في نيسان ابريل 2001، أي بعد ستة أشهر على انتفاضة الأقصى، التي تحولت من حركة احتجاج وفعل شعبي مقاوم للاحتلال إلى مواجهة عسكرية بين ما بدا أنه نخب مقاتلة من الطرفين، بادرت مجموعة من الفنانين والشعراء والكتاب الفلسطينيين إلى إعادة الاعتبار للطابع الشعبي للانتفاضة. فقد قرر هؤلاء تنظيم مسيرة بملامح جديدة إلى الحاجز العسكري الفاصل بين مدينتي رام الله والقدس، مسيرة اقتصرت عليهم، وحملوا فيها أدواتهم: آلات موسيقية متنوعة ولوحات فنية وكتب وأقلام وكاميرات. واجتاح الفنانون والمثقفون الذين بلغ عددهم حوالى 500، الحاجز العسكري من الجانبين، فبدا المشهد غريباً ومربكاً لجنود اعتادوا، خلال أشهر مضت، على أشكال أخرى من المواجهة مع الفلسطينيين. وبينما هم في ارتباكهم، اقتحمت جموع العازفين وضاربي الدفوف والمصورين الحاجز، والتحم الجمعان، وأطلقوا العنان للغناء والنشيد والعزف على الآلات الموسيقية. يصف الفنان الفلسطيني وليد عبد السلام، وهو مغنٍ ومخرج مسرحي بارز كان أول المغنين أمام ذلك الحاجز العسكري، المشهد قائلاً: "بدا الجنود في حيرة من أمرهم، فقد جئنا إليهم حاملين أدوات موسيقى وفن، ولم نحمل حجارة، ولم نضرم النار في إطارات السيارات، وأطلقنا حناجرنا للغناء.وقد طالت حيرتهم إلى الدرجة التي تمكنا فيها من اقتحام الحاجز". وكانت رسالة الفنانين والمثقفين في ذلك اليوم هي أن "كل قطاعات شعبنا ترفض الاحتلال، بكل الأشكال من غير الحجر والسلاح"، كما قال عبد السلام. بعد تلك المسيرة التي تردد صداها في الإعلام الفلسطيني المحلي، واعتبرت دعوة لفعل شعبي لاعنفي شامل مناهض للاحتلال، تداعت فئات عدة للقيام بعمل مشابه، فنظم الأطباء والممرضون والعاملون في القطاع الصحي مظاهرة طالبوا فيها بحقهم في التنقل وممارسة عملهم، وتبعهم الفلاحون والصناع والتجار والطلاب وغيرهم. وعندما اجتاح الجيش الإسرائيلي المدن الفلسطينية في نيسان من العام التالي، ووقعت مواجهات ضارية سقط فيها ما يزيد عن مئتي فلسطيني في غضون أسبوعين، وهدمت عشرات المنازل، كما جرى في مخيم جنين الذي أزيل فيه حي بأكمله من الوجود، عادت فكرة المواجهة الشعبية اللاعنفية التي تبنّاها الفنانون قبل عام للظهور ولكن بشكل آخر هذه المرة. فقد ولدت مجموعة اجتماعية في مدينة رام الله أطلقت على نفسها اسم "نواة"، أخذت توظّف الفن في التحريض على فعل لاعنفي شعبي، ما وصفته منسقة المجموعة، وفاء عبد الرحمن، بأنه فعل يعبر عن مدى حب الفلسطينيين للحياة ورفضهم الموت: "كانت الدبابات الإسرائيلية قد دمرت مدننا ومؤسساتنا، وشعر الكثيرون منا بالهزيمة، فأردنا العمل على صيانة نسيجنا الداخلي"، كما قالت وفاء. وقد بدأت هذه المجموعة، التي استرشدت بالفن والفنانين في كل نشاط قامت به حتى اليوم، بالتجمع في دوار المنارة وسط رام الله عند الواحدة من ظهر كل يوم، قبل ساعة واحدة على موعد حظر التجول الذي كان يفرضه الإحتلال في الثانية بعد الظهر حتى صباح اليوم التالي، وتطلق