يزداد الحديث اليوم عن "الإسلام السياسي" وغير ذلك من المصطلحات المتداولة، مما يتطلب بحد ذاته بحثاً، بغية تأطير هذه المصطلحات وضبطها وتحديد المعنى الدال عليها وإخراجها من المجال الأيديولوجي الى فضاء معرفي تتحرك ضمنه. وبلغة أخرى على البحث ان ينقل هذه المصطلحات من لغة الصحافة الى لغة "علم الاجتماع السياسي". يشكل كتاب حوار الدين والدولة إضافة مهمة في سبيل الحوار العربي المختلف، إذ هو عبارة عن "حوارية" اذا صح التعبير بين برهان غليون صاحب كتاب "نقد السياسة" وسمير امين الذي قام بنقدٍ للكتاب، ثم قام غليون بالرد عليه، وهكذا نشأت هذه "الحوارية". أهمية هذه "الحوارية" أنها تتم بين رؤيتين فكريتين متغايرتين، ترسمان معالم محددة على الواقع العربي اتباعها اذا اراد الخروج من ازمته. تتمحور رؤية غليون في تحليله لأزمة الواقع العربي على اعتبارها ازمة اجتماعية - سياسية تشكلت بدايتها مع تشكل النخب الحديثة في مرحلة ما بعد الاستعمار عندما جرى الفرز الاجتماعي بين نخبة تمايزت وتحدثت وبين فئات المجتمع التي بقيت بمعزل عن عملية التحديث التي مارستها الدولة التي اتكأت على النخبة مما خلق هوة واسعة بين النخبة ومجتمعها، ازدادت هذه الهوة اتساعاً، مما جعل النخبة تعيش مشكلاتها الخاصة بها، وتنعزل نهائياً عن المجتمع الذي تحول الى الهامش، وازدادت هامشيته لينتهي في مدن الصفيح واللجوء الى الهجرة واللهاث وراء لقمة العيش بمعزل عن التغيرات السياسية التي تمر بها الدولة. هذه "الحداثة المغدورة" بحسب ما يسميها في احد كتبه خلقت معادلة غير متكافئة بين النخبة التي شكلت الدولة وبين المجتمع الذي عاش الهامش، ولتزداد هذه المعادلة تعقيداً في صيغة "الدولة ضد الامة" وهو عنوان احد كتبه ايضاً، وليكون المخرج من هذه "المحنة العربية" في فتح مجال الاشتراك السياسي لكافة القواعد الاجتماعية القائمة على الوطنية والحفاظ على الهوية وتبني الديموقراطية كحلٍ للمعضل الاجتماعي السياسي العربي، تلك - باختصارٍ شديدٍ - الخطوط العامة لمشروع غليون الفكري التي وضحها في العديد من كتاباته ومؤلفاته. أما رؤية سمير امين فإنها تقوم على قاعدة تحليل أزمة الرأسمالية العالمية الراهنة على اعتبار ان وظيفتها اليوم تقوم على ادارة الازمات وليس على حلّها، إضافة الى ان نمط الانتاج الآسيوي يشكل المدخل لفهم الازمة الداخلية التي تعيشها هذه المجتمعات وبالتالي فهذه الرؤية تنطلق بشكل او بآخر من ضرورة تجديد الماركسية والعمل على إعادة صوغ اليسار العربي. هذا الاختلاف المنهجي بين الرؤيتين سيفرض اختلافات شتى على مستوى القضايا ومواقف متباينة على مستوى التحليل لهذه القضايا. سنعمد في هذه القراءة على إبراز هاتين الرؤيتين بالنسبة لقضية الاسلام السياسي والموقف منها اليوم. فسمير امين ينطلق في تحليله لهذه الظاهرة من اعتبار ان "الاديان كظواهر اجتماعية تاريخية تتمتع بدرجة عليا من المعرفة تتيح تكيفاً وفقاً لتطور العلاقات الاجتماعية"، وانسجاماً مع هذا الموقف من الدين يأتي موقفه من حركات الاسلام السياسي التي هي شكل من اشكال حركات الرفض الشعبي. و"السمة الرئيسية الواضحة التي تتسم بها هذه الحركة هي غيابها عن ادارة الصراع على ارضيات الحياة الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية وهجرها الى الحلول المجردة العامة الاسلام هو الحل، وامتناعها عن ترجمة هذا الشعار المجرد الى برنامج ملموس يتناول المطالب الشعبية وإجابات عينية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية". وهكذا