خريطة الطريق تمثل "النفس الأخير" لأي أمل في حل تفاوضي للصراع الفلسطيني الاسرائيلي يقوم على انشاء دولتين مستقلتين غرب نهر الأردن. لكن هل هناك فرصة للنجاح؟ يمكن القول بدءا أن الوضع الحالي بالغ الغموض، لكن النجاح ليس مستحيلا، وذلك لأسباب عديدة. أما اذا لم تقد خريطة الطريق الى اقامة دولة فلسطينية قابلة للبقاء جنبا الى جنب مع اسرائيل فالواضح بالنسبة لي ان حجم المشروع الاستيطاني الاسرائيلي في الضفة الغربيةوغزة واستمرار زخمه سيعنى في حال فشل الخريطة تلاشي القاعدة الأرضية اللازمة لاقامة الدولتين. نعم، كلنا نعرف ان نحو مليون مستوطن فرنسي غادروا الجزائر عند الاستقلال، وان مئات الألوف من المستوطنين البرتغاليين غادروا أنغولا وموزمبيق عندما استقلتا ... اذن لماذا نستبعد مغادرة أربعمئة ألف مستوطن اسرائيلي للضفة الغربية من ضمنها القدسالشرقية وستة الاف مستوطن اسرائيلي لغزة؟ من الصحيح القول أن ليس من الصعب تصور انسحاب اسرائيلي كامل من غزة، لكن هل سيوفر ذلك قاعدة أرضية كافية لاقامة دولة فلسطينية قادرة على البقاء؟ انه سؤال جدي، لأن الكثير من مخططات ارييل شارون تبدو وكأنها تدفع في هذا الاتجاه. لكن لا أرى ان ذلك سيمكّن من اقامة دولة فلسطينية في غزة، أو ان اقامتها ستلبي الحد الأدنى الممكن من تطلعات الفلسطينيين في الأراضي والمحتلة والشتات. ان الفلسطينيين يبدون تشككا عميقا بوصفات للحل تدور على "غزة أولا" أو "غزة فقط". انه موقفهم اليوم مثلما كان خلال مفاوضات أوسلو قبل عشر سنوات تجاه "حل" يقتصر على غزة. اذن فالسؤال الرئيسي يبقى: هل من سبيل لاعادة توضيب "الخلطة الديموغرافية" التي نجدها حالياً في الضفة الغربية، من ضمنها القدسالشرقية؟ غني عن القول ان شارون وحلفائه القدماء في حركة الاستيطان يواصلون خلق المزيد من الوقائع على الأرض في الضفة الغربية ضمانا لجعل التراجع عن الواقع الديموغرافي الحالي أمرا مستحيلا - وليس فقط لجهة الكلفة المالية/اللوجستية المترتبة على اعادة اسكان المستوطنين الأربعمئة ألف، أو نسبة مهمة منهم، بل أيضاً على الصعيد السياسي، لأن المستوطنين ومؤيديهم يشكلون كتلة تصويتية لا يستهان بها في النظام السياسي الاسرائيلي. وعلى الصعيد السياسي يستعمل قادة حركة استيطان حجة "احجار الدموينو" للرد على الرأي المناهض. أي ان تفكيك "المواقع الأمامية اللا شرعية" يعني ان الدور بعدها سيجيء أولا الى المستوطنات الأثبت، ولو كانت صغيرة نسبيا، مثل بيت ايل. وماذا بعد بيت ايل سوى المستوطنات الكبيرة مثل معالي أدوميم. لكن هذه، كما يرى كثيرون من الاسرائيليين، هي واحدة من "ضواحي" القدس، فيما لا يجرؤ الا أقل من القليل من الاسرائيليين على مجرد التفكير بالتخلي عن مستوطنات يهودية أو "أحياء يهودية" كما يسمونها في القدس. وكان الطرفان الفلسطيني والاسرائيلي أيام ايهود باراك احرزا خلال مفاوضات كامب ديفيد في تموز يوليو 2000 وطابا في كانون الثاني يناير 2001 تقدما ملحوظا نحو صيغة للحل تبقي ما يقرب من 80 في المئة من مستوطني الضفة الغربية مكانهم، مع اعادة رسم الحدود بين اسرائيل والضفة الغربية لضم تلك المناطق الى اسرائيل مقابل اعطاء الدولة الفلسطينية المزمعة أراض مساوية أو غير مساوية! من اسرائيل نفسها. لكن الصيغة هذه استثنت القدسالشرقية، كما يذكر ميغيل موراتينوس في تقريره عن مفاوضات طابا. وكتب موراتينوس: "وافق الطرفان مبدئيا على اقتراح كلينتون باعطاء السيادة على الاحياء العربية في القدس الى الطرف الفلسطيني والسيادة على الاحياء اليهودية الى اسرائيل". أي لم يكن هناك تصور لاخلاء أي من المستوطنين الذي يتراوح عددهم بين180 ألف الى 200 ألف مستوطن، من القدس. وفي تموز يوليو 2002 أصدرت "المجموعة الدولية للأزمات"اقتراحها الخاص لحل الدولتين، مستندة في ذلك الى مضمون مفاوضات كامب ديفيد وطابا. وقد عدت الى هذا الاقتراح أخيرا ولاحظت ما يلي: * مدى الاعتباط في الكثير من التفاصيل، من بينها طريقة ترسيم الحدود بين الطرفين. ذلك ان الخط الحدودي يسير في انحناءات كثيرة تقضم بعمق في الضفة الغربية لكي يضع مستوطنات مثل ارييل وغيفات زئيف ومعالي أدوميم وغوش اتزيون ضمن أراضي اسرائيل. وتعمل هذه التقحمات الاسرائيلية على عزل مدن وبلدات الفلسطينين عن بعضها بعضا. واذا كان لمقترح "المجموعة" أي فرصة للنجاح فهي تكمن في توفر الكثير من حسن النية بين الطرفين. أما عدا ذلك فهي تعني في كثير من المواقع ان هذا الطرف أو ذاك يبقى على الصعيد الجغرافي ممسكا بخناق الطرف المقابل. * اضافة الى ذلك، ومن منظور الوضع الراهن، من المستحيل تصور قبول الحكومة الاسرائيلية الحالية أو أي خلف منظور لها بهذا المقترح، بالرغم من كل مراعاته لمصالح المستوطنين. مثلا، يبدو من خريطة "المجموعة" أن الخليل بكاملها تقع تحت سيطرة الفلسطينيين ... الكل يعرف ان في خريطة الطريق نقاط ضعف كثيرة مشابهة لما كان في اتفاق أوسلو 1993 . فالخريطة، مثل أوسلو، لا تحدد الأهداف النهائية للتفاوض بل تقدم جدولا زمنيا غائما ل"البدء" بالتفاوض حول الوضع النهائي. وليس فيها، تماما مثل أوسلو، ما يشير الى ما سيحصل في حال فشل تلك المفاوضات. كما ان الخريطة - عكس أوسلو التي تسمح على الأقل لبضعة الاف من اللاجئين الفلسطينيين بالعودة الى الأراضي المحتلة - لا تعطي فلسطينيي الشتات اعتبارا يذكر، مؤجلة النظر في مطالبهم التاريخية ضد اسرائيل الى "مفاوضات الوضع النهائي" المعرضة بدورها الى تأجيلات لا نهاية لها. اضافة الى ذلك فان الخريطة، مقارنة بأوسلو، تنطوي من المنظور الفلسطيني على نقطتي ضعف اضافيتين: أولا، التوسع الكبير في المستوطنات خلال السنين العشر الماضية ما يعني تضخم التحدي الذي يقدمه الاستيطان لأي تحرك نحو التسوية. وثانيا، أن المؤشرات حاليا الى جدية الطرف الاسرائيلي في القيام بانسحابات عسكرية مهمة بالنسبة للفلسطينيين أقل بكثير مما كانت عليه في 1993 . لاحظت أعلاه انني لا ازال اعتقد ان هناك فرصة - مهما كانت ضئيلة - لنجاح خريطة الطريق. لكن اذا لم تنجح فاعتقد ان على الكل ان يعلم أن الفشل يعني نهاية الحل المتمثل بالدولتين. وماذا وقتها؟ الموقف الفلسطيني التقليدي هو العودة الى المطالبة ب"الدولة الديموقراطية العلمانية في كل أراضي فلسطين الانتداب" - المطالبة التي تأتي غالبا في صيغ بلاغية مجردة. وتلخص التصور القديم - أي قبل 1974 - لهذه الدولة في أنها ستكون أساسا فلسطينية عربية مع أقلية يهودية ذلك أن "السماح" بالبقاء" يقتصر على الذين كانوا في فلسطين قبل 1948، أو حتى، حسب بعض الآراء، "قبل الغزو الصهيوني"، بالرغم من صعوبة تحديد بداياته. هذه الفكرة، كما اعتقد، ليست أبعد ما يكون عن الواقعية فحسب، بل انها عنصرية. فيهود أسرائيل باقون وسيبقون، وقد أرسوا جذورهم في تلك الأرض، وابتنوا ثقافة عبرانية وطنية راسخة تشكل انجازا كبيرا في الواقع. لكن تمكن الاسرائيليين من ذلك لا يعني أبدا أن على الفلسطينيين التراجع عن مطالبتهم بأرضهم، بل أن على الفلسطينيين أن يعترفوا بوجود تلك الثقافة الوطنية الأخرى في أرض فلسطين/اسرائيل، وان يمدوا لها اليد ويتخذوا تجاهها موقفا يتلخص بالقول: "نعم، نرى انكم هنا وانكم باقون في هذه الأرض. لكن لنا نحن الفلسطينيين حقوقا تاريخية قوية فيها. ولذا فالخيار أمامنا سوية هو اقتسام الأرض لاقامة الدولتين أو التشارك فيها ضمن دولة واحدة ثنائية القومية". ونجد هنا ان حل "الدولة الثنائية القومية" يتشابه من وجوه عديدة مع حل "الدولة الديموقراطية العلمانية"، لكن هناك أيضا فروقا جوهرية. ومن بين الفروق الأهم أن الطرفين ضمن الحل الأول سيتبادلان الاعتراف بوجود بعضهما بعضا، لكن الطرف الاسرائيلي اليهودي ضمن النوع الثاني سيحتاج الى ضمانات اضافية بالبقاء كمجموعة اثنية ضمن تلك الدولة - وهو ما سيحتاجه الفلسطينيون ايضا. هناك بالطبع عدد من الدول الثنائية القومية، وحتى المتعددة القوميات، في العالم التي يمكنها ان تقدم نموذجا ايجابيا في هذا المجال، من بينها كندا وبلجيكا وجنوب أفريقيا الخ. السؤال اذن: دولة واحدة أم دولتان غرب نهر الأردن؟ انه ما يجب على الطرفين المعنيين التفكير به. عدا ذلك فالواضح بالنسبة لي أن لا فرصة للنجاح لأي حل يقوم على نموذج البانتوستانات. * كاتبة سياسية تنشر موقع الانترنت www.justworldnews.org