برهان غليون. الاختيار الديموقراطي في سورية. بترا للنشر، دمشق/ اللاذقية. 2003. 191 صفحة. من "بيان من اجل الديموقراطية" 1980 الى كتابه الجديد هذا الذي يأخذ صيغة بيان من أجل الديموقراطية في سورية، ظل برهان غليون مسكوناً بهاجس البحث عن افضل السبل الى الديموقراطية، وذلك انطلاقاً من انها تمثل تحدياً قبل ان تكون حلاً سحرياً عجائبياً، كما نعثر عليها في خطابات المثقفين العرب التي تضفي على الديموقراطية هالة من السحر وتجعل منها مفتاحاً يفتح جميع الاقفال والابواب. وعلى طول هذا المسار الذي يمتد على ربع قرن، ظل برهان غليون عند قناعاته ومطارحاته الفكرية. فالدولة العربية هي دولة ضد الأمة انظر كتابه "الدولة ضد الامة" مركز دراسات الوحدة العربية، 1993، والحداثة العربية هي حداثة النخبة إذ دخلت كحليف لمجتع النخبة مجتمع النخبة، 1985 ولم تكتف بذلك، بل قادت الى "اغتيال العقل" من خلال سجالاتها العقيمة التي جعلت من المثقفين العرب حراساً لأوهام وشرطة لعقائد وايديولوجيات، سعوا الى فرضها على الجماهير العربية عنوة. على رغم ضبابية مفهوم الديموقراطية لدى جماعات المعارضة السياسية في سورية وفي مقدمها جماعة المجتمع المدني، وكذلك ضبابية مفهوم المجتمع المدني، فغليون يرى ان سحر القول في الديموقراطية الذي جعلها شعاراً من جانب قوى المعارضة، يجعل منها ضرورة تاريخية. وهذا ما يبرر فاعلية القوى السياسية السورية التي تجمع على شعار الديموقراطية، مسقطاً في الوقت نفسه كل المبررات التي تهدف الى تأجيل الاصلاح السياسي والديموقراطي تحت حجج واهية، كالقول بعدم نضج المجتمع، وان تجربة الديموقراطية لا تناسب مجتمعاتنا، وانها بذرة غريبة لا تناسب تربتنا، وان الاولوية للاصلاح الاقتصادي على الاصلاح السياسي… الخ من الحجج التي تتكاثر في بلدان العالم الرابع كفطر سام بحسب توصيف سمير أمين. في جوابه عن التساؤل: ما هي الديموقراطية التي نريدها لسورية؟ والذي تفرضه كثرة التبريرات التي يسوقها البعض من حراس الاوهام وشرطة العقائد، يميز غليون في اطار سعيه الى تبرير فعالية المعارضة السورية ومشروعيتها، بين ثلاثة مستويات للديموقراطية كثيراً ما يجري الخلط بينها. الاول: هو المستوى النظري اي مستوى المفهوم في صورته المجردة وكما تبلور حتى اليوم في الادبيات السياسية العالمية، للتعبير عن مجموعة متباينة من النظم التي تجمعها خصائص واحدة او مشتركة. والمستوى الثاني هو المستوى التاريخي الواقعي، وهذا يتجاوز سابقه بالنظر الى الديموقراطية كتجربة حيةو مجرد مفهوم نظري، وبالتالي الالتفات الى مستوى التفاعل الحي بين المفهوم والواقع التاريخي بصورة ادق، كيف يتفاعل الواقع التاريخي في كل مرة مع المفهوم بصورة خلاقة ومختلفة، وكيف يمكن للتحققات العينية في تجارب عدة من الامم ان تكون بلا حدود ولا نهاية. المستوى الثالث في الخطار الديموقراطي هو المستوى الايديولوجي الذي يجعل من الديموقراطية خطاب تعبئة اجتماعية في الصراعات السياسية. وفي هذا المستوى تُكتشف جميع اشكال الرهانات على الديموقراطية، وبالاخص تلك التي ترفع شعار الديموقراطية لاضفاء الشرعية على ممارسات سياسية او لتحسين ظروف معينة او لنيل