أنتج التاريخ الكوني في طور منه، وهو الطور البورجوازي، جنساً أدبياً حداثياً يدعى: الرواية. ومع أن باختين التمس جذوراً بعيدة للرواية، فلا وليد بلا أسلاف مجهولين له، فإن الرواية لم تصبح ظاهرة كتابية إلا في الأزمنة الحديثة. والسبب قائم في معطيات تاريخية غير مسبوقة، تتضمن الفردية الحرية المستقلة، ولو بالمعنى الحقوقي، والشعور الحاد بالزمن وصعود اللايقين، إذ كل سؤال يحجب أسئلة، وظهور الدولة - القومية، التي تترجم تساوي المواطنين بلغة قومية متساوية يتوازعها الجميع... يضاف الى هذا نزوع شاسع الى المغامرة، يتجرأ على الطبيعة وعلى المعلوم والمجهول، ورغبة بحرية متحققة، يقترحها العقل والعاطفة وتستضيفها مدن جديدة. ظهرت الرواية العربية في شرط لا يلبّي من أغراضها أشياء كثيرة، ولدت معوّقة، تقتات بالمؤجّل وتلتمس الحرية في فضاء مقيّد، فلا هي في المجتمع الذي تحتاجه ولا هي في الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه: رواية معوّقة في مجتمع مقيّد، جاءت الحداثة إليه ولم يذهب إليها، فالدولة - القومية احتمال ولغة القراء المتساوية مؤجلة الوصول والتجرّؤ على اليقين لا موقع له، لأن اليقينيات الراكدة تطرد ما عداها. لهذا حملت الرواية العربية شروط ولادتها، ترغب وتصوغ رغبتها بلغة متلعثمة، وتفكر مواضيعها بمنظور محاصر. تأملت الرواية الكونية والعربية، بأشكال غير متكافئة، اغتراب الإنسان عن واقعه وألمحت، بتواتر لا تلعثم فيه، الى واقع مضمر، يستعيد المغترب فيه جوهره المفقود. كأن في الرواية واقعاً انسانياً بديلاً، يمنح المغترب ما افتقده، ويعطيه ما انتظره ولم يعثر عليه. هجا ميلفل عقلانية متطرفة، تمزج الاكتشاف بالقتل، تغتصب في الطبيعة براءتها وتتجرّأ على قوانينها الخالدة، وتطلّع سويفت الى مدينة فاضلة، تحتفي بالعدل وتحتقر الذهب، وهجس اكزوبيري، وهو يبحر بين النجوم، بكون حميم لا تلوثه الغرائز المتوحشة. كان في حلم ميلفل إنسان حكيم يظل الطبيعة ويستظل بها، ورنا صاحب "اليوتوبيا" الى يوم عادل موعود وبشّر كاتب "الأمير الصغير" بإنسانية عطوفة، لم يلتق بها أحد. ومع أن للروائي العربي، في بداياته، قضاياه المختلفة، فقد هجس بدوره بمعيش قادم مختلف، كأن يرى فرح أنطون الى مدينة تمتهن المال وتبجل الحكمة، وأن ينظر طه حسين الى لون من البشر هذبته المعرفة وصقلته الثقافة، وأن يطالب عادل كامل بلغة تحررت من ضيقها، وبأفكار تتمرد على ثقافة الأدعية ولغة الحوائج الفقيرة. ومع أن في المجتمع المقيّد ما يقمع في الرواية بدائلها القيمية المضمرة، فقد احتفظت الرواية العربية، في مسارها المضطرب الطويل، بما حلمت به، واحتفظت بما يسأل عن المرغوب ويسائل هزيمته. ولعل هذه الهزيمة، التي كلما غفت قليلاً هبّت أكثر قوة، هي التي جعلت الروائي العربي، بالمعنى النبيل للكلمة، يقتفي، متأنياً، آثار التاريخ المهزوم، كما لو كان سؤال الهزيمة، وقد تمددت أطرافه، قد جرف معه أسئلة كثيرة. ما التاريخ؟ وما معنى التاريخ؟ وهل يأخذ تأويل التاريخ في المنظور الروائي العربي بصيغة المفرد أم أنه، وبسبب ماهيته، مفرد وجمع في آن؟ لن يكون التاريخ في المنظور الروائي إلا الراهن، طالما أن معنى التاريخ في الرواية هو معنى الإنسان، الذي انتظر زمناً مرغوباً لم يلتق به، لأنه التقى، على غير توقّع، بزمنٍ لم يرغب به أبداً. تنحلّ الأزمنة كلها في راهن معيش، أفضى اليه ماض تخالطه العتمة، وينطلق منه مستقبل ضنين الوضوح. لهذا ذهب محفوظ في "رادوبيس" الى زمن الفراعنة، ليندّد بملك راهن تركي الأصول، يمجد العبث ويمتهن الفضيلة، وعاد عبدالرحمن منيف الى عراق القرن التاسع عشر كي يفسّر هزيمة حاضرة بمعطيات من هزيمة ماضية. يذهب المؤرخ الى الماضي مكتفياً به، ويُصيّر الروائي الماضي لحظة راهنة، فلا رواية إلا بالراهن ولا وجود لروائي لا يبدأ من "الآن". ما معنى التاريخ، كيف يلتقط الروائي حقيقة متطايرة من غرف مظلمة وصدور مختنقة بالأسئلة، وهل في الوثائق الحقيقية ما يصرّح بالحقيقة، أم أن على الروائي أن يفتش عن الوثائق ويهندسها ويشعل بها الحريق؟ يأخذ الروائي بالوثيقة ولا يأخذ بها، لأنه يرى وراء واقع الوثيقة واقعاً مأمولاً، لا يلتفت اليه المؤرخ ولا يحفل به. ذلك أن المؤرخ مشغول بتدقيق الوثائق ومقارنتها، على خلاف الروائي الذي اكتفى بالإنسان المغترب، وقاسمه رغبة بزمن محتمل ينثر السعادة ولا ينظّم الإذلال. ولعل هذه الرغبة المنسرحة، التي تنوس بين ماضٍ معتم ومستقبل لم يطرق دروبه أحد، هي التي تستولد اللايقين وترى معنى التاريخ في التجرّؤ على اليقين. واللايقين قلق واحتمال ومغامرة، يوزّع درب الإنسان على دروب متعددة، ويحتفظ برغبات الإنسان، المتعدد الدروب، واضحة يقظة وموحدة. في روايته "قصر المطر"، وقع ممدوح عزام على مبدع بنى قصراً فاتناً، مرت فوقه غيمة ممطرة واقترحت اسمه. غير أن للقصر، الذي لا يبتعد كثيراً عن آثار رومانية فاتنة، أقداره المختلفة: يحتفي به عشاق الفن، تعبث في أرجائه الذئاب، وقد تدكه مدفعية غازية، ويستولي عليه مسؤول أدمن المصادرة واعتقال الجميل... قصر تدثّر بأسراره، محت الأيام أسماء بُناته، يستولي عليه من ينتهك دلالته ويُطرد منه من يعرف لغته، بناء كالأحجية وإن كان في زمن ميلاده واضح الأصول. وما التجرّؤ على اليقين إلا طرد الذئاب والعظام النخرة وقواعد المسموح والممنوع السلطوية والاكتفاء بروح الفن المتمردة، التي تزرع في الخلاء بناء شاهقاً، يتحدى الزمن وسطوة الفناء. تؤوّل الرواية التاريخ وترفضه، وتعطي التأويل الرافض صياغات متعددة. التاريخ هو الشر المتجدد في سلطة شريرة متجددة، يقول محفوظ، ذاهباً الى سلطة فرعونية بعيدة في "عبث الأقدار"، وراجعاً الى سلطة متأخرة في "يوم مقتل الزعيم". بيد أن محفوظ، الذي تخفق في رواياته مدينة فاضلة مضمرة، يواجه الشر السلطوي ب"اليوتوبيا"، كما فعل في "الحرافيش" وفي "العائش في الحقيقة"، حيث الخير المهزوم يتحصن بضلوعه ويرفض الرحيل. لا الشر مكتمل النصر ولا الخير مكتمل الهزيمة، وأمام كل سلطة ما يكدر غبطتها، فبذور الحق متجددة النماء. أما عبدالرحمن منيف، المختلف الى مدن مجهولة ومعروفة، فقد آثر تفسير وتأويل ورفض التاريخ في آن، يُفسر ما كشف المعيش اليومي عن بؤسه، ويرى التاريخ مواجهة بين السلطة والقيم السوية الصامدة، كما لو كان يرفض في التاريخ العربي تداعيه السلطوي، ويحتفظ بمأثور شعبي خلقته قامات مجهولة وكريمة كالخيول. هناك أبداً ترقّب، يشي في صمته الهادر بمفاجأة، وانتظار يعلن عن وافد جديد ملتبس الملامح. وإذا كان محفوظ، الذي يؤرّقه النسيان، يرى القيم الرفيعة مستقرة في إقليم غائم وبعيد، تغذّ الجموع المضطهدة خطاها إليه، فإن منيف، الذي مارس السياسة ونقدها، يضع القيم في الإنسان المتمرد الذي يعيش "ثورته"، ولا يذهب الى "ثورة" تنتظره في خلاء نقي مسوّر بالأغاني والأناشيد. ذلك أن المدينة الفاضلة قائمة في الإنسان الذي يحلم بها، الأمر الذي يصل بين الراهن المريض والمستقبل السويّ ويفصل بينهما في آن. رفض عزام خواء التاريخ، واستبقى منه الفن الشاهق الذي تمرد عليه، فكل ما جاء به "الفرسان الأشاوس" تبدّد في الهواء، ولم يتبقّ إلا قصر تعبث به الرياح وطاغية التبس وجهه بقناع موروث، كما لو كان وجه السلطان، الذي رقد تحت أقنعة متراكمة، مستحيلاً ولا وجود له. أما ربيع جابر فيُرحِّل "القصر المنيف" الى حقل الكتابة، إذ الكتابة في صفحاتها المتواترة قصرٌ غريب، يُقرأ ويُتَخيّل ولا يَلمس حجارته أحد. فالتاريخ حكايات توقظها الكتابة وتعود الى رقادها الطويل آن انتهاء كتابتها، والكتابة فعل مأسوي ترى ظلال التاريخ في عابرٍ متغرب، قصد هدفاً وخادعه الطريق وانتهى الى موقع لم يرغب به. يبدأ ربيع من توثيق دقيق يقترب من الفرادة، ويُكثّف معنى التوثيق في مآل إنسان ينتهي الى الموت، كأن الموت العابث جوهر التاريخ، وكأن الحكايات المتوالدة آية على موت متنوع لا هرب منه، لأن الحكاية تستأنف موتها في سطور الكتابة المتلاشية. التاريخ بُقْيا من بقايا الحكايات المكتوبة، أو تذكر مأسوي يشهد على اغتراب الانسان ورحلته الخائبة. لذلك يكون "الطريق المخادع" حاضراً في روايات ربيع كلها، يُؤنس السائر قليلاً، قبل أن يدفعه الى موقع لم يتخيره. لا شيء يُنتظر ونصائح التاريخ لا وجود لها، والخيبة المنتظرة بدء الحقيقة ومنتهاها، والرواية فضاء حزين يعاند الموت ويستسلم له. سخرية سوداء تحايث تاريخاً لا جلال فيه ولا معنى له، وسخرية سوداء تحوّم فوق حكايات ترى في التاريخ حماقاته المتكررة. تأملت هدى بركات "التاريخ"، المتعدد في عناصره، وانتهت الى تاريخ مجزوء متتابع الانحسار، ناشرة في فضاء الكتابة تشاؤماً طليقاً، يروّض ولا يروض معاً. فقد آمنت، في زمن، بتاريخ تعيد صوغه سياسة جديدة منقطعة عنه وأدركت، في لحظة الإيمان، أن أحفاد التاريخ المعطوب يتقنون الخطابة ولا يحسنون السياسة، ويترجمون العطب المتوارث بلغة قاتلة. ولهذا ابتعدت عن التاريخ، الذي تقول به النظريات، وذهبت الى أقاليم القيم الجميلة، حيث الجمال غربة والعشق اغتراب والزمن المرغوب نزيل سجن سميك الجدران. لا شيء يُرتجى من تاريخ معطوب وعلى البريء أن يلتحف ببراءته ويصمت، وعلى الروائي، الذي فاته التاريخ الاجتماعي السويّ، أن ينتسب الى تاريخ الكتابة