هل انتهى نضال المرأة الايطالية بعدما أصبحت أكثر ثراء وبروزاً وحصلت على مكانة لائقة في مجتمعها، ودخلت ألفية جديدة أطلق عليها اسم "ثورة المعرفة" بمواصفات لم تختبرها البشرية منذ نشوء حضارتها الأولى. معطيات كثيرة قلبت واقع المرأة في العالم نحو مدارك وفضاءات جديدة لم تعهدها من قبل، ففتحت بها آفاق العمل والشهرة والمساواة فلم يعد هناك ما تقاتل من أجله الايطاليات. جيل 1968 من الايطاليات اللواتي ساهمن بأحداث ثورة ايار / مايو المسماة "ثورة الطلبة" أي تلك الحركة الطالبية - العمالية - الاجتماعية التي خلقت تحولات عميقة في الحياة السياسية والاجتماعية، يعتقد أن هذه الثورة تركت أعمق الأثر في المجتمع الايطالي، وأصابت حياة الملايين من النساء ليس في ايطاليا وحدها بل في عموم أوروبا بعدوى التمرد، إذ شكلت الانطلاقة المعاصرة التي فجرت الرغبة بالتحرر الساكنة في الأعماق على كل المستويات، الأمر الذي ظهرت نتائجه في السنوات اللاحقة في شتى المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية المختلفة، من خلال الحضور الفاعل للمرأة في مجتمع ما زال الى يومنا هذا في العديد من مناطقه وخصوصاً الجنوبية، وجزيرتي صقلية وسردينيا، يتعامل مع المرأة بمظاهر القهر والتقليل من قيمتها، مع التغيير الكبير من الشكليات، الأزياء، العادات المرتبطة بمعاملتها، وهو تغير في الشكل والمظهر، أكثر مما هو في البنية وفي الوظيفة. ولا تشك واحدة من النسوة اللواتي تجاوزن الآن الخمسين من العمر، في ان الرغبة التحررية كانت عارمة، اشتعلت بها نفوس الشبيبة من كلا الجنسين، لتنتقل من وهاد الضرورة الى ذروة الحرية، ومن ممارسات التخلف الى أحضان التقدم. تاريخ ثورة الطلبة، حدٌ فاصلٌ وعلامة حاسمة على نهاية حقبة تاريخية وبداية حقبة جديدة، هو زمن المرأة الجديدة. فصارت لها حرية أكبر، وأصبحت تعرف حقوقها وواجباتها ونوعاً من استقلالية الشخصية، وضعفت الروابط الفلاحية للمجتمع الذي يعمل 53 في المئة منه في الزراعة، وتبدلت مفاهيم كثيرة كانت قريبة من المعتقدات الدينية، وهو تبدل باتجاه ثقافي على حساب الاجتماعي التقليدي، فاختلفت النظرة الى كل فرد والوظيفة لكل عنصر، فأضحت العائلة توفر المناخ السليم لخلق شخصية ابنتها المستقلة، ولم يعد الدين والموروثات الاجتماعية عائقاً في مسيرتها التطورية، كما لم تستطع العائلة إعاقة الانفتاح على عمل بناتها ومواصلتهن الدراسة وحجب مظاهر العصرنة والتحرر بدافع الخوف من الشائعات واللغط حول الأسرة والسمعة التي يطالب بها المجتمع، ولم تعد ظاهرة الخجل تتحكم في سلوكيات الكثير من الشابات، كما ظهر اعتراف متبادل بالحقوق والواجبات لكل أفراد الأسرة على السواء. أصبحت المرأة قوية الشخصية وصار يسمح في كثير من الأحيان بتسلطها وطغيان نفوذها وانفرادها بالتصرف بالأمور الاقتصادية والتربوية. أصبح لها الحق بالخروج من البيت والسهر لساعات متأخرة واختيار أصدقائها وقيادة السيارات والدراجات النارية، كما تمتعت بحق اختيار نوع الدراسة والتخصص، وتدخين السجائر في الأماكن العامة... وضعت السلطات الايطالية التي كان يسيطر عليها الحزب الديموقراطي المسيحي نحو 40 عاماً، بعد الحرب العالمية الثانية، وبفعل ضغط كبير من المعارضة التي تزعمها اليسار الايطالي، الكثير من اللوائح والقوانين التي تعطي المرأة فرصاً متساوية مع الرجال في شتى ميادين الحياة. قد تكون مفيدة الإشارة الى وضعية سيدات عاصرن فترتين تاريخيتين، اختلفت فيهما الأوضاع، وكن في قيادة تلك التظاهرات والاعتصامات الطالبية الصاخبة في شوارع روما وميلانو وجنوى وفلورنسا ونابولي وغيرها من المدن التي تتواجد فيها الجامعات الطالبية لكبيرة. تقول هيدي لونا 54 سنة وهي موظفة وكاتبة: ان الثورة الطالبية ساهمت م نخلال الحركة النسوية "الفمينيزمو" في تشريع قاون يجيز استخدام حبوب منع الحمل وهو أكبر تحد للكاثوليكية التي تعتبر ايطاليا عاصمتها، كما انها منحت الفتاة الايطالية حرية العزوف عن الانجاب، أو الزواج، وتحولت العلاقة بين الرجل والمرأة من مفهومها التقليدي الى مفهوم المتعة التي يجب أن تتساوى فيها فرصة الرجل والمرأة في الحصول عليها، اضافة الى حق المرأة في التصرف بجسدها. لقد تمردنا بعدما شعرنا بعقوبة المجتمع الذي فرض علينا مطالب كثيرة في مقدمتها ان نكون محتشمات في المظهر والسلوك، والشعور بالخجل عند مخاطبة الرجل، فكنا نكبت عواطفنا وميولنا الأنثوية الطبيعية، حتى لا نتهم بالفساد الأخلاقي، وضعف الإيمان بالدين والقيم والشرف. أما الأن فنجد المرأة أكثر خمولاً، ورضاً بما يفرض عليها من وسائل اغرائية جديدة فرضتها ظاهرة العولمة الزاحفة بسرعة مخيفة، لتكون المرأة جزءاً من هذا الواقع الذي يحمل الكثير من السلبيات، فاتسعت عقدة النقص لديها، وتلاشت رغبتها في استعادة دورها. كنا أكثر جرأة وشجاعة وحمل بعضنا السلاح أيام التصادم مع رجال الشرطة والدرك، وانخرط بعضنا في التنظيمات اليسارية المتطرفة التي أبرزت عدائية المرأة المكبوتة لمضطهديها، جيلنا كان أكثر شجاعة في رفضه عوامل التخلف. تقول السيدة روزي برايدوتي 53 عاماً كاتبة "يبشروننا الآن بزوال كل الظواهر المجحفة التي ناضلنا من أجل التخلص نها، فنحن نعيش عصر ما بعد الصناعي، عصر السوفت وير والكومبيوتر، إلا أننا ما زلنا نحمل أصداء تلك الظواهر المرضية، فمعظم الايطاليات بعيدات عن سمات التحرر التي ناضلنا من أجلها، خصوصاً المساواة المطلقة في اطار المجتمع الإنساني ككل، لم تكن "هزة" 68 مجرد معركة صغيرة في السياق، بل لعلها واحدة من أكبر المعارك خاضتها المرأة الأوروبية المعاصرة، ففكرة تحرر المرأة ومساواتها لا تنحصر في حدود التشريع القانوني، بل في الممارسات الحياتية اليومية لمجمل العلاقة التي تربط المرأة بواقعها الاجتماعي. فماذا يعني تحرر المرأة ومساواتها قانونياً، إذا كان المجتمع مستعداً لخرق كل القوانين التي ناضلنا لإلغائها من حياتنا في كل لحظة؟ لقد حمل مجتمعنا تجهيزات مادية فخمة، إلا ان المشكلة تتمثل في عدم هضم العوامل والمناخات المتوافقة مع ما يتحقق من انجازات حضارية، وهذه الازدواجية تعكس نفسها على واقع المرأة الايطالية في الوقت الحاضر، وتضعف عطاءها".