تتحول حركات الاسلام السياسي بنظر امين الى مظهر من مظاهر الازمة العربية الراهنة ولم يكن تشكلها ابداً كحل لهذه الازمة، وفشلها الحالي يعكس اضطرابات نظرية في بنية الخطاب نفسه وعدم استيعاب للتغير الاجتماعي والاقتصادي العالمي الراهن مما عكس فشلاً على مستوى الاداء الفعلي. وهكذا يتم تفسير الازمة العربية الراهنة بالفشل السياسي الاجتماعي - الاقتصادي الذي تقوم به النظم الاسلامية وبمنطق الرأسمالية التي لا تستهدف التنمية "ولا تطوير المناطق المتخلفة، وإنما يقوم منطقها على تحقيق اعلى ربح ممكن لصالح رأس المال المهيمن وفي المدى القصير، فالرأسمالية تنتج الاستقطاب اي التناقض بين التنمية والتخلف". واذا استمرينا في متابعة تشخيص امين لازمة التخلف العربي التي هي ليست ازمة هوية على الاطلاق بل هي "ازمة اجتماعية ناتجة عن قوانين التوسع الرأسمالي على صعيد عالمي وتمويل بعض مناطق الاطراف في هذا الإطار الى مناطق مهمشة لا دور تاريخياً لها في المستقبل المنظور". وان خطاب الهوية - اي الخطاب الذي يدعي ان ازمة الواقع العربي تكمن في فقدانه هويته - هذا الخطاب بالنسبة لامين يدل على ازمة مجتمع فاشل في مواجهة التحديات الحقيقية، "فالتاريخ يثبت ان المجتمعات التي نجحت فعلاً في التطور تكيفت به وغيرت هويتها بل من دون تساؤل احياناً عن هويتها الاصلية كما يقال". الهوية والأزمة هذه نقطة خلاف جوهرية مع برهان غليون الذي يبني تحليله الاجتماعي السياسي على خطاب الهوية وضرورة البحث عن الهوية اذ ان الازمة العربية الراهنة تتجلى في "فقدان الأسس الفكرية لقيام كيان جماعي واحد، اي الهوية السياسية التي تبرر وجود كيان مستقل، وجماعة قائمة بذاتها، وهو ما كانت تقوم به الوطنية كفكرة مؤسسة جماعية". ومن هنا بالضبط تنبع اهمية العقيدة ودورها في تشكيل هذه الهوية المفقودة اذ تقف خلف هذه العقيدة البنية القيمية والتخيلية والرمزية بأكملها وما تلعبه من دور في حياة وتطور وحركة المجتمعات البشرية. ان تحليل غليون لمشكلة "الاسلام السياسي" ينبع من فهمه لعلاقة الدين والدولة في الاسلام. "فالدولة الاسلامية نشأت كحاصل توازن بين منطق الجماعة التي كوّنها الدين ومنطق الدولة التي فرضتها الحسابات الجيوسياسية والسياسية، لقد ولدت الدولة الاسلامية بعملية قيصرية أعيد فيها تعيين مكانة الدولة ومكانة الدين وتبديل مفهوم الدولة ومفهوم الدين". وبالتالي فنظرية "مرونة الأديان" التي يبني عليها الماركسيون الكثير من تحليلاتهم وتصوراتهم لا مكان لها. "فالعقيدة لا تتطور الا من خارجها، اي بتبدل الظروف المادية التي تحيط بها، لكن هذا التطور بسبب تأثير تبدل الشروط الاجتماعية والسياسية لحياة المجتمعات، لا يبقى عاطلاً من دون تأثير لاحق على هذه الشروط نفسها، انه يمارس تأثيراً جدلياً او مقابلاً فيها". واتساقاً مع هذه الرؤية يبني غليون تحليله للحركة الاسلامية الذي هو تحليل اجتماعي سياسي يميز بين حركتين، حركة أو نزعة متمردة تشكل رداً على تفاقم التبعية والاستلاب والتهميش الاجتماعي، وحركة او نزعة رسمية تشكل احد اطراف التحالف التبعي الحاكم في العديد من الأقطار. فالحركات الاسلامية هي حركات سياسية بامتياز واجتماعية ذات مصالح ونزوعات واضحة ومحددة تعني الصراع على السلطة مباشرة. وان ما يميز هذه الحركات ويعطيها هويتها هو انها تعبير عن ارهاصات اجتماعية جديدة تمد جذورها داخل اخفاق نموذج كامل للتحديث والحداثة العربية بكل اشكالها وتفرعاتها، وبقدر ما جاءت هذه الحداثة حداثة مجهضة استلابية واستهلاكية