هجس الانسان، منذ أزمنة قديمة، بمدينة فاضلة تعفي الانسان من حرمانه وتمده بعدالة مشتهاة. كتب أفلاطون، في القرن الرابع قبل الميلاد، "جمهوريته" الشهيرة، حيث الملوك فلاسفة والفلاسفة ملوك، واستبعد الشعراء، وحكى الفارابي، بعد زمن، عن مدينة شيّدتها الحكمة، وأصدر توماس كمبانيللا، في القرن السابع عشر، "مدينة الشمس"، التي لا يغشاها الظلم ولا تطاولها الظلمة... لم تكن المدينة المرغوبة، التي لا تأتي، الا احتجاجاً على مدن معروفة متعاقبة، تترك الانسان السوي مخذولاً. بنى الانسان الحالم المدينة الفاضلة، في أزمنة ما قبل الحداثة، بمقاييس أخلاقية تفصل بين الموجود وواجب الوجود، وتتطلع الى صدفة رحيمة ترد الانسان الى زمن البراءة الأولى. وبعد ان أقبلت الأزمنة الحديثة، المحملة بوعود كثيرة، عاد الانسان الى "مدينة الرغبة"، مؤمناً، هذه المرة، بقدومها الأكيد، مسلحاً بيقين العلم نقص الى خلق انساني. بيد ان من المعقول ما يتمسك بالحلم وينأى الى اليقين مدركاً، وهو يقيس الزمن اللاحق على الزمن السابق، بأن في الطبيعة الانسانية هوة مظلمة لا تغيب، وبأن في التاريخ وعوداً ذبيحة كثيرة. وهذا ما فعله الانكليزي توماس مور، حين اصدر في بداية القرن السادس عشر، كتاباً عن "أفضل الجمهوريات"، عنوانه: "يوتوبيا"، الذي وضع "مدينة الشمس" في لا مكان. تزوّد توماس مور بمعارف عصره واحتفظ ببصيرة ثاقبة، تراهن على السعادة المحتملة وعلى من ينسف أركانها في آن. استنجد بعلوم عصره، وحاور متعلمين يعطفون العقل على التفاؤل، ورسم "المدينة الاخرى" بدقة مدهشة، ناصراً التفاؤل معاً. كشف عن تفاؤله وهو يوغل في وصف تفاصيل المدينة الادارية والسياسية والعمرانية، وأظهر تشاؤمه في تلاعب لفظي يوناني الأصول، يفصل بين الاسم ومعناه، كأن تكون "اليوتوبيا" اللامكان، وعاصمتها مدينة - سراب، ونهرها موقعاً لا ماء فيه، وحاكمها مسؤول رعية لا وجود لها. احتجّ مور على سلب عصره ورذائله بمدينة "الوازع الاخلاقي"، التي يزهد أهلها بالذهب ويكرهون الحروب والجشع ويحتفون بالفن والجمال. لم يكن الانكليزي، الذي آمن بالتقدم واستبعد اليقين، مخطئاً في لعبته اللغوية الساخرة، فقد خسر رأسه، بتهمة الخيانة العظمى، بعد تسعة عشر عاماً من ظهور "اليوتوبيا". وصل الخيال الأخلاقي الى مدينة مشرقة تسخر من الذهب وتنصر الفضيلة، وأوصلته المحكمة المتسلطة الى الصمت الأخير. كان في مصير توماس مور، الذي زامن بدايات الحداثة الأوروبية، ما يستقدم الشك وما يشكك في زمن حديث، يقول بشيء ولا يفعل ما يقول. فقد آمنت فلسفة التقدم، بألوانها الغالبة، بمستقبل انساني ذهبي يحقق، على الأرض، مدينة الجمال والحكمة، اعتماداً على تصورات لها شكل البداهة. ففي الجوهر الانساني، كما اعتقدت، قابلية للكمال والتحقق المكتمل، فما يكون منقوصاً لا يظل كما كان، تأخذ بيده الخبرة العاقلة المتراكمة، ويضعه العقل على الصراط المستقيم... وما "التاريخ" الا الحيز الرحيم، الذي يزود الانسان العقلاني بالحكمة الاخيرة، بعد ان زامله رحيماً من مرحلة الطفولة الى سن الرشد الضروري. لن تكون المدينة الفاضلة، بهذا المعنى، الا تتويجاً للتاريخ العاقل، الذي ينقلها من أثير الذاكرة الى الاقامة على الأرض. وواقع الأمر، ان فلسفة التقدم كتبت حكاياتها مرتين: مرة أولى في صوغ نظرية تطمئن الى "حكمة التاريخ"، التي تقل الانسان من السديم الى الرؤية المضيئة، ومرة ثانية في "رواية تقدمية"، تصفق للانسان الذي استنبت أجنحة