المبدعة. رأت هدى الى أطياف التاريخ في أطياف السياسة ولاذت بتاريخ القيم، وأبصرت مأساة القيم ولاذت بعالم الفن، الذي يسعد الروح ولا يقيها الشرور. وهدى، كغيرها، ترصد معنى التاريخ وتقع على خوائه، فتستنجد بحنان الأنثى ولوعة "الهوى" وبهاء الألوان، على مقربة من روائي سوري فتنته أطلال قصر مهجور، ومن كاتب "الفراشة الزرقاء"، الذي يضع التاريخ كله في حكايات جميلة ينتظرها الأفول. قارن عبدالرحمن منيف بين "زمن محلي" مسكون بالتداعي و"زمن كوني" منتصر بآلته، وخلق ذاكرة مقاومة، لا تقول بالنصر لكنها تنهى عن النسيان. وقارن ممدوح عزام بين آلة وافدة منتصرة، تأتي وتذهب، واستبداد محلي يتناسل منتصراً. وقارن ربيع جابر بين هيبة الوثيقة وخفة المآل، وبين "زمنٍ محلي" خفيف تهزمه الأزمنة الوافدة. وقاست هدى بركات المسافة بين الزمن المعطى والزمن المرغوب وسقطت في الفجيعة. تنتصر الأزمنة المحلية المريضة على ما عداها، ويهزمها "الزمن الكوني" هزيمة تستأصل الأمل. ولعل الفجيعة المتجددة هي التي تجعل الروائي يصرف المؤرخ ويذهب الى ما وراء معلوماته الباردة، موحِّداً بين المعارف والتأويل، ومصرِّحاً بحقيقة لا يعرفها المؤرخ، أو يعرفها ولا يتجرأ على البوح بها. ولعل هذه الفجيعة، التي لا تهن ولا تشيخ، هي التي أقنعت محفوظ، في سن مبكرة، بتأمل جلود صبور ل"السلطة السياسية"، تلك المتناظرة البائسة المتجددة، التي تهزم الإنسان قبل أن ترسل به الى معركة مفترضة. من يكتب التاريخ في زمنٍ سلطوي راكد غريب عن التاريخ؟ من يكتب تاريخ سلطات تنهى عن قول "الحقيقة"؟ ومن يكتب تاريخ مجتمعات تاريخ السلطة فيها هو التاريخ الوحيد؟ تقول الرواية، وهي مشغولة بالموت والتداعي والذاكرة، بأمرين: كل تأريخ، شاء أم أبى، تأريخ سلطوي، لا لأنه رهين السلطة فقط، بل لأنه مشغول ب"المنفعة" لا ب"الحقيقة"، ومشغول أكثر بثنائية فاسدة هي: النصر والهزيمة، على خلاف القول الروائي المأخوذ بعالم القيم و"المدن الغائبة"، التي ترد للإنسان جوهره المفقود. ويقول الأمر الثاني: يكتب الروائي التاريخ الذي لا يكتبه المؤرخ، أي تاريخ المقموعين والمضطهدين والمهمّشين، ذلك التاريخ المأسوي، الذي يسقط في النسيان وتتبقى منه آثار متفرقة، يبحث عنها الروائي طويلاً، ويضعها في كتبٍ لا ترحب بها "مكتبات الظلام". الرواية العربية بحث نوعي في تاريخ هوية مأزومة، فقدت ما كان عندها ولم تعثر على ما تريد الحصول عليه، هوية معلّقة في الفراغ، ترى الى ماضٍ لا تستطيع العودة اليه وترنو الى مستقبل تعجز عن الوصول الى أبوابه، هوية كالأحجية مؤجلة الموت ومؤجلة التحقق. هذا كله، يعيّن للرواية العربية، بالمعنى الإبداعي للكلمة، إعادة كتابة التاريخ السلطوي المكتوب، أو كتابة أخرى للتاريخ، تنكرها السلطة وتتطيّر منها. ففي "أرشيف السلطة" زمن ثابت مغتبط بثباته، وفي "أرشيف الرواية" أزمنة متعددة، تسخر من الثبات ولغة الخطابة وأوهام النصر والهزيمة*. *: هذه هي الصفحات الأخيرة من كتاب: "الرواية والتاريخ"، الذي يصدر قريباً عن المركز الثقافي العربي بيروت/ الدار البيضاء.