لم تكن زيارتي للمغرب، للمشاركة في مهرجان الشعر المتوسطي، هي الزيارة الأولى لبلد الغموض والسحر والأزمنة المترامية. سبق ان زرتها قبل ثماني سنوات في مهرجان الرباط الأول وقبل خمس سنوات في مهرجان وجدة الشعري. ومع ذلك فإن المغرب هي من البلدان القليلة التي يجد المرء نفسه مدفوعاً لزيارتها مرة إثر أخرى من دون ان يعتريه الوهن أو يصيبه الملل. ليس فقط بسبب الجغرافيا المتنوعة التي تجعلها موزعة بين البحر والمحيط وبين الصحراء وجبال أطلس أو بسبب التاريخ الحافل والمثقل بالترجيعات بل بسبب الألفة التي يحسها الزائر منذ اللحظة التي تطأ فيها قدماه أرض المطار وحتى لحظة الوداع الأخيرة. كل من يصادفهم المرء في طريقه أو يتحدث اليهم في الشارع أو الفندق أو المقهى يشعرونه كما لو أنه التقاهم من قبل أو كأنه يكمل معهم حديثاً بدأ منذ زمن بعيد. قد تكون المغرب من بين البلدان العربية القليلة التي تشعرك برسوخ المكان وفرادة الهوية وقوة الحضور. ربما لأنها خط التماس الأخير مع المجهول والثغر الذي يعصم الذات من التشتت والضفة الاخرى لنوستالجيا الروح التي تلقفت أبا عبدالله الصغير بعد انزلاقه عن صخرة الأندلس. كل مدينة هناك مملكة قائمة بذاتها من الهندسة والروائح والأبخرة المتصاعدة من حرائق الماضي وتصايحاته. فمن زنقات فاس وأسواقها القديمة الى بريق الشهرة الآثمة في عيون طنجة، ومن الأجساد المكتظة بالعوز والسحر والشعوذة في ساحات مراكش الى واجهات الدار البيضاء وأبنيتها الشاهقة، ومن الحدائق الوادعة في الرباط الى فنادق وجدة المهجورة في أقصى الشرق ثمة قارة صغيرة من الرؤى والأطياف التي تجعل الزائر في حيرة من أمره وتتركه فريسة للشغف والفضول والشجن الغامض. لا تستغرق الطريق الموصلة بين مطار الدار البيضاء وفندق الديوان في الرباط أكثر من ساعة وربع الساعة. غير ان السائق الذي يعثر على ما يتجاوز كلام المجاملة والترحيب العابرين أراد ان يكرمني على طريقته، فوضع في مسجلة السيارة شريطاً غنائياً قال انه يعود الى "رويشة"، أحد أكثر المغنين شعبية في المغرب. واذ أدرك السائق انني لم أفهم شيئاً من الأغنيات التي أسمعها قال ان كلمات الأغاني مكتوبة باللغة الأمازيغية التي لا يفهمها هو بدوره ولكنه يطرب لايقاعاتها المؤثرة شأنه في ذلك شأن الكثيرين. وسرعان ما وجدتني منتشياً بما أسمعه الى حد الانخطاف الكامل. فمن خلال ذلك التعاقب الفاتن بين صوت المغني الفرد وصوت الكورس المتناغم في تردداته بدت روح المغرب كلها على صورة الألحان ومقاسها تماماً. وعبر آلة قديمة من ثلاثة أوتار استطاع "رويشة" ذاك ان ينحدر بصوته من قمم جبال أطلس الى كل دساكر المغرب وشواطئها مؤالفاً بين الألم والغضب وبين الفرح والحزن. غص فندق الديوان، الذي يحتل بطوابقه الستة موقعاً متميزاً في وسط الرباط، بالمشاركين والمشاركات في فاعليات هذا العام التي اشتملت على الغناء والمسرح والشعو والنقد اضافة الى السينما. كانت ردهات الفندق تكتظ بحلقات المدعوين الموزعين على سائر الأنشطة، بحيث يمكن المرء ان يشاهد كلاً من زهير أبو شايب وخليل النعيمي وآمال موسى ورغدة وأسد فولادكار وماجدة موريس وروبيرتو موسابي وألبيرتو كورابيل. توزعت الدورة الثانية لمهرجان الشعر المتوسطي على أمسيات ست ضمت كل منها عدداً قليلاً من الشعراء العرب والمتوسطيين وضيوفاً آخرين من بلجيكا والبوسنة وتشيلي. أقيمت الأمسيات جميعها في الهواء الطلق وفوق منصة عالية نصبت لهذا الغرض وسط احدى حدائق الرباط الجميلة. واذا كانت قراءة الشعر في العادة تتطلب الهدوء والتركيز والأماكن المغلقة فإن اختيار حديقة عامة ومفتوحة للجميع، بمن فيهم الأطفال، يصبح ضرباً من المغامرة أو المجازفة غير المأمونة. غير ان الأشجار الوارفة المحيطة بالشعراء والحضور، اضافة الى التوقيت المسائي الذي يبدأ مع غروب الشمس وبداية انسدال الظلام تكفَّلا معاً بإقامة جدار رمزي يفصل الحاضرين عن الخارج ويحول المكان الى غابة من الأخيلة والظلال. كانت الليلة الأولى هي الأطول بين مثيلاتها لأنها تضمنت كلمات افتتاحية ومقطوعات موسيقية ووصلات من الرقص التعبيري المصاحب للقصائد. الشاعر حسن نجمي، رئيس اتحاد كتاب المغرب قدم للأمسية بكلمة ترحيبية تحدث فيها من الجذور العميقة للحضارة المتوسطية التي جسدها وليس في الأوديسة ورفدها أرسطو وحملها أسلافنا العرب من اليونان. أما