فور صدور القرار الشهير لمجلس الأمن الرقم 1441، وقبل أن تبدأ الحرب على العراق بأسابيع طويلة، نشرت لنا "الحياة" على هذه الصفحة، مقالاً بعنوان "الأممالمتحدة وجامعة الدول العربية: مشهد ما قبل السقوط"؟ وبنينا هذا المقال على فكرة مفادها أن الولاياتالمتحدة تحاول استعادة زمام إدارتها المنفردة للأزمة مع العراق تمهيداً لإطاحة نظامه واحتلاله وبدء عملية واسعة لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وأن نجاحها في استصدار القرار 1441 يضع الأممالمتحدة أمام اختبار قد لا تنجح في اجتيازه. ومعروف أن الولاياتالمتحدة كانت قدمت مشروع قرار للحصول من مجلس الأمن على تفويض يتيح لها الاستخدام التلقائي للقوة العسكرية ضد العراق، إذا لم يتعاون مع المفتشين الدوليين ورفض كشف ما في حوزته من أسلحة دمار شامل تؤكد أنه يمتلكها. لكن المجتمع الدولي لم يقتنع بهذا المنطق وشكك في وجود أجندة أميركية خفية تجاه العراق والمنطقة، ومن ثم حاول مجلس الأمن تركيز الاهتمام على قضية أسلحة الدمار الشامل، وليس تغيير النظام العراقي، والتثبت أولاً من وجود هذه الأسلحة قبل أن يقرر بنفسه نوع "العواقب الوخيمة" التي يتعين اتخاذها في حال اكتشاف وجودها ورفض الحكومة العراقية تدميرها. ونجح المجلس في إدخال تعديلات على مشروع القرار الأميركي، هلل لها بعضهم واعتبرها كافية لكبح جماح الاندفاع الأميركي، وبدأ الضغط يكثف على العراق لحضه على التعامل الإيجابي مع القرار 1441. وفي هذا السياق وجه مجلس الجامعة العربية نداء إلى القيادة العراقية يطالبها بالتعاون غير المشروط مع المفتشين. لكنني كنت أنظر إلى مسار الأحداث في ذلك الوقت على نحو مغاير. فلم أكن واثقاً بأن التعديلات التي أدخلت على المشروع الأصلي تكفي لعرقلة المخطط الأميركي غير المبرر وغير المشروع. وبدت الولاياتالمتحدة مصممة، حتى بعد صدور القرار، على المضي قدماً في تنفيذ مخططها أياً تكن النتائج أو العقبات. لذلك ختمت ذلك المقال قائلاً: "إذا كان أقصى ما تستطيع الأممالمتحدة أن تفعله لعرقلة الثور الأميركي الهائج ومنعه من العبث بالقانون الدولي، هو صدور القرار 1441 على النحو الذي صدر به، وإذا كان أقصى ما تستطيع الجامعة العربية أن تفعله هو مناشدة العراق تنفيذ هذا القرار، فمعنى ذلك أن ليس بإمكان أي من المنظمتين العالمية أو الإقليمية منع الكارثة المقبلة التي قد تعصف بهما معاً". وأثبتت الأحداث أنني لم أكن مبالغاً في تقديراتي. إذ راحت لجان التفتيش التي أوفدتها الأممالمتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية تجوب العراق من أقصاه إلى أقصاه، بحثاً عن أسلحة دمار شامل كانت الولاياتالمتحدة أول من يعلم بعدم وجودها. مع ذلك أصرّت على وجود هذه الأسلحة وبالغت في خطورتها على السلم والأمن الدوليين، وروّجت لسجل النظام العراقي وخبرته وتمرسه في وسائل الخداع والتمويه، مؤكدة أنه بات في حال خرق مادي للقرار 1441 يستوجب استخدام القوة ضده. وبعد فشل محاولتها للتمسك بتفسير خاص للقرار 1441 يعطيها حقاً تلقائياً باستخدام القوة، اضطرّت الولاياتالمتحدة، بالتعاون