1 استيقظ المغاربة، بعد أحداث الدار البيضاء، على أسئلة تخصُّ المغرب. من قبيل: أين نحن؟ هل نعرف المغرب؟ أي اختيار لمغرب حديث؟ ما مصدر الخطأ؟ كيف يمكن تجنب الكارثة؟ أسئلة تدل على أن الأمن الذي كان المغاربة مطمئنين إليه، هو مجرد أمن خارجي. تحت القشرة عشّشَت فكرة تم النظر اليها بما هي نقيض ما جعل المغرب عبر تاريخه في منأى عن الغُلوّ الديني. عن التعصّب. أسئلة أخذت في التبلور. من خلال تصريحات. وندوات في الإعلام. وتعليقات صحافية. ولها جميعها هذا الذهول مما حدث. ليلة 16 أيار مايو. حتى بلغ الأمر بخطابات الى اعتبار هذا التاريخ فاصلاً بين مرحلتين. أو عهدين. ولا شيء يدل على أن هناك ما يتعارض مع هذا التقسيم. الطمأنينة الكبرى هي التي روّجَتْها خطابات سياسية. منذ أكثر من عقد من الزمن. كلما كان نموذج الجزائر يطرح كسؤال على سياسيين من طرف أجانب خصوصاً. في كل مرة كان الجواب واضحاً. المغرب ليس هو الجزائر. ومستقبل المغرب في منأى عن هذا النموذج من العنف. بل من المذابح التي آلت إليها الأمور في الجزائر لمدة أصبحت تتراءى أطول مما هو لها في الزمن. المقارنة كان الأجنبي يثيرها، بحثاً عن جواب على ما يصيب الجزائر وعلى مستقبل المغرب. بكل ما يعنيه المستقبل. وعند طرح نموذج الجزائر، والرغبة في معرفة مستقبل هذا النموذج في المغرب، كل تاريخ المغرب السياسي أو تاريخه الحديث يحضر في النقاش والتحليل والمقارنة. واقعة إذَنْ لم تكن تخطر على بال السياسيين. حتى الصحافيين الأكثر جرأة في تناوُل الملفات المغربية السرية أو غير المعلنة في الحياة السياسية والاجتماعية ذهلوا بما حدث. ليلة واحدة. 16 أيار 2003. انفجارات. انتحاريون يقومون بتفجير أنفسهم. وفْقَ الطريقة التي تكررت. للهجوم على مواقع وأشخاص. باسم إسلام يتولى أمره جاهلون بالإسلام فيما هم جاهلون بتاريخ وبشعب. والواقعة فاجأت كل انتظار. مهما جازف بالكلام باسم الإسلام، الذي تعبّر عنه طوائف تتفق في مبدأ العودة الى الأصول. ديناً وأخلاقاً وقيماً وحُكماً. بين ليلة وصباح انتقل الذهول من رقعة محدودة الى ما هو أشمل في الاهتمام العام. مواطنون لم يسمعوا من قبل بالأصولية أو بالسلفية تحولوا الى ناطقين بالتسميتين. ذهول يتسع في العائلات. والأسواق. والمرافق العامة. والسؤال بدوره يتسع. بحسب مستوى السائل. وبحسب الموقع الذي هو فيه. 2 في مدينة الصويرة حضر السؤال في ندوة فكرية امتدت على هامش مهرجان موسيقى غناوة. سياسيون ومثقفون من آفاق مختلفة اجتمعوا في جلستين صباحيتين ليطرحوا مسألة الإرهاب في المغرب. ليلة 16 أيار 2003. منظمو مهرجان غناوة هم أنفسهم منظمو الندوة. وجوه رسمية. وجوه من الحكومة. جامعيون. باحثون في العلوم السياسية والنفسية والاجتماعية. مبدعون. والندوة متوجهة لطرح الموضوع للتحليل والنقاش. صبيحتان ومحور واحد يتناول الحداثة والانفتاح والديموقراطية. ويفيد هذا المحور طرح السؤال عن ما معنى الإرهاب في المغرب، أولاً، ثم معرفة هل ان ما حدث منفصل عن الحياة العامة للمغاربة أو هو حادث طارئ، أتى بغتة وسيمضي بسرعة. لنقل ان هناك اتجاهين برزا أثناء هذه الندوة. اتجاه يرى أن المغرب آمن وما حدث منقطع الجذور. وبالتالي فلا شيء يمكن أن يبعث على الريبة ولا على الانزعاج. أما الاتجاه الثاني فكان أبرز من حيث القراءة النقدية لمغرب له تاريخ حديث هو سبب ما حدث، ومن ثم فلا بد من تناول هذا التاريخ الحديث من دون خوف من قول ما كان سبباً ولا من نقده. والاتجاهان معاً ينطلقان من قناعة بأن المغرب يبحث عن حداثة مقترنة بالانفتاح على الآخر وبالديموقراطية، الاتجاه الأول يمثل صوت السلطة المباشرة. إنه الطرف الذي يهمه نشر خطاب يطمئن الذات والآخر. والاتجاه الثاني يرى من واجبه تعرية بنية واختيارات هي سبب ما أوصل مغاربة الى تبني مشروع يهدد سلامة مجتمع مثلما يهدد مستقبلاً مبنياً على أسس الحداثة والديموقراطية. كل من الاتجاهين حاضر في الحياة الاجتماعية. ولكن النخبة هي التي لها الوسائل الفكرية والعلمية لتحليل واستخلاص الدرس. وهي التي عليها مسؤولية الانتقال في الخطاب من الانطباعات والأحكام والمواقف العامة الى مستوى استعمال أدوات التحليل والبرهنة والاقناع. لذلك فإن هذه الندوة كانت اختباراً لشريحة من النخبة، ترى أن ما حدث يتطلب مواجهة تبعاً للتحليل والأدوات المستعملة فيه. إنها التي مثلت وجهات نظر، بكل ما تعني وجهة النظر من فرضيات بناء خطاب نظري وتحليلي له أبعاده وله مواقفه. ندوة ليست معزولة عن ندوات ولقاءات. وهي في جميع الحالات رصد لنمط تفكير شريحة من النخبة المغربية، بكل تشعُّباتها وأوضاعها في مغرب يريد أن يعرف سبب ما الذي حدث ويريد أكثر من ذلك أن تتجنب مستقبلاً ما حدث ليلة 16 أيار حتى لا يتكرر ثانية. على الأقل حتى لا يتفاجأ أحد بما أصبح مزعجاً للمغاربة. وفي ذلك ما يدل على أن هذه الندوة وغيرها دليل على أن ما حدث يصعب نكران وجوده. هو أمامنا. انتحاريون شبان من مناطق سكنية فقيرة. مدن الصفيح. أو مناطق بعيدة من المرافق العامة. في مدن تعرف هجرة قروية متزايدة وتشهد على انفجار سُكّاني وعلى بطالة وعلى مخيمات. 3 ما يثير الانتباه هو أن هناك ندرة في طرح البعد الثقافي لواقعة 16 أيار وللحداثة والديموقراطية. البعد الثقافي الذي يشمل وضعية الدين الإسلامي في المغرب ووضعية العلوم الإنسانية ثم وضعية الآداب والفنون في المنظومة التربوية وفي الحياة العامة على السواء. كل مقاربة أمنية تبتعد عن الاعتقاد في مفعول البعد الثقافي. إنها مطمئنة ما دامت تتوفر على الوسائل الكفيلة بالمراقبة والضبط. وهي بذلك لا ترى حاجة في خطاب المثقفين الذين يبحثون عن تضخيم ما هو في حد ذاته واضح الحدود. جريمة نفذها مجرمون والدولة قادرة على مراقبة وضبط الجريمة. هو أمرها وهي كفيلة به وقادرة على التخلص منه بسرعة، رغم انها لا تطرح السؤال على عجزها عن تجنُّب ما حدث. واقعة من حجم أحداث الدار البيضاء بالنسبة الى المقاربة الأمنية، واقعة من بين الوقائع التي يتعرض لها العالم ولا يسلم منها أي بلد مهما كانت أنظمته الحمائية وأجهزة مراقبته وضبطه. لكن هذه المقاربة باطمئنانها لا تريد أن تنصت. هذا ما يصعب تصديقه. من هنا لا نستطيع أن نفهم موقفاً يدعي أن ما حدث مجرد واقعة من بين الوقائع دونما تدليل على أن الوقائع كلها تتشابه. مقاربة تفضل التصريح بالحلول المباشرة. الإجراءات الأمنية. وانتهى كلُّ ما يتخاصم فيه المثقفون. الحداثة لدى المقاربة الأمنية تمثلها الخبرة الأمنية والتجهيزات التي تتوفر عليها الدولة في المجال الأمني. هذه هي الحداثة في أنقى تمظهرها. الحداثة التي تتوفر على المخترعات وتنسق مع أجهزة المخابرات بوسائل تقنية متطورة. كل هذا يلخص الحداثة. والمغرب الذي يتوفر على حداثة الأمن بلد حديث ولا خوف عليه. أليست هذه المقاربة عائقاً مباشراً للحداثة؟ أليست نفياً للحداثة؟ أليست نقيض الحداثة؟ لماذا تصر المقاربة الأمنية على استعمال مفهوم لا تعرف له تاريخاً ولا حركات ولا اتجاهات جمالية أو فكرية؟ هل مجرد استعمال مفهوم الحداثة يؤدي الى وجود الحداثة في تاريخ ومجتمع؟ انه الاختزال الذي يجعل الحداثة في موقع الاتهام. وتلك هي الحداثة لدى السلطة العربية. حيث لا نعثر بعد على التفكير في المعنى الكبير الذي رافق الحداثة ولا ما كان لها من تأثير في صياغة حياة مجتمعات ولا في واقع الرؤية الى الحياة والموت. فكيف يمكن لمقاربة أمنية أن تفطن الى ان هذا المفهوم هو أولاً من اختراع شاعر والى أن المشروع الحديث هو مشروع فكري وشعري وأدبي وفني بالأساس؟ 4 هل يمكن طرح مفهوم الحداثة بدون طرح المسألة الدينية؟ والى أي حد نواصل سعادتنا باستعمال مفهوم الحداثة فيما نحن مبتعدون عن العلوم الانسانية وعن الشعر والأدب والفنون؟ وهل يمكن أن نستمر في الخلط بين التلفظ بالحداثة وبين الانجاز الواقعي لها في حياة مجتمع؟ هذه الأسئلة تعود ثانية بحدة، ونحن نستمع الى خطاب يفضل ان ينتقد المقاربة الأمنية فيقف عند القراءة السياسية أو الاجتماعية التي كنا تعودنا عليها منذ عقود. ذلك هو مشكل الاتجاه الثاني الذي عبّر بوضوح عن رؤيته لأسباب واقعة 16 أيار في الدار البيضاء. بالانتقال من خطاب المقاربة الأمنية الى خطاب التحليل السياسي والنقد الاجتماعي نحس وكأن بين المقاربتين صلة لا فرار من الإقرار بها رغم أن كلاً من المقاربتين يبدو على طرف نقيض مع الآخر. انه المقاربة السياسية التي تعود بنا من جديد الى الديموقراطية منفصلة عن الفكر التي أنتجها وعن الدلالة العميقة لها في مجتمع الذوات المواطِنة. ثم المقاربة الاجتماعية التي تكتفي بنقد اختيارات محدودة المفعولية في صياغة مشروع اجتماعي وحضاري. ليس الأمر هنا متعلقاً بتفضيل الثقافة على السياسة والعلوم الاجتماعية. لا، ليس هذا مقصوداً من هذا الكلام. المقصود هو أن تغييب البعد الثقافي والابداعي للحداثة وعلاقته بالديموقراطية أمر يدعو الى التذكير بتاريخ نقدي لكل من القراءتين السياسية والاجتماعية لواقع المجتمع المغربي، والعربي عموماً. ثمة ما لا يتوقعه السياسيون والمحللون الاجتماعيون عندما يعتقدون أنهم مالكون للجواب على سؤال أين نحن. تلك هي المفارقة التي تستعصي على الفهم. إذا كنا لا نأخذ الغرب كنموذج فهو على الأقل المرجعية التي يعتمدها السياسيون وعلماء الاجتماع في بناء خطابهم. لكن هذه المرجعية لديهم تظل مدرسية، محصورة في ما تلقنوه من دروس مباشرة. ولم يفطنوا بعد الى أن ما تلقنوه من مرجعية غربية هي فقط الدرجة الأولية من المعرفة بالحداثة وبالديموقراطية. أي أنها معرفة محصورة في حدود لا تصبح حاملة للمعنى في الغرب خارج الحقل الدلالي الموسع سواء للسياسة أو للمجتمع. 5 تظل مسألة المعالجة الأمنية أو السياسية أو الاجتماعية للأصولية في المجتمع المغربي أو العربي ظرفية وذات تأثير مخنوق. ولنا أن نؤكد على أن المعالجة السياسية أو الاجتماعية، من حيث لا تدري، تجاور المقاربة الأمنية، بل تمنحها مزيداً من الاطمئنان لمقاربتها. السياسة أو المجتمع خارج المشروع الثقافي انتزاع للحداثة والديموقراطية من محيطهما الطبيعي، الذي هو الفكر والشعر والآداب والفنون. بدون طرح سؤال الحداثة في ضوء هذا المحيط يتّحد المطمئنون في نادي المراقبة والضبط لما يتحدى وسائل تعجز عن فهم ما معنى الحداثة والديموقراطية، وتعجز للمرات التي لا عدَّ لها عن فهم أين نحن، في مرحلة يكثُر فيها الحديث عن الانتقال من مغرب الى مغرب.