حناجرها للغناء. وقوبل نشاط هذه المجموعة بالكثير من النقد والاستهجان والسخرية في الأيام الأولى، لكنه سرعان ما تحول ظاهرةً محببة من قبل الجمهور، خصوصاً الشاب منه. تقول المنسقة: "في اليوم الأول سخر الناس منا، وفي اليوم التالي انضم إلينا عدد قليل، وفي الثالث زاد العدد قليلاً، وكذلك في الرابع والخامس، ثم أصبحنا نجد الجمهور وقد سبقنا إلى الموقع للمشاركة في الغناء". وكان نشطاء المجموعة وفنانوها يغنون مختلف الأغاني التي تمجّد الحرية والحب وتحضّ على الحياة. "في البداية لجأنا إلى تغيير الهتاف التقليدي الذي يطلقه المتظاهرون في المسيرات والمظاهرات من "نموت نموت وتحيا فلسطين" إلى "نعيش نعيش وتحيا فلسطين""، قالت وفاء لتضيف متسائلة: "نحن لا نريد أن نموت ،لأن حياتنا مهمة لنا ولأهلنا وبلدنا. نريد أن نعيش، وإذا كان الكل يريد الموت كما تبلغ هتافاتنا، فلمن ستؤول فلسطين في النهاية؟". وسعت هذه المجموعة التي تشكلت من عدد من الشابات والشبان المثقفين في مدينة رام الله، إلى ترسيخ المقاومة الشعبية اللاعنفية التي تُتاح فيها مشاركة أكبر للشعب. واعتمدت المجموعة على فنانين محليين يغنون أشعاراً وأناشيد يكتبونها هم أو نشطاء في المجموعة، وكانت دائماً أشعاراً وأناشيد إنسانية تمجّد الحياة. وقد وقف الفن في فلسطين على الدوام في مواجهة الاحتلال، مشكلاً النقيض له، فظهرت الأغاني التي تمجّد الحرية في مواجهة القيد، وتشيد بالحياة في مواجهة الموت: "برغم كل ما نتعرض له، فإن الفن في فلسطين يسعى للحفاظ على توازن الإنسان، وهذا يظهر من خلال الأغاني والمشاهد التمثيلية التي تُعرض اليوم في مسرح القصبة في رام الله وفي غيره من الأمكنة"، كما قال الفنان وليد عبد السلام. وقد امتدت تأثيرات الأنشطة الفنية في رام الله، التي تعد اليوم المركز الثقافي في فلسطين، إلى مناطق أخرى كغزة ونابلس وبيت لحم. "الكثيرون يتصلون بنا سائلين عن أفكار لتنفيذها في مواقعهم"، قالت وفاء وأضافت: "الناس تريد أن تحيا وتعيش لا أن تموت، وقد وجدنا أن حب الحياة وتقديسها يزدادان مع ازدياد القتل والدم، فليس صحيحاً ما يقوله السياسيون من أننا كلنا مشاريع شهادة. أنا لا أريد أن أموت، كذلك الآلاف من زملائي الذين يشاركوننا نشاطاتنا، مع أطفالهم المتطلعين إلى الحياة. فالموت صعب والحياة أفضل وأجمل، وعلينا أن نتمسك بها حتى الرمق الأخير". وقد شجعت فعاليات هذه المجموعة نشوء أعمال شعبية لاعنفية واسعة في العديد من المدن والمناطق، مثل الطرق على أواني الطعام وإضاءة الشموع وإطلاق الطائرات الورقية وتنظيم معارض وعروض ومسيرات متنوعة شاعت في الكثير من المدن مؤخراً. "فالطرق على الأواني يعني أن الكيل قد طفح، والطائرات الورقية تعني أن سماءنا حرة، وعروض الدبكة الشعبية تعني طَرق الأرض بعنف تعبيراً عن الرفض"، كما شرحت وفاء. - محمد دراغمة صحافي ومحلل سياسي فلسطيني. والمقال جزء من سلسلة مقالات عن اللاعنف تنشر بالتعاون مع خدمة Common Ground الإخبارية.