مع بريطانيا واسبانيا، لتقديم مشروع قرار جديد لمجلس الأمن تطلب فيه تفويضاً صريحاً باستخدام القوة ضد العراق. لكن المجلس لم يكن في وضع يسمح له بإصدار هذا التفويض بضمير مستريح. إذ كانت فرق التفتيش تمارس عملها في ظل تعاون عراقي نشط وواضح، وطلب بليكس والبرادعي منحهما مزيداً من الوقت لاستكمال مهمتهما وعرض تقريرهما النهائي على مجلس الأمن. وساعد دعم الرأي العام العالمي المناهض للحرب، صمود الدول الأعضاء في المجلس، خصوصاً فرنسا وألمانيا وروسيا والصين، في وجه ضغوط أميركية متزايدة تستعجل الحرب وتحاول الحصول على غطاء دولي لها. بل ذهب بعض هذه الدول، خصوصاً فرنسا، إلى حد التهديد صراحة باستخدام "الفيتو". وأمام هذا الموقف الذي يعد سابقة في الأممالمتحدة منذ نهاية الحرب الباردة، اضطرت الدول الثلاث إلى سحب مشروعها المعروض على مجلس الأمن، بعدما تأكد لها أنه لن يحصل حتى على الأصوات التسعة اللازمة لإصداره. مع ذلك لم تفتّ هذه الهزيمة القاسية من عضد الولاياتالمتحدة وإصرارها على شن الحرب. وفي تحد سافر لكل الأعراف والقوانين والشرعية الدولية طلب الرئيس جورج بوش من صدام حسين مغادرة العراق خلال 48 ساعة انطلقت في نهايتها مباشرة جحافل الغزو. لم تكن حرب الولاياتالمتحدة على العراق مجرد عدوان واضح وصريح على دولة عضو في الأممالمتحدة وإنما شكلت، في الوقت ذاته، تحدياً سافراً للمجتمع الدولي بلغ حد الإهانة والاستهتار بالأممالمتحدة التي وُضعت أمام اختبار بالغ القسوة. اذ بات عليها إما أن تنحاز الى الحق في مواجهة القوة، وتتخذ موقفاً صريحاً يدين العدوان حماية لما تبقى لها من مكانة معنوية وأخلاقية، وإما أن تصمت فتبدو ساكتة عن الحق كشيطان أخرس. لكن الأممالمتحدة، وبعد فترة صمت استمرت اسابيع طويلة بدت خلالها شيطاناً أخرس، اختارت طريقاً ثالثاً لم يخطر لأحد على بال، متجاوزة بذلك كل الخطوط الحمر. فبعدما غيّرت الدول الكبرى مواقفها الأولية استقر رأي الأممالمتحدة في نهاية المطاف، وبعقل بارد، على أن تتعاون مع الشيطان ذاته في عملية مهينة لتبييض وجه الباطل. ففي جلسته الرقم 4761 في 22 أيار مايو 2003 اتخذ مجلس الأمن قراره الرقم 1483 الذي سلم فيه ب"صلاحيات ومسؤوليات والتزامات الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة بوصفهما دولتين قائمتين بالاحتلال تحت قيادة موحدة السلطة". وطلب من هذه السلطة أن تباشر "الإدارة الفعالة للإقليم... والعمل لاستعادة الأحوال التي يتوافر فيها الأمن والاستقرار، وتهيئة الظروف التي يمكن فيها الشعب العراقي أن يقرر بحرية مستقبله السياسي" م4. صحيح أن هذا القرار طلب من الأمين العام "تعيين ممثل خاص للعراق تشمل مسؤولياته المستقلة تقديم تقارير منتظمة... وتنسيق نشاطات الأممالمتحدة في عمليات ما بعد انتهاء الصراع" م8، لكنه لم يخول الى هذا الممثل الخاص أي صلاحيات مستقلة أو أي قدرة على اتخاذ القرار، وإنما اكتفى بأن طلب منه "العمل في صورة مكثفة مع السلطة ومع شعب العراق" م8 فقرة ج. الأغرب من ذلك أن القرار أشار إلى إنشاء صندوق تنمية توضع فيه كل موارد العراق