حظوة… الخ. يدرك غليون ان المستويات الثلاثة السابقة قد لا تكون واضحة بالنسبة الى قوى المعارضة في سورية. وهذا ما يفسر من وجهة نظره، هذا التخبط في الممارسة وعدم وضوح الرؤيا وغياب بلورة دقيقة لمفهوم الديموقراطية، الا انه يرى ان كل ذلك لا يعيب الحركة الديموقراطية ولا يمثل بالنسبة لها عقدة نقص. فما زال المفهوم موضع جدال ونقاش على صعيد عالمي وحتى في البلدان الاوروبية التي باتت نموذجاً يحتذى في هذا المجال، ومقياسا للقياس. فالمطالبة بالديموقراطية من قبل المعارضة السورية، تنطوي وحدها على قيمة، وهذا لا يعني ان المطالبة بالاصلاح السياسي الديموقراطي ضرب من ترف مثقفين، وان لا ارضية لها، وانها دعوة في فراغ، إلى ما هناك من التهم الجاهزة التي تقال في كل مناسبة بحجة الخوف على مستقبل الدولة في سورية، خصوصاً في هذا الظرف الصعب، الذي كثيراً ما تم الاحتكام اليه بحجة التهرّب من الاستحقاقات السياسية والديموقراطية. ويشدد غليون مراراً على القول إننا نحتاج في مجال الحديث عن الديموقراطية ومستقبل سورية الديموقراطية، الى رؤية واضحة يصفها بالرؤية الديموقراطية، وهو يستدرك هنا ان هذا لا يعني اختراع ديموقراطية من العدم، بل الاستئناس بالتجارب الديموقراطية وليس القياس عليها او تطبيقها، ومن هنا تأكيده على ان الديموقراطية ليست حلاً بل هي تحد، وانها ليست وصفة بل برنامج عمل ديموقراطي هدفه وضع حد للنظام الشمولي، وتفكيك آليات عمل هذا النظام التي اثبتت التجارب، كما يقول غليون، عجزه عن تحقيق الاهداف التي خطها لنفسه، وفي مقدمها التصدي للفقر والاستغلال السياسي. ما يطمح اليه غليون من وراء برنامجه الديموقراطي، هو تجسير الهوة بين الدولة والمجتمع التي انتهت بتدمير المجتمع العربي وليس السوري وحده، وتجييره من قبل السلطة بحجة ان الرعاع يحتاجون دوماً الى دولة الاكراه التي ينظر اليها احد المثقفين السوريين على أنها ضرورة شرعية وتاريخية لأن منطق السياسة الذي لا يقيم وزناً للأخلاق يقوم على الغلبة التي تتطلب اخضاع الرعية وقياتهم الى المرعى. وهذا هو حال التكنولوجيا الرعوية التي يفضحها ميشيل فوكو والتي قادت الأمة الى رواق الحرب الاهلية العربية التي عرفتها معظم الاقطار العربية . من هنا تأكيد غليون على ان البرنامج الديموقراطي هو عتبة للانتقال باتجاه عهد جديد، مصحوب بعقد اجتماعي جديد "لأنه يتضمن التزامات من قبل السلطة تجاه المجتمع، ويقدم للمجتمع وثيقة يستخدمها في مساءلة السلطة عن انجازاتها ومحاسبته لها". ويضيف غليون "من دون برنامج ليس من الممكن السير في اي اتجاه ولا تحقيق اي تحويل او تغيير ولا وجود اي فرص للمساءلة والمحاسبة والمراجعة على الاطلاق". أعود للقول انه اذا كان "بيان من اجل الديموقراطية" بمثابة دعوة لفتح الباب على مصراعيه لمشاركة شعبية ديموقراطية، بعد ان قامت الدولة الاصولية العلمانية العربية باقصاء المجتمع واعلان الحرب عليه، فان البيان الجديد عن الديموقراطية في سورية، ومن خلال تأكيده على اهمية البرنامج الديموقراطي والتحول الديموقراطي المطلوب، هو بمثابة دعوة سلمية يشدد عليها غليون بهدف اصلاح سياسي يطال الراعي والرعية، السلطة والمجتمع.