على جسر بروكلين ليلاً، فوق النهر الشرقي، التفت يساراً واحبس أنفاسك... بعد برهة ستطلع الجزيرة الساحرة، مانهاتن، بنكهتها المختلفة. تتملّك حواسك من دون جهد... سهلة ممتنعة. في الجزيرة الشاهقة العمارات، تشعر بضآلتك ويتملكك بعض الخوف. فمدينة المال والأعمال نهاراً، هي مدينة المسارح والأضواء والزينة مساء. واضحة المعالم... خارطة تقاطعات طولية وعرضية تمتد حول حديقة تفتح أبوابها للصغار والكبار، للمتريّضين والعشاق، للمتعبين وطالبي الاستجمام. تصل وفي ذهنك ألف سؤال. أنت العربي الميمّم صوب الجزيرة، تخاف أصابع الاتهام، فتفاجأ بأن لا غرباء في مانهاتن. تأسرك طيبة السكان، فتحتار في أمر هذا البلد وأهله حتى يخبرك العارفون كيف آلفت المصيبة بين القلوب وأدخلت الحرارة إلى النفوس. يقول تايلر 26 عاماً وهو يعمل في مجال البيع بالتجزئة: "تشعر اليوم بالودّ بين الناس أكثر من قبل، بات لدينا شعور حقيقي بأننا نشكل مجموعة واحدة وبأننا ينبغي أن نقف جنباً إلى جنب". ويؤكد أليكس وهو محام 27 عاماً، ذلك بقوله: "المدينة اليوم مختلفة. فيها درجة أعلى من التعاطف بين السكان". يتطلب الأمر بضعة أيام كي تدرك ما لا يمكن إدراكه من الوهلة الأولى. فكلما تكرر عبورك أمام الحفرة الهائلة التي خلّفها اعتداء الحادي عشر من ايلول سبتمبر 2001، تدرك أن الثقب في المشهد لا يكاد يوازيه في الحجم سوى الفراغ في وجدان النيويوركي. "أنا أسأل نفسي كل يوم... ماذا لو تكرر ما حصل؟ انه أمر مخيف ومحزن"، يقول روكو، سائق الباص الشاب، ابن المدينة التي فقدت في أقل من ساعتين من الزمن رمزين شامخين وظلاً شاهقاً في الأفق. هذا الأسى الذي ولّد رقة محببة في نفوس سكان نيويورك، أنتج نوعاً من الهستيريا الأمنية على المستوى الرسمي، تبلغ أشدّها في المطارات وفي "الموقع صفر" أو "غراوند زيرو" وهو ما كان يعرف بمركز التجارة العالمي. في المطارات يخضع القادمون لتفتيش دقيق لا يُغفل كعب الحذاء النسائي. وتطرح على القادم كمية من الأسئلة تجعله يفكر جدياً في العودة من حيث أتى، لكنه ما يلبث أن ينسى معاناته عند الدخول في إيقاع الحياة اليومية للمدينة. تقول مليسا الطالبة الجامعية، 25 عاماً: "لا يسيطر الحذر على تصرفاتنا، وحدهم زوار نيويورك قلقون وحذرون. أما نحن فنعيش حياتنا بكل بساطة". وفي "غراوند زيرو" يتفحص رجال الأمن أذونات الدخول الممنوحة لعدد محدد من الزوار، وغالبيتهم من أهالي الضحايا، بينما لا يُسمح للزائرين سوى بالمراقبة من خلف السياج. وتنتشر مئات الأعلام الأميركية في المكان وحوله. ويتولى عدد من المتطوعين شرح تاريخ المكان لعشرات الزوار الذين يتوافدون يومياً من داخل الولاياتالمتحدة وخارجها. داخل السياج، تقلّ سيارات تابعة لشرطة نيويورك الزوار حاملي التراخيص إلى المزار الخاص نحو 3000 شخص قتلوا في الاعتداء، كما يسمح لحملة الأذونات الخاصة بالتفرج عن كثب على الأشغال الجارية في الورشة وهي مقسومة إلى ورش عدة فرعية. وقد بدأ العمل فعلياً في ورشة إعادة بناء محطة للقطار تهدمت بفعل الاعتداء. أما البرج الجديد الذي اتفق على بنائه مكان البرجين التوأمين المتهدمين، فلن يبدأ العمل فيه قبل حلول الصيف المقبل. عندما افتتح الأميركيون البرجين عام 1973، أرادوا فيهما صرحاً يشهد على "عظمة" النظام الرأسمالي. وكان تشييد البناءين الشاهقين وارتفاع الواحد منهما 450 متراً استغرق ستة أعوام وثمانية أشهر. شكل التوأم مع خمسة مبان أخرى المجمع الذي عرف بمركز التجارة العالمي. قبل انهياره، كان المركز يضم نحو 500 شركة من 26 بلداً، توظف 50 ألف شخص. إلاّ أن المجمع كان يستقبل يومياً نحو 200 ألف زائر. كان عدد كبير منهم يقصد سطح البرج الجنوبي الذي أتاح لأهالي نيويورك أن يروا مدينتهم كما لم يحلموا بها من قبل. رؤية على امتداد 64 كيلومتراً في كل اتجاه. "أراد الإرهابيون خطف الأنظار... فقرروا أن يغيروا خطوط الأفق النيويوركي إلى الأبد"، تقول ميزا 29 عاماً التي تعمل في احد مصارف المدينة. لا شك في أن اعتداءات11 ايلول غيرت صورة هذا الأفق لا في أعين سكان المدينة فحسب، بل في نظر الكثيرين حول العالم ممن قدمت لهم هوليوود على مر السنين مشهد البرجين علامة شبه حصريّة للمدينة. وكما في أفلام هوليوود، يقسم العالم في نظر العديد من شباب نيويورك إلى فئتين: فئة الأخيار وفئة الأشرار. وهم وإن كانوا اليوم أكثر متابعة لأحداث العالم، إلاّ أن نظرتهم التي يلعب الإعلام الأميركي دوراً رئيساً في تشكيلها، لا تزال تفتقد إلى حد أدنى من العمق الثقافي الذي يتطلبه فهم أقل مشكلات الشرق الأوسط تعقيداً. ويقول تايلر "أعتقد بأننا كنا نعيش داخل فقاعة. اليوم فقط صرت أدرك مدى ارتباطنا بسائر العالم وأنا آسف لكل الذين اضطهدهم صدّام حسين وأشعر بأن من واجبنا كقوة عظمى أن نحمي المظلومين". وفي الحديث عن الإرهاب في نيويورك، تختلط الأمور... ويقبع في خندق "الإجرام" مقاتلو أفغانستان ومجاهدو فلسطين و"فدائيو صدّام". وتعتبر هيذر، وهي مدرّسة وتبلغ من العمر 28 عاماً "هذه المجموعات مترابطة ومتداخلة". أما روكو، سائق الباص، فيذهب الى أبعد من ذلك اذ يخبرك عن سبب اختيار الإرهابيين تاريخ الحادي عشر من ايلول. "في مثل ذلك اليوم في الماضي، أبرمت الولاياتالمتحدة اتفاقاً مع اليهود... وهم منفذو الاعتداء لا يريدوننا أن نساعد اليهود. ألا تسمعين بالتفجيرات في إسرائيل؟ لذلك هم يكرهون أميركا!". ويتابