منذ بداية اهتمامه بالموسيقى، والموسيقى المسرحية الغنائية خصوصاً، كان هناك حلم دائم يداعب خيال المؤلف الفرنسي هكتور برليوز. وكان هذا الحلم يقوم على كتابة عمل أوبرالي ضخم، يستند الى أساليب شكسبير في كتابة المسرح التاريخي، وذلك، تحديداً، بالانطلاق من ملحمة «الانياذة» الإغريقية. غير ان برليوز انتظر حتى صار في الخمسين من عمره قبل أن يقدم على ذلك المشروع... وكان لا يزال امامه اكثر من عقد ونصف العقد للعيش. وعلى رغم ان هذه السنوات المتبقية كانت تكفي لتمكينه من مشاهدة عمله على الخشبة مكتملاً، تقول لنا الحكاية ان برليوز لم يشاهد هذا العمل كاملاً في جزأيه، أبداً، لأن العمل لم يقدم على هذا النحو، للمرة الأولى، إلا في العام 1890 في مدينة كارلسروه الألمانية، وكان قد مرّ أكثر من عقدين على وفاة الموسيقي. ومع هذا لم يحرم برليوز من عمله كلياً، إذ من المعروف ان الجزء الثاني من هذا العمل قدم كاملاً على الخشبة عام 1863، أي قبل ست سنوات من رحيل برليوز، وفي حضوره. يومها صفّق كثر للعمل إذ قدم، وكتب نقاد كثيرون يمتدحونه، ولكن كان من الواضح ان ذلك كله كان على سبيل مجاملة فنان مكتهل يعرف كل الحاضرين انه انما يعيش ايامه الأخيرة وكان لا بد ان يكرّم وان يشتدّ التصفيق له من دون ان يعني ذلك ان ثمة في حقيقة الأمر إعجاباً جارفاً بالعمل الذي ينال كل ذلك التصفيق! فبالنسبة الى جمهور ذلك الزمن ونقاده، كان فن الأوبرا الموسيقي قد تجاوز برليوز منذ زمن. وإذا كان هذا الأخير في تلحينه هذا الحلم شاء أن ينتج معادلاً لاتينياً ومتوسطياً يعارض «داي نيبولنغن» لفاغنر، و «برودتها الشمالية القاتلة» في رأيه، فإن فاغنر وعمله كانا أقدر على إثارة حماسة الجمهور، بما في ذلك الجمهور الفرنسي، بخاصة ان غونو وماسينيه الفرنسيين كانا، في تلك الأثناء، قد ساهما في بعث نوع من الحماسة للموسيقى التعبيرية على الضد من رومانطيقية برليوز وغنائيته المطلقة. والحقيقة ان هذا الواقع، في حد ذاته، يضعنا مرة واحدة في قلب السجال الذي كان محتدماً في ذلك الحين بين نظرتين متعارضتين تمام للفن الموسيقي: نظرة فاغنرية تتسم بقسط من التعبيرية، ونظرة اخرى رومانطيقية كانت، حتى وإن لم تخل منها اعمال فاغنر، تبدو في جانب منها شديدة الغنائية متوسطية الرهافة. ومن المؤكد ان قطعة برليوز هذه التي نحن في صددها هنا، كانت تقف في قلب هذا السجال. ومهما يكن من الأمر، فإن الخبراء سوف يقولون ما ان انتشر عمل برليوز هذا، ان موسيقاه وتركيبته لا يخلوان من تأثر بفاغنر نفسه، لا سيما في مجال استخدام لازمة موسيقية تعبر العمل من أوله الى آخره وهي هنا موسيقى «مارش الطرواديين» التي تطالعنا بين الحين والآخر على مسار العمل. والحال ان العمل الموسيقي الذي نخصه بالتحديد هنا من دون بقية اعمال برليوز الطويلة والضخمة، هو بالطبع القصيدة الغنائية «الطرواديون» التي تقسم الى قسمين كبيرين وتعتبر اضخم محاولة معقدة التركيب قام بها هكتور برليوز في مجال تجريبيته المسرحية. فبرليوز اشتغل على هذا العمل، في شكل واضح، منذ عام 1853، لكنه وضع فيه خبرة حياته الموسيقية كلها، وأعاد الى الحياة أساليب وابتكارات كان رسمها في خاليات أيامه، وكذلك حاول فيها أن يستفيد مما كان وصل اليه فن الموسيقى الأوبرالية في زمنه، ولكن من دون أن يبدو عليه - مع هذا - انه حقاً راغب في التخلي عن رومانطيقيته الغنائية لمصلحة حداثة تعتمد العقل والصرامة الفكرية. إذاً، وكما أشرنا، يتألف العمل المسمى «الطرواديون» من جزأين كبيرين، أولهما ويحمل عنوان «احتلال طروادة» يقع في ثلاثة فصول وخمس لوحات، فيما يحمل الثاني عنوان «الطرواديون في قرطاجة» ويتألف من أربعة فصول وسبع لوحات. وإذا كنا ذكرنا ان برليوز لم يشهد في حياته سوى تقديم هذا الجزء الأخير، فإنه قيّض له على أي حال أن يقرأ النقاد وهم يتحدثون عن مزجه، هذه المرة، بين رومانطيقيته البطولية التي طالما عرفت بها موسيقاه (وأشهرها سيمفونيته الغرائبية بالطبع، ناهيك بأوبرا «روميو وجولييت»، بل كذلك العديد من أوبراته وقطعه الأخرى التي استقاها من أعمال شكسبير وركز على ما فيها من مسحات رومانطيقية) وبين كلاسيكية مستحدثة لديه. يتحدث موضوع الجزء الأول («احتلال طروادة») عن سقوط هذه المدينة بسبب خدعة الحصان الشهيرة، كما بسبب سذاجة أهل طروادة وعدم تبصرهم بالأمور، هم الذين كان صوت كاساندرا قد نبههم سلفاً لما ينتظرهم. إن كاساندرا، الشخصية النسائية المحورية في هذا العمل، فعلت مثل خزام في الحكايات العربية القديمة، رأت ببصيرتها ما لم يره الآخرون، فنبهت قومها لكنهم لم يصغوا اليها، وظلوا غارقين في عماهم، حتى دخل الحصان وفي جوفه جنود اينيه، محتلين المدينة. هذا الجزء، إذاً، ينتهي مع سقوط طروادة، ليبدأ بعده الجزء الثاني من العمل «الطرواديون في قرطاجة»، وهذا الجزء على عكس الأول، فإذا كان «احتلال طروادة» يتحدث عن المعارك والحروب والخدع، فإن موضوع «الطرواديون في قرطاجة» الأساسي هو الحب، وتحديداً عن انجذاب اينيه الى ديدون ملكة قرطاجة وهيامه بها. ومن هنا فإن هذا الجزء من العمل أتى مملوءاً باللحظات العاطفية، وغلب عليه الطابع الموسيقي الانساني النزعة، والدرامي ذو السمات الرومانسية. وهنا يكمن الفارق الأساسي بين هذين الجزأين: ان «احتلال طروادة» يتنطح لأن يكون، مشهدياً وموسيقياً، لوحة تاريخية ضخمة ذات سمات حديثة تجعلها عسيرة على التنفيذ المسرحي من الناحية العملية، بينما تتخذ «الطرواديون في قرطاجة» سمات أكثر حميمية تؤهلها لأن تقدم بشيء من السهولة على خشبة المسرح من دون حاجة الى كومبارس (مجاميع) عديدين، أو الى ديكورات ضخمة. بل من الناحية الدرامية، يلاحظ كم ان الجزء الأول - التاريخي والبانورامي - يبدو جامداً ويفتقر الى ما يلزم العمل الأوبرالي الجدي من حركة، فيما تطغى هذه الحركة، في تمازج خلاق مع موسيقاها على الجزء الثاني. لعل هذا يفسر لنا كيف أن هكتور برليوز، الذي عاش سنوات عدة بعد انجازه تلحين العملين، لم يتمكن أبداً من مشاهدة جزئهما الأول في حياته. وربما يتعين علينا هنا أن ننقل عن نقاد تلك المرحلة، من الذين شاهدوا الجزء الأول - التاريخي الضخم -، كيف انهم رأوا في موسيقية العمل نوعاً من بلادة، يتناقض كل التناقض مع ما كان عهد من أعمال برليوز في مرحلة الشباب من دفق موسيقي يندفع كالإعصار، من بداية هادئة تدور وتدور حتى لحظة انعطافية تخطف فيها الموسيقى خطفاً. هذا الجانب الذي كان في الماضي يميز عمل برليوز، افتقده النقاد في العرض التاريخي (الروتيني أحياناً) الذي قدمه في «احتلال طروادة». ومع هذا، حتى وإن كان من الصعب تقديم هذا العمل في أيامنا هذه، فإن «الطرواديون» تذكر عادة - بقسميها - بصفتها من روائع نتاجات المسرح الشعري الفرنسي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما بصفتها العمل الذي أوصل فيه فكتور برليوز اداءه الموسيقي الى ذروة، لعلها، في أجزائها العديدة، تختصر مساره ككل. ومسار هكتور برليوز في الموسيقى كان، على أي حال، مساراً مثالياً، حتى وإن كانت أعماله الأوركسترالية نالت دائماً من حظوة الجمهور مقداراً يفوق ما نالته اعماله الغنائية. بل لن نكون مغالين ان نحن أشرنا الى أن هكتور برليوز (1803 - 1869) يكاد يكون واحداً من الموسيقيين الذين بنيت شهرتهم الشعبية على عمل واحد لا أكثر هو «السيمفونية الغرائبية»، حتى وإن كانت عرفت له أعمال عدة في أعمال الموسيقى كافة، من آلية وغنائية ودينية. ومن أشهر اعمال برليوز، الى سيمفونياته و «الطرواديون»: «بياتريس وبنديكت» و «كرنفال روماني» و «لعنة فاوست» و «الخباز»، اضافة الى اعمال علمية وكتب عدة. [email protected]