وتصرف أمواله "بتوجيه من السلطة، بالتشاور مع الإدارة العراقية الموقتة" م13 من دون أي ذكر لممثل الأمين العام. ومعنى ذلك أنه لن يكون لممثل الأمين العام للأمم المتحدة أي سلطان على موارد العراق المودعة في صندوق التنمية، وإنما يكتفى بتمثيل مناسب للأمم المتحدة ولهيئات أخرى دولية في ما يسمى "المجلس الدولي للمشورة"، وهو جهاز استشاري مخوّل الاشراف على مراجعة حسابات الصندوق م12. وألغى هذا القرار، بمجرد تبنيه، العقوبات المفروضة على العراق باستثناء العقوبات الخاصة بالأسلحة غير اللازمة للجيش العراقي أو لقوات الأمن العراقية، وسمح للأمين العام بالاستمرار في إدارة برنامج "النفط للغذاء" لمدة ستة شهور أخرى لتصفية العقود الجارية. وبعد هذه الفترة لن يكون للأمم المتحدة سوى وجود رمزي في العراق، ولن يُسمح لها بممارسة أي تأثير حقيقي على مصير العراق ومستقبله، لأن ممثل الأمين العام لن يلعب أي دور في صنع القرار في هذا البلد. معنى ذلك أن الأممالمتحدة ستتولى بنفسها تسليم موارد العراق ومصيره السياسي الى سلطة الاحتلال الأميركي - البريطاني لتتصرف بها كما تشاء ولتقرر بنفسها كل ما يتعلق بإعادة البناء السياسي والاقتصادي للبلد. وهكذا، وبموجب قرار مجلس الأمن الرقم 1483، أصبح الاحتلال الأميركي - البريطاني غير الشرعي للعراق، متمتعاً بالحماية القانونية للأمم المتحدة! وهو ما يمثل أكبر سقطة قانونية وأخلاقية وقعت فيها المنظمة الدولية. قد يقول قائل إنه حين يتحول شرطي العالم نفسه إلى لص قاتل تغيب العدالة. فليس بإمكان أحد أن يقبض على مثل هذا اللص الكبير أو يقدمه الى المحاكمة. لكن هناك فرقاً كبيراً بين العجز عن الفعل وبين التواطؤ. فكثيراً ما عجزت الأممالمتحدة، خلال فترة الحرب الباردة أو بعدها، الاضطلاع بمسؤولياتها المنصوص عليها في الميثاق وتقديم الحماية الواجبة للمستضعفين والمعتدى عليهم. مع ذلك ظلت دائما حريصة على أن تحتمي بالقانون قولاً، وإن عجزت عن فرض تطبيقه عملاً، ولم تحاول أبداً إضفاء الشرعية على غير المشروع. وعلى سبيل المثال، حين استخدم الاتحاد السوفياتي القوة المسلحة في زمن الحرب الباردة ضد المجر عام 1956، وضد تشيكوسلوفاكيا عام 6819، ولم يتمكن مجلس الأمن من فعل شيء بسبب استخدام الاتحاد السوفياتي "الفيتو"، انعقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في الحالتين ودانت الغزو السوفياتي ولم تخلع عليه أي شرعية. وحين شنت الولاياتالمتحدة حربها على فيتنام في الستينات، وشن الاتحاد السوفياتي حربه على أفغانستان نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وقفت الأممالمتحدة عاجزة عن ردع المعتدين، لكنها لم تعترف بشرعية العدوان بديلاً من شرعية مقاومته. وعلى رغم اختلاف دور الأممالمتحدة في النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، بسبب ضعف القدرة على تحدي الإرادة الأميركية، ظلت المنظمة الدولية حريصة على صورتها الأخلاقية باعتبارها تجسيداً للضمير العالمي. فحين ارتكبت الولاياتالمتحدة خرقاً واضحاً للشرعية الدولية إبان أزمة كوسوفو، واستخدمت القوة ضد صربيا