وطار. كما لو كان الروائي يعيد كتابة ما قرره الفيلسوف، مستعجلاً الزمن "قليلاً" ومساوياً بين الحاضر والمستقبل. أنجز دانييل ديفو في روايته الشهيرة "روبنسون كروزو"، التي ظهرت في نهاية العقد الثاني من القرن الثامن عشر، ترجمة دقيقة لتعاليم الفيلسوف التقدمي، الذي يضع الحاضر والمستقبل في زمن غنائي وحيد. فقد وصل "كروزو"، الفردي العظيم بلغة روسو، أو "رجل الله الانكليزي" بلغة آخر، الى جزيرة نائية بصدفة ما هي بالصدفة، ووقع على شواطئها فقيراً عارياً ووحيداً. بيد ان الانسان، الذي تلقى تربية بورجوازية ومعرفة حديثة، يتحرر من عريه ويحقق ولادة ذاتية جديدة، تنصّبه خالقاً لذاته وسيداً على الجزيرة والمكان، حتى يعود منتصراً ويورث انتصاره لغيره من المنتصرين. أعاد ديفو في روايته كتابة افكار الفيلسوف الانكليزي "لوك"، مبرهناً عن "وحدة الأدب والفلسفة"، وعن رحيلهما معاً من سطور الكتب الى غابة الجزيرة النائية. لن يقول الفرنسي جول فيرن، بعد قرن من الزمن، بغير ما قاله الروائي الانكليزي محيلاً، هذه المرة، على العلم والتقنية والخيال الفاعل وآخذاً، كما نظيره، ب"مجاز الرحلة" الذي ينقل الانسان من كيف الى آخر وهو يرحل به من مكان مألوف الى آخر مجهول. ليست الرحلة - المجاز، الا اشارة الى ايديولوجيا الانتصار، ذلك ان أبطال "فيرن" يروّضون سطح الأرض وجوفها ويستأنسون الماء والهواء. يتساوى، في الحالين، حاضر الانسان بمستقبله، فالرحلة لا تخيب والواقع لا يخذل المتخيل، وما يقترحه "العقل العقلاني" تترجمه التقنية وبطولة الاكتشاف. كان التقدم، آنذاك، حيث شاءته فلسفة التقدم ان يكون، ينطلق من المدينة الأوروبية ويصل الى جهات مجهولة، تنتظر "رجل الله الانكليزي". عبّرت "رواية التقدم" في أشكالها المختلفة، عن فلسفة سلطوية قوامها اليقين والمنفعة والانتصار. فلا سلطة متجبرة بلا يقين، ولا يقين الا بمنفعة تجدد سلطانه، ولا منفعة يقينية لا تهجس بالانتصار. وبما ان الانقسام، كما تكاثر الانقسام، قانون الوجود، فقد كان على "رواية التقدم" ان تستولد من ذاتها أخرى، تتعين فناً روائياً حقيقياً، يمزج بين البصر والبصيرة والواقع والمحتمل، ويلقي على الانتصار نظرة هازئة. وعن هذا الفن الحقيقي، الذي يوحد بين المعرفة والاستبصار، صدر، في منتصف العقد الثاني من القرن التاسع عشر، عمل هرمان ملفل: "موبي ديك"، الذي لا يقاسم "كروزو" بطولاته الكثيرة. انتسبت هذه الرواية الى زمنها، وهي تحدث عن البحر والرحلة وترويض الطبيعة ومطاردة الانتصار، وانتسبت الى زمن البصيرة، وهي تمنع الانتصار عن البحّار العصابي وترمي به الى فوهة الموت. رأى ملفل الى العقل الذي يستخدم ذاته في شكل لا عقلاني، فيغتصب الطبيعة بدلاً من ان يستأنسها، وأبصر نبياً زائفاً يعد اصحابه بالخلاص ويقودهم الى جهنم. ولم ير سويفت في "رحلات جوليفر" غير ما سيراه صاحب "موبي ديك"، حين أدرك، مبكراً، ضعفاً إنسانياً لا خلاص منه، يجعل الإنسان قزماً تافهاً امام العمالقة، ويحوّله الى عملاق جميل الأخلاق امام الأقزام. احتفظ الفن الروائي، الجدير باسمه، بسؤال قديم - متجدد يقول: كيف تظفر الحياة بمعنى لا انحدار فيه، كيف تصبح الحياة جوهرية متحررة من الدناءة؟ لم تلتق الرواية، التي أدمنت الاغتراب واستنطاق المغترب، بالإجابة المنشودة، بقيت تسائل المهزومين عن هزائمهم في انتظار مدينة فاضلة متأبّدة الهروب. ولهذا تذهب "مدام بوفاري" الى موت حزين، بعد ان فاتها العيش السعيد، الذي حلمت به طويلاً، وسيكون الموت في انتظار بطل "الأحمر والأسود"، الذي تلبّسته روح نابليون وانتهى الى المقصلة، ولن يظفر بطل همنغواي في "العجوز والبحر"، بصيده الثمين، مكتفياً بمجد التحدي الحزين، الذي يقترب من الرواية وتقترب الرواية منه. مهما تكن ألوان الموت والتحدي، فلن تكون الرواية، التي صعدت في "عالم حديث هجره الله" بلغة لوكاتش، إلا كتاب الحياة المفقود، الذي يضع الوضوح في البصيرة، بعد ان تداعى الوضوح في العيون والعقول. وربما تكون هذه البصيرة، وهي تستدل بالماضي المستقبل وبزمن الروح تاريخ الإنسان المعيش، هي "اليوتوبيا المضمرة"، التي يفرض عليها التاريخ الإنساني المصاغ من العمالقة والأقزام، ان تظل مضمرة ابداً. فإذا كان توماس مور كتب عن "مدينة فاضلة" وأرسلها الى "لا مكان"، قابلاً، ضمنياً، بفكرة المكان، فإن الرواية تزهد، مسبقاً، بإمكان المكان، مكتفية بجمال الأفكار اليتيم. على ضفة اخرى، وفي زمن فاته "الزمن العالمي" بمراحل كثيرة، كانت للرواية العربية، وهي صغيرة تحبو، روايتها "التقدمية" ايضاً، التي ترى في آخر الليل مسرّة وفي نهاية الشتاء ربيعاً لا يعرف المخادعة. استدعى هيكل في "زينب" جيوش الشمس واستولد من "مصر الخالدة" انثى جميلة تموت ولا تموت، لأنها بنت صالحة للأرض الطيبة وامتداد لها، وأرسل طه حسين في "دعاء الكروان" بالبنت البدوية الى المدينة، بعد ان صقلتها المعرفة وهذّبها التعليم، وجعلها تصقل غيرها وترشده الى الطريق المستقيم، وكتب توفيق يوسف عواد في "الرغيف" عن هزيمة زمن وانبثاق آخر، يغاير الأول بالمعنى والأفق... كان في بداية القرن العشرين، طبعاً، فرح انطون، الحالم بلا اقتصاد، الذي اجتهد في إنجاب رواية عربية تتصادى فيها تعاليم الثورة الفرنسية. لازم التقدم المتفائل، باستثناء محفوظ، الرواية العربية في "طور المراهقة"، لا بسبب براءة تربوية مشروعة، بل بسبب سياق تاريخي، يعد "المهزومين" بميراث كبير يعوّضون به حرماناً قديماً عمره قرون. ولعل هذا التفاؤل، الذي قال به المفكرون والروائيون، هو ما جعل الكتابة الروائية شفافة واضحة لا ارتباك فيها ولا تحتمل الالتباس، تعرف بداية الطريق الوعرة وتنتهي الى طريق مسوّر بالورود. وبما ان المهزومين لا يرثون شيئاً، كان على الرواية، بعد حين، ان تتحرر من الشفاف البسيط وأن تقصد درباً شائكاً، يرى قصوراً ينتظرها الحريق وغيوماً امطارها موحلة. بعد عشرين عاماً تقريباً من كتابة "عبث الأقدار"، التي كاثر فيها الروائي الموت والدماء، وصل محفوظ في "اولاد حارتنا" الى خلاء موحش لا يعد بشيء. فما يبدو جميلاً يلحق به الفساد، وما هو فاسد يطارد الخير ويطرده. كان على الروائي، الذي انتظر مدينة فاضلة لا تصل، ان يركن الى اليوتوبيا الروائية، وأن يغلق "ملحمة الحرافيش" ببشر سعداء يقتاتون بالتهجّد والعدالة والأناشيد. رأى محفوظ، وقد ارهقه الشر والتشاؤم، مدينة يأمر بها الأمل، الذي يحتاج اليه من لا امل لهم. رأى غيره ما رآه ولم يصرح به، مكتفياً بالإيحاء وإثارة الأسئلة. رأى صنع الله ابراهيم "إنساناً" يأكل اعضاءه، حالماً بسلطة تدع الإنسان يستعمل اعضاءه في شكل سليم، ونشر غالب هلسا في "الخماسين" ألواناً كامدة وقمراً حزيناً، هاجساً بمدينة اخرى ليلها فضي ولا تعرف السجون... تقتفي الرواية آثار من خادعتهم الدروب، وتأخذ بأيديهم الى ملجأ دافئ قوامه الكتابة والأحلام. ملجأ مسكون بالمفارقة، اقساطه المكر والتحدي، ورهان الكتابة الذي لا يراهن عليه.