتصادياً سيخلق مزيداً من الاحباط وبالتالي استمرار الانتفاضة. كما ان استمرارها وفشل الوساطة الاميركية وانشغالها بالانتخابات فتح الباب مجدداً للوساطة الاوروبية والروسية. وللمرة الاولى لا تعارض واشنطن واسرائيل وساطة اوروبية او روسية خصوصاً ان هناك جالية روسية كبيرة في اسرائىل. من هنا نجد ان القيادة الفلسطينية على امتداد الانتفاضة ابقت الابواب مفتوحة للمفاوضات مع الحكومة الاسرائىلية، وبالمناسبة هذا ما قامت به الثورة الفيتنامية التي كانت تقاتل وتتفاوض في آن. المهم ان يكون الهدف الفلسطيني واضحاً من هذه الانتفاضة، وبحدود الممكن وتحت سقف الشرعية الدولية. وما يظهره الشارع الفلسطيني من تعاطف مع صدام حسين نكاية باميركا قد يصبح ورقة في يد القيادة الفلسطينية للضغط على اميركا، وليس اقتناعاً بدور لصدام في "تحرير فلسطين". في المقابل يستغل صدام الورقة الفلسطينية والعداء لاميركا لكسب عطف الشارع العربي بما يفك عزلته ويديم سلطته في بغداد، ويبقى هناك دائماً من العرب من يريد محاربة اميركا بأخر حافٍ عراقي. ويبقى تصفيق بعض الشخصيات ووسائل الاعلام العربية لطغاة عرب بدوافع اقتصادية او سياسية انتهازية امراً مفهوماً، اما القول بأن دوافع ذلك التصفيق لصدام حسين هو "التعاطف مع الشعب العراقي" او "الاخوة العربية" فهو اهانة لفطنة الفرد العراقي الذي لم يعرف من نظام صدام سوى القهر والحرمان و "التطوع" في حروب كارثية. * كاتب عراقي.