ونخبوية بقدر ما تغذى التيار الديني الاجتماعي على هذا الشعور المتزايد بالضياع والهجر وانعدام الأفق والمستقبل الذي خلقته هذه الحداثة. ويحدد غليون تفسيره لظهور حركات الاسلام السياسي في التقاء ثلاثة عوامل وتفاعلها معاً، الأول ثقافي نابع من تفاقم الهيمنة الغربية المادية والفكرية، والثاني سياسي ناجم عن تحلل الفكرة الوطنية القومية وانفجارها وانهيار الدولة كمبدأ وطني، وتحولها الى أداة قهر اجتماعي، والعامل الثالث في الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي انعكست في صورة تدهور مطلق في مستويات معيشة الطبقات الشعبية وتفاقم التفاوت الفاحش في توزيع الدخل. كيف الخروج من هذا المأزق؟ يرفض غليون طرح العلمانية كحل سحري، ونفي الصفة الايديولوجية عنها واعتبارها ظاهرة كونية وعالمية لن تشهد المجتمعات التقدم والحداثة الا بتطبيقها لهذا المبدأ. بل انه بالعكس من ذلك يرى ان العلمانية ظاهرة ايديولوجية سياسية ارتبطت بفصل الدولة عن الكنيسة كما ارتبطت بالاعتراف بحرية الفرد الضميرية، وبالتالي يجب علينا فك الارتباط الذي يدعيه البعض بين العلمانية والديموقراطية، "فالاسلام ليس السبب في غياب الديموقراطية، وليس السبب ايضاً في نمط الانتاج الرأسمالي الحالي، بل ان جميع المجتمعات من الناحية النظرية تستطيع التحول الى مجتمعات ديموقراطية، وهذا يتوقف على قدرتها على السيطرة على عملية التنمية والتوزيع، وحفظ الحد الأدنى من التوازن الاجتماعي الداخلي، وتعميم نوع من التربية الفكرية والمدنية" فالديموقراطية ليست صيغة جاهزة ولكنها ثمرة تراكم خاص في الميدان الاجتماعي والسياسي والثقافي والروحي. ويرى أمين ان "الحوار مع الحركات الاسلامية غير مدرج في جدول العمل، طالما ان هذه الحركات ترفضه مبدئياً". ان غليون يحذر من خطورة هذا الخطاب لا سيما انه يصب في خانة السلطة السياسية التي تتبع سياسة الاقصاء، ويعمل على شرخ الهوية الوطنية، في حين ان المطلوب في الفترة الراهنة هو "الحوار بين القوى الاجتماعية والأهلية، وتجسيد السلطة الراهنة وفتح باب التغيير الذي هو شرط لتجاوز الأزمة في ابعادها العقيدية والسياسية والاقتصادية معاً". فالحوار ليس كلاماً فارغاً ولكنه استراتيجية وطنية هدفها اعادة بناء التفاهم الوطني كشرط لاعادة بناء الوحدة الوطنية. والذين يقفون ضد هذا الحوار اليوم في الأقطار العربية هم الذين اختاروا استخدام العنف والقوة، وطالبوا بوقف العملية الديموقراطية وتغيير الثقافة الوطنية، ولم يترددوا في وصف الجمهور الشعبي بالرعاع الذين لا يمكن ان يرقوا الى مستوى الوطنية، "ولا يمكن لسمير أمين ان يدعي اختيار الديموقراطية والسكوت على سحق القوى الأخرى لمخالفتها إياه الرأي". بين هذين الرأيين تقف اليوم غالبية الطروحات العربية المساهمة في تشخيص وتحليل ازمة الواقع العربي. وإن كان البعض يصنف اقرب الى هذا من ذاك فإن الآخر ربما يقترب من الأخير على حساب الأول. هذا الاحتراب الفكري بين الطرفين الذي يفرضه التغاير التام احياناً والجزئي احياناً اخرى والوقوف على ارضيات متباينة لا يرى المستقبل المنظور اي بشائر في انتهائه وسلوكه السوي في الحوار والمثاقفة على دائرة الاجتماع الوطني، وإدراك ان الاختلاف الفكري هو نتيجة لثراء معرفي يجب استغلاله واستثماره بما يفيد هذا الاجتماع لا بما يعمق ازمته. ان "الحوارية" التي تجلت في هذا الكتاب تشكل نموذجاً لحوار راقٍ، نأمل ان يتحول السلوك في الساحة الثقافية العربية الراهنة التي يسودها الصراع والتحازب. * كاتب سوري.