من خلال الحلف الأطلسي، من دون تفويض صريح من مجلس الأمن، حصل ذلك في سياق مختلف تماماً عما حدث في العراق سواء على الأصعدة القانونية أو السياسية أو الأخلاقية. ففي أزمة كوسوفو بدت روسيا كأنها تقف وحدها مع صربيا ضد العالم بأسره، وبدا "الفيتو" الروسي كأنه سلاح مشهر في وجه الإرادة الدولية وجب الالتفاف حوله، ولم يكن في صربيا نفط تريد الولاياتالمتحدة أن تسيطر عليه ولم تكن هناك نيات أميركية باحتلالها. أما في الأزمة العراقية الأخيرة فإن الوضع مختلف تماماً. اذ ان نيّة العدوان كانت واضحة وصريحة، والنيات والمقاصد لم تكن نبيلة أو شريفة، وشعوب العالم كله ومعظم حكوماته عارضت استخدام القوة. لذلك افتقد العمل العسكري كل المبررات القانونية والسياسية والأخلاقية، بالتالي كان واجباً على الأممالمتحدة أن تدينه، وهو ما لم تفعل، أو بالأحرى لم تمكن من ذلك. كان واضحاً أن مجلس الأمن سيعجز عن اتخاذ قرار بإدانة عدوان تشنه دولتان من الدول الدائمة العضوية في المجلس، ومع ذلك كان من الضروري أن ينعقد المجلس في كل الأحوال ليصوت على مشروع قرار بإدانة العدوان، ولو استخدم "الفيتو" ضده. لكن الضغط الأميركي أخاف الجميع، ولم يجرؤ أحد على أن يعلق الجرس في رقبة القط. وكان بإمكان الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تنعقد في دورة طارئة تطبيقاً لقرار الاتحاد من أجل السلام، لكن ذلك لم يحدث لأن الجمعية العامة ارتبكت أيضاً، على رغم السيطرة العددية لدول العالم الثالث، ولم يبرز منها أيضاً من يجرؤ على تعليق الجرس في رقبة القط. وأخيراً، كان يمكن الأممالمتحدة أن تصمت وتترك الدول القائمة بالاحتلال تتحمل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية عن تصرفاتها، وتضع الدول المعتدية التي تدعي أن قواتها جاءت للتحرير وليس للاحتلال موضع الاختبار، وتعلق مساعدتها على مدى الاستعداد والجدية في تشكيل حكومة ديموقراطية والانسحاب بسرعة. ولو حدث ذلك لكان موقفاً يعبر عن أضعف الإيمان. لكن الدول الكبرى التي تزعمت معارضة الحرب بدت حريصة على منافعها العاجلة، وعلى إصلاح علاقتها بالولاياتالمتحدة أكثر من حرصها على هيبة الأممالمتحدة وكرامتها أو على القانون والأخلاق. وتحت دعوى السعي الى استعادة دور الأممالمتحدة وعدم تهميشها تحولت المنظمة الدولية لتصبح شريكاً في الجريمة. إذ صادر قرار مجلس الأمن الرقم 1483 حتى أحلام المعارضة بتشكيل حكومة انتقالية في العراق سريعاً. وأصبح العراق دولة محتلة فاقدة للسيادة تديرها الولاياتالمتحدةوبريطانيا بموافقة الأممالمتحدة ودعمها. فأي دور يمكن المنظمة أن تلعبه في النظام العالمي في المرحلة المقبلة؟ الآن أصبح بإمكان الولاياتالمتحدة أن تفعل ما تريد بمن تريد، وفي أي مكان تريد، مهما كان ما تفعله مخالفاً لقواعد القانون أو الأخلاق. كيف لا وهي تبدو واثقة تمام الثقة بأنها مهما فعلت لن تجد المنظمة الدولية جاهزة لأي دور يسند اليها، ولو كان دور المحلل لكل ما حرّمته الشرائع والأديان. * رئيس قسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد - جامعة القاهرة.