القراءات الشعرية فقد استهلها الشاعر الفلسطيني زهير أبو شايب بقصائد قصيرة غنية بالصور وقائمة على الايحاء اللماح من بينها "أرض عمودية" و"سماء صغيرة". تبعه الشاعر البرتغالي باولو تيكسيرا عبر قصائد "حمامات" و"المعاصرون" و"الشاعر الروماني الأخير" التي يجمعها هجاء ساخر للحضارة المعاصرة وانصات عميق الى حركة الزمن. أما الشاعر المغربي ادريس الملياني فقد حاول المزج بين الانشاد الغنائي والاحتفاء بالمعنى مع ميل واضح الى الايقاع والتوشية الجمالية. في الليلة الثانية قرأ الفرنسي هنري دولوي الكثير من المقطوعات التي تعتمد اقتناص اللحظة الهاربة عبر صور حسية صادمة وغنية بالترددات. الشاعر الجزائري الشاب أبو بكر زمال قرأ مقاطع من نص نثري طويل يعتمد الافاضة والتدفق التعبيري ورثاء العالم، في حين بدت قصيدة المغربية ثريا ماجدولين أشبه بمرثية أخرى في تأبين الأنوثة المغلوبة على أمرها في بيئة ذكورية قاسية. في الليلة الثالثة قرأ الايطالي روبيرتو موسابي قصيدته "نوم الأبطال" التي تزاوج بين البطولي والعادي أو بين اليومي والملحمي حيث "نفس آخر يوحد المحاربين بين النجوم". وقرأ قصيدة "الصور" حيث "تختفي الوجوه في أنبوب الأثير / أما التاريخ فيتلاشى في النوم / اذ وقع ما وقع / ولم يعد للزمن دخل في ذلك". الشاعرة التونسية آمال موسى قرأت قصائد من شعرها القديم والجديد متابعة أسلوبها الذي يمزج بين الضمائر ويجعل من الأنوثة أساساً في الرؤية الى الوجود والعناصر "أيتها النار / ما الذي يطفئك / قطرة مني أم شعلة فيّ". أما الشاعر الاسباني أرنستو دوسونيكا فقد قرأ قصائد تجمع بين الايقاعات الجمالية الغنية للغة الاسبانية وبين الاحتفاء بالمعنى وترجيعاته". الشاعر البوسني سينادا موسى بيغوفيتش لم يكن مفاجأة الليلة الرابعة فحسب بل كان احدى المفاجآت القليلة للمهرجان. فقد استطاع هذا الشاعر على رغم صغر سنه ان يلفت أنظار الحضور بقدرته على الجمع بين سيرة الحيوات الفردية وبين سيرة الجماعة التي تحاول بأحلامها وأجسادها الممزقة رتق صورة الوطن وترميم وجوده الملتبس، حيث "أحد ما رسم بالأبيض المطر الذي يمطر صوفه فوق الرؤوس". وفي حين جنح البلجيكي بيار ايف سوسي الى لغة تأملية غنية بالتساؤلات. قرأ الشاعر المصري محمد صالح قصائد قصيرة تراوح بين النثر والشعر الحر وتقوم على اختزال الزمن واصطياد المواقف المفاجئة. أما المغربي علال الحجام فقد أفقدته الاطالة والمناخات السردية العادية الكثير من توهجه على رغم بعض الالتماعات التي تتناثر هنا وهناك في سياق القول الشعري. لم استطع لظروف طارئة متابعة أصوات الليلة الخامسة التي ضمت كلاً من اليمنية ابتسام المتوكل والمغربي عبدالرفيع الجواهري والجزائري حرزالله بو زيد. اما ليلة الختام فقد اقتصرت على الفرنسي جيل جوانار الذي قرأ مقطوعات عن الطفولة وشجرة الأكاسيا التي تتفتح "كالجرح الشهواني في الثنية السرية للبيت". اضافة الى الشاعر التشيلي المخضرم ألبيرتو كارييل، صديق بابلو نيرودا وفيكتور جارا، الذي أفلت بأعجوبة من قبضة بينوشيه والذي غنى قصائده عازفاً على الأورغ ومستذكراً تاريخ التشيلي". لا يمكن أمسيات الشعر وحدها ان تختزل الحديث عن مهرجان الرباط بتفاصيله وحواشيه. ففي أروقة الفندق كما في الساحات والشوارع والمقاهي كانت تدور بين الضيوف القادمين من كل صوب أجمل الطرف والمنادمات والأمسيات. لا يمكن تناسي الجلسات النهارية اليومية في مقهى "البليمة"، ولا الشخصية اللماحة المحببة للروائي السوري المقيم في باريس خليل النعيمي الذي يحول المجلس أينما حل الى احتفالية واسعة من القهقهة والنكات والبديهة النادرة، ولا الحضور الأليف لمس نجمي وزهير أبو شايب وحسن الوزاني وآخرين غيرهم، ولا الليلة الغنائية الطويلة التي حفلت بأصوات مغنين مغربيين مبلّلين بعبق الأندلس وأصدائها الشجية الغابرة، ولا اللقاء القصير المؤثر مع محمد شكري الذي ينازل السرطان بجماع قوته وكامل تشبثه باللغة والحياة. ولا يمكن تناسي الدموع التي ذرفها مشاهدون كثيرون في نهاية ذلك العرض المؤثر لعمل أسد فولادكار المميز "لما حكيت مريم" حيث الأداء المدهش لكل من برناديت حديب ورينيه ديك وطلال الجردي. ولا يمكن أخيراً لمقالة سريعة في صحيفة ان تختزل ذلك الفضاء المغربي المغسول بمياه الأسطورة والأبخرة والتواريخ حيث تسكن القصيدة التي تتعذر كتابتها على الشعراء.