في ذلك الحين لم يكن الجمهور الانكليزي يحب فن الأوبرا كثيراً. كان، بالأحرى، يفضل المسرح وإذا كان لا بد هنا من موسيقى، فليشتغل الموسيقيون المبدعون على تلحين أغان تنشد خلال المسرحيات. أما "المسرحية المغناة بكاملها" فليس لها أي حظوة. ومن هنا لم يلحن هنري بورسيل، الذي يعتبر أكبر موسيقي إنكليزي في زمنه، سوى أوبرا واحدة. لكن هذه الأوبرا تكشف عن أن بورسيل، لو عاش في زمن آخر أو في مكان آخر، كان يمكنه أن يكون واحداً من أعظم ملحني الأوبرات في العالم. ولكن هكذا كان حظه: عاش في زمن تال لزمن شكسبير، أي في زمن كان المسرح سيد الموقف، بمعنى أن المجتمع البريطاني - في لندن على أي حال - لم يكن قد صار من التأنق والرهافة بحيث يحب فن الأوبرا. الأوبرا الوحيدة التي كتبها هنري بورسيل، إذاً، هي "ديدون وإينيه". ولافت في هذا الإطار أن يكون كتبها لتقدم، وحسب، في قاعة نزل للطالبات الصبايا، ومن قبلهن. وكان على "ديدون وإينيه" ألا تكون أكثر من قطعة ترفيهية، ونزوة موسيقية لحنها فنان ليعلن من خلالها غضبه ازاء اشمئزاز جمهور بلاده من فن كان، هو، يحبه كثيراً ويستسيغ إقبال الإيطاليين خصوصاً عليه. ومع هذا، إذ وضع بورسيل روحه كلها، وخبرته كلها في هذا العمل، بكل أريحية وكرم، أوصل هذه الأوبرا الى قمم الفن الدرامي الموسيقي، ولا سيما لاحقاً في العمل، في تلك المقاطع التي راح بورسيل يندب فيها حظ البائسة ديدون ومصيرها المفجع. وعلى رغم روعة هذا العمل من الناحية الموسيقية البحتة، فإن مؤرخي الموسيقى اعتبروه دائماً "نصف أوبرا" بالنظر الى أن الاهتمام بالديكور وببناء الشخصيات درامياً، وبالتافصيل التاريخية أتى موازياً للاهتمام بالموسيقى نفسها. ولكأن هنري بورسيل أراد أن ينسي المتفرجين انه انما يقدم عملاً أوبرالياً خالصاً. وديدون في هذا العمل، هي - كما يمكننا أن نخمن - ملكة قرطاجة الصورية الفينيقية كما تحدث عنها فرجيل في الكتاب الخامس من "الانيادة"، حيث اعتبرها الرمز التاريخي والأول للتضحية في سبيل الحب. فالحكاية الأصلية تروي لنا كل تلك الظروف والتفاصيل التي أودت بديدون الى موتها التراجيدي: الظروف الناشئة عن هيامها بضيفها إينيه، الذي كانت العاصفة رمت به، وبسفينته عند سواحل قرطاجة. غير ان إينيه، كما تقول لنا الحكاية سرعان ما يتخلى عن ديدون وحبها، إذ وجد أن الواجب يدعوه الى التوجه الى إيطاليا حيث كان عليه أن يؤسس مدينة وحضارة جديدتين. ونعرف طبعاً أن عدداً كبيراً من الشعراء والكتاب تغنى بحكاية ديدون هذه كما بإخلاصها في حبها وفنائها على مذبح هذا الحب. ونعرف ان حكاية ديدون صارت طوال مئات السنين جزءاً من التقاليد الأدبية كما صارت لاحقاً جزءاً من التقاليد الموسيقية. وظلت هذه التقاليد تترى وتتتابع زمناً بعد زمن، حتى وصلت الى هنري بورسيل خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر، فإذا به، ومن دون أية مقدمات يلتقط هذا العمل ليحوله الى عمل أوبرالي يجمع مؤرخو الموسيقى ونقادها على أنه "السفر الأهم في تاريخ الفن الموسيقي في الأزمان كافة"، قائلين إن بورسيل لو لم يحقق إلا هذا العمل طوال حياته، لاستحق أن يشغل في تاريخ الموسيقى الأوبرالية مكانة تضعه في مستوى فاغنر وفيردي. والحال ان هنري بورسيل لم يكن انجز في فن التلحين للمسرح، حتى ذلك الحين، سوى مشاركته في أعمال آخرين، وخصوصاً تلحينه بعض الأغاني المسرحية. وهو كان في الحادية والثلاثين من عمره حين قدم هذا العمل للمرة الأولى في نزل الصبايا الذي تحدثنا عنه، وكان النزل تحت ادارة جوزياس الأسقف في تشلسي، وكان بورسيل ذا حظوة لديه. ومن هنا، حين قدم العمل، مغنّى من جانب فتيات النزل، يساعدهن كورس آت من وستمنستر، استبد الفخر بالقائمين على النزل، ولا سيما حين أجمع النقاد على أن هذا العمل كان من أروع ما لُحِّن خلال ذلك القرن كله، إذ يجمع بين روعة أعمال مونتفردي ولوللي ولا سيما كاريسّيمي الذي شُبه "ديدون وإينيه" بعمله الكبير أوراتوريو "إبنة يافث". وقال النقاد يومها - وهو أمر لم يعترض عليه أحد حتى يومنا هذا - ان اوبرا "ديدون وإينيه" تحتوي على عدد كبير جداً من "الكنوز الموسيقية". وهؤلاء النقاد، لكي يدعموا حكمهم هذا ذكروا مثلاً أغنية "تذكرني ولكن إنسَ مصيري" وهي الأغنية التي تنشدها ديدون في النهاية مرفقة مع نشيد الكورس "لا تعال يا كيوبيد!" هذا النشيد الذي قارنه معظم النقاد ب"شكوى آريانا" لمونتفردي فكانت المقارنة لمصلحة بورسيل . بل كان ثمة بين النقاد من قال ان لبعض صفحات هذه الأوبرا قوة لا تقل عن قوة ألحان باخ وغلوك... وكان مثل هذا الكلام في ذلك الحين يعتبر من أسمى آيات التحية والتبجيل. أما غلوك نفسه، أحد كبار موسيقيي ذلك الزمن، فإنه امتدح الكثير من صفحات تلك الأوبرا، مثنياً على أبعاد سيكولوجية غمرتها. وثمة بين النقاد من ذكّر بأن ثمة في ثنايا هذه الأوبرا أغاني تؤدى من صوتين نسائيين، ما يذكر ببعض أغاني أسلوب المادريغال التي كانت سائدة قبل ذلك بمئة عام، أي حين راحت تشتد روعة الغناء الدنيوي على حساب الغناء الديني. وفي اختصار، يمكن القول الآن انه اذا كان ثمة من عمل موسيقي يختصر روح الموسيقى الانكليزية الحقيقية في تلك الحقبة من الزمن، فإن "ديدون وإينيه" تبدو القادرة على ذلك أكثر من أي عمل موسيقي آخر معاصر لها. ولعل هذا الواقع هو ما حدا بالنقاد الانكليز الى أن يقولوا لاحقاً انه لو قيض لهنري بورسيل ان يعيش أكثر مما عاش، وأن يتجه أكثر وأكثر ناحية فن الأوبرا والأوراتوريو، لكان في إمكانه أن يخلص الموسيقى الانكليزية من عبوديتها التي شعرت بها دائماً إزاء الفرنسي لوللي، أو الألماني هاندل، خصوصاً أن بورسيل إضافة الى إبداعه الموسيقي كان ذا خيال مسرحي أيضاً، إذ نعرف انه لم يكتف بتلحين نص فرجيل والتوقف عند شخصياته، بل انه أدخل في النص شخصية جديدة ذات اعترافات صاخبة هي بليندا، كما انه أدخل في فصول العمل عدداً من السحرة والأرواح. وهنري بورسيل الذي لم يعش سوى سبعة وثلاثين عاماً 1658-1695 كان عبقري موسيقى منذ صغره. فهو كان في الحادية عشرة من عمره حين لحن انشودة لعيد ميلاد الملك تشارلز الثاني. ولم يكن بلغ العشرين من عمره، بعد، حين صار مؤلفاً رسمياً في البلاط الملكي ومديراً لقسم "كمانات الملك" ثم عازف ارغن رئيسي في وستمنستر وفي الكاتدرائية الملكية. وبعد ذلك صار عازف البيانو الرئيسي في بلاط جاك الثاني خلال السنوات الثلاث التي حكم فيها هذا الأخير، ثم دخل بلاط ويليام الثالث أورانج. وخلال ذلك تطابقت حياة بورسيل الموسيقية مع وظائفه ومهماته الرسمية. ومن هنا فإن معظم الأعمال الخمسمئة التي وضعها خلال حياته القصيرة، أنجزت لتقدم في البلاط الملكي أو في الاحتفالات الكنسية. ومن الصعب طبعاً، هنا، تعداد كل أعمال هنري بورسيل، وان كان يمكن التوقف عند رثائه الموسيقي للملكة ماري حين ماتت، والموسيقى التي وضعها ل"الملك آرثر" و"العاصفة" و"الملكة الهندية" و"ملكة الجن" ولا سيما أعمال مثل "أنشودة الى القديسة سيسيليا" التي طالما أطربت باخ حين عزفت ذات عام في لايبزغ.