الثابت أن الموقف في العراق يتسم بالكثير من الغموض، وأن الولاياتالمتحدة الاميركية تشعر يوماً بعد يوم بالتورط، وأن قرارها بالمزيد من الوجود والإجراءات يتساوى تقريباً مع قرارها بالتخلي والإفلات. أو على الأقل فإن القرار الأخير ليس غائباً عن تفكيرها. والثابت أن هناك مقاومة عراقية جدية ومؤلمة بصرف النظر عمن يقوم بها، وبصرف النظر عن الخط الإعلامي والسياسي الذي قررته الإدارة الاميركية أو تبحث عنه لمحاربة المقاومة محاربة نفسية والتقليل من شأنها، بخاصة بعد مقتل نجلي صدام حسين وتصويرها الموقف على أن المقاومة ترتهن كلية بصدام وأسرته، وانها ليست قضية عراقية عامة، وأن هدفها شخصي، وهو الإنتقام من جانب قوات النظام لقوامهم. ومن ناحية أخرى، فالثابت كذلك ان الشعب العراقي بدأ يئن من حال الضياع وفقدان الأمن وفقدان الطريق إلى المستقبل، وأنه يشعر شعور ضحايا اللئام على موائد الطعام، بل الأدهى أن هؤلاء اللئام لا يستطيعون له نفعاً، فالأرجح أنهم لا يريدون. وبصرف النظر عن التفسيرات المتدفقة للموقف الأميركي في العراق، يستوي في ذلك أن يكون لعدم اليقين الأميركي صلة بحداثة عهد الاحتلال أو بتقاليد الدول المحتلة أو بقدرتها على تلبس روح روما القديمة في عالم مختلف تماماً، فإن كل ذلك لا يفيد في سياق التحليل الذي نسعى إليه، وذلك للتعرف على جدوى الإجراءات الاميركية في العراق، والسياق القانوني الصحيح لوجود قوات سلام في العراق، ويهمنا منها بشكل خاص إثنان، هما: المجلس الإنتقالي، والسعي الى دعوة قوات حفظ السلام للمشاركة في إقرار الأمن في العراق، مع تركيزنا على هذا البعد الخطير في تطور الأزمة العراقية. ويبدو أن الثوابت في العراق أصبحت في ازدياد، على حساب المتغيرات، وإن كانت فاعلة، وما بين الثابت والمتغير تزدهر التكهنات والفتاوى والرؤى التي تحاول أن تستشرف الغيب وترسم طريق المستقبل في عالم أصبح يشعر الكثير من القلق على هذا المستقبل، فإذا كانت درجة الاهتمام بالعراق ومستقبله هي حاصل ضرب الغموض الذي يحيط به والأهمية البالغة لإستجلاء الغموض أدركنا حجم هذا الإهتمام المتنامي ودواعيه. فمن ناحية، لو تأملنا مجمل الموقف الأميركي في العراق عند الغزو، ومنذ الإحتلال والتصريحات والبيانات والقرارات والإجراءات، لاتضح لنا أن الولاياتالمتحدة لديها آمال في العراق، لا يهم أن تكون مشروعة أو غير مشروعة، ولكن واشنطن لا تدري على وجه اليقين كيف يمكن تحقيق هذه الآمال، كما لن يكون لإسرائيل أي فائدة في هذا المأزق الأميركي الذي يلعب عامل الوقت فيه دوراً خطيراً. إذا كانت الولاياتالمتحدة قد عمدت منذ البداية إلى اللعب على عامل الوقت ورفضت تحديد مدة الإحتلال تاركة الأمر لما يتيسر في مقبل الأيام، وعينها على الثروات والشعوب، وتداعبها أحلام يعجز جيل واحد عن تحقيقها، فقد أصبحت المشاكل التي تحيط الولاياتالمتحدة في العراق تطرح على القيادة الاميركية سؤالاً ملحاً مركباً بخاصة كلما اقتربت بداية حملة انتخابات الرئاسة الاميركية. وإذا قدر لهذه المقاومة أن تسقط قتيلاً أو إثنين يوميا، وأن تقوم بأعمال جسورة تنم عن التنظيم والتدريب والتسليح، وإذا أصبح ذلك محسوساً لدى المجتمع الأميركي، فإن هذا العامل سيكون عنصراً ضاغطاً ومحرجاً بعدما صار الإخفاء والتمويه مستحيلاً. ولذلك أظن أن الإدارة الاميركية تحاول أن تحصل على الهدوء في العراق حتى تتمكن من تنفيذ برامجها التي أعلنت عنها في العراق، وربما للمنطقة كلها، بما في ذلك البرامج الإسرائيلية في العراق، والتي أعلن عن الكثير منها. أما المجلس الإنتقالي فهو مثال على محاولات الولاياتالمتحدة غير المتماسكة لتهدئة الموقف، وتحسين الصورة وإمتصاص النقمة. لكن هذا المجلس زاد النقمة إشتعالاً، واظهر التخبط الأميركي في صورة أوضح، وكلما فكرت الولاياتالمتحدة في تقديم صورة مصطنعة كلما تفاقمت النتائج وحاصرتها الآثار. ومثال ذلك ما تسرب عن الإدارة الاميركية من أنها تريد أن تعالج النقد الذي أحاط بهذا المجلس وبغيره من خلال إفتراضات غير مدروسة وملفقة. فقد تردد أن الولاياتالمتحدة تريد ان يعطي مجلس الأمن للمجلس العراقي الإنتقالي بعض الصلاحيات التمثيلية للعراق في الخارج، وأن تتمتع القنصليات العراقية في الخارج ببعض الصلاحيات، وتأمل بذلك أن تضفي الشرعية على هذا المجلس، وأن تمتص أوجه النقد، خصوصاً التي وجهها أحد مرشحي الرئاسة الديموقراطيين من أن الولاياتالمتحدة لا يمكنها أن تعمل وحدها في العراق بمعزل عن الأممالمتحدة. ولهذا السبب فإن الولاياتالمتحدة التي أسعدها كثيراً أن يفسح لها مجلس الأمن في القرار 1483 سلطات واسعة على غير العادة للدولة المحتلة، فإنها لا تزال ترجو أن يهم أصدقاؤها بعيداً عن مجلس الأمن بإرسال وحدات وطنية لمساعدة القوات الاميركية على ضرب المقاومة وتهدئة الموقف، وتولي مسؤولية الأمن في المدن العراقية نيابة عن القوات الاميركية. وقد أعلن بعض الدول فعلا استعدادها للتجاوب مع واشنطن مثل اليابان وبولندا، وبعض دول شرق أوروبا، وأسبانيا. أما ألمانياوفرنسا والهند، فقد أصرت على أن قوات حفظ السلام لا ترسل إلا من خلال مجلس الأمن. والواضح لمن يتابع للموقف في العراق أن هناك تخبطاً كبيراً في ما يتعلق بتحديد العلاقة بين القوات الاميركية والقوات الدولية، وبين الولاياتالمتحدةوالأممالمتحدة. فلا شك أنه من الخطر بمكان أن تعلن فرنساوألمانيا ودول أخرى أنها مستعدة للمشاركة في عمليات حفظ السلام في العراق إن قرر مجلس الأمن ذلك، ولا يجهل أحد إمكان أن يقرر مجلس الأمن ذلك بسهولة. لأن المجلس الذي أضفى الشرعية على الإحتلال، ومنح سلطات الإحتلال سلطات مطلقة تناقض تلك المقررة في إتفاقات جنيف للعام 1949، قادر على أن يصدر ترخيصاً بتشكيل قوة دولية في العراق. ولذلك يجب أن يكون الفصل كاملاً بين المنهج الأميركي في العمل مع الموقف العراقي، وبين الموقف الدولي، والفارق بين الموقفين هو كالفارق بين السماء والأرض. فالولاياتالمتحدة قوة احتلال تعامل معها قرار مجلس الأمن الرقم 1483 من هذا المنطلق، وتركها تقوم بمهمات صورت على أنها لمصلحة العراق والشعب العراقي، ولذلك إرتكزت مواقف الدول العربية والعالم على حض الولاياتالمتحدة على الإسراع بإنجاز هذه المهام والإنسحاب من العراق. اما المنهج الدولي، فهو يرى ما تراه الدول العربية، ولذلك لا يجوز الخلط بين الملفين والمنهجين، فإما أن تكون الولاياتالمتحدة قوة إحتلال وتعمل في إطار القرار 1483، أو أن تنسحب وتتولى الأممالمتحدة بالكامل مسؤولية الموقف في العراق. أما محاولة إجتزاء موقف الأممالمتحدة لكي يسد ثغرات الموقف الأميركي، فإن ذلك يؤدي إلى نتائج بالغة الخطر، ولا أظن أن التعرف على هذه النتائج يحتاج إلى جهد كبير، لأن الأمن في العراق وفي ظل الاحتلال مسؤولية أميركية، والمقاومة للوجود الأميركي في العراق مقاومة مشروعة. أما إنشاء قوة لحفظ السلام في ظل الاحتلال، فهو يثير لبسا حول معنى السلام في هذه الحال وهو السلام الأميركي Pax Americana ولا يجوز أن تسعى الدول إلى تكريس الإحتلال وتمكين الدولة العظمى الأولى من إنتهاك القانون تحت أي مسمى وبأي ذريعة. فإذا تمكنت الولاياتالمتحدة من الإنتقال على سبيل المناورة من السعي لدى الحلفاء إلى تشكيل قوة سلام خارج إطار مجلس الامن، فإن هذه القوة تنضم إلى القوات الاميركية في العراق لممارسة الإحتلال والبطش وتعويق المقاومة العراقية، وهذه المقاومة تعد في القانون الدولي أداة معتبرة لكي يقوم الشعب العراقي بتقرير مصيره. وإذا قرر مجلس الأمن إرسال هذه القوات رغم وجود الإحتلال، فإنه بذلك يكون قد أضاف تصرفاً خاطئاً جديداً إلى تصرفاته غير القانونية في العراق، وفي غيره، ويورط الدول الأخرى في مساندة الإحتلال، وسيحدث بذلك خلطاً خطيراً بين سلام الشعب العراقي وسلام قوات الإحتلال، وهي سابقة غريبة ليس لها مثيل في التاريخ المعروف. صحيح أنها تنسجم مع المنظور الأميركي الإنتهازي للقانون الدولي وأجهزته، لكنها يجب أن تلقى معارضة الدول كافة، خصوصاً الدول العربية التي يجب أن تصرّ على أن الولاياتالمتحدة بغزوها للعراق قد عبثت بمصيره، وراهنت على استقراره ووحدة أراضيه، وأن العالم العربي مستعد لأن يشارك في قوات سلام دولية بعد رحيل قوات الاحتلال، وتكون مهمتها تمكين الشعب العراقي من تقرير مصيره، وتشكيل هيئات الدولة وأجهزتها في جو من الثقة والطمأنينة. والغريب أن بعض المسؤولين في العالم العربي، قد بهرتهم فكرة قوات حفظ السلام، أو هكذا زين لهم، فراحوا يدعون إليها، وكأن في سعيهم ودعوتهم إظهاراً للحرص على مستقبل العراق، وهو في الحق تكريس لمأساة العراق وهزيمة لآمال أبنائه إزاء العالم العربي والعالم كله، خصوصاً وأن العراق دولة قديمة ومجتمع عريق، وقدرة أبنائه على إدارته ليست محل شك أو تشكيك. وأخيراً، لا بد من تحذير الذين التبست عليهم الصورة. فهناك اجتهادات ترى تماثلاً بين ما يحدث في العراق وما يحدث في فلسطين. فإذا كان العالم العربي يطالب بقوات أجنبية للفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حسبما طالب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يوم 21 تموز يوليو 2003، لكي تكون حاجزاً بين الشعب الأعزل، وبين الجيش الإسرائيلي المسلح. ويجد هؤلاء شبهاً بين هذه المطالبة وبين مساندة إرسال قوات لحفظ السلام في العراق وحفظ الأمن في مدنه، مما يكسب الطلب الكثير من الوجاهة الملتوية. لكن الموقف في الحالتين مختلف إختلافاً كبيراً لأن الشعب الفلسطيني هو الذي يتعرض لجور سلطات الإحتلال الإسرائيلية. في حين ان قوات حفظ السلام ستقدم الحماية لقوات الإحتلال الاميركية ضد المقاومة العراقية. فالقوات المطلوبة لفلسطين هدفها الإسراع بزوال الإحتلال، أما القوات المطلوبة للعراق فهدفها تأمين الإحتلال وإطالة أمده وإستمرار حال الضياع وعدم اليقين لدى الشعب العراقي، ومعه قلق المجتمع الدولي بأسره. لهذا كله، يؤمل بأن ينبه الإعلام العربي إلى هذه المزالق السياسية والقانونية وأن تتنبه الحكومات العربية إلى ذلك أيضاً، وأن تشكل موقفها على نحو ما أشار إليه بشكل موجز الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي، خلال محادثاته في القاهرة في 23 تموز يوليو 2003، حين أكد أن السعودية ستؤيد إرسال قوات لحفظ السلام في العراق بشرطين، الأول: أن يزول الاحتلال الأميركي، والثاني: أن يصدر قرار من مجلس الأمن بتشكيل هذه القوات... وهذه على وجه التحديد هي أسس الموقف الذي يجب أن يسود دولياً وعربياً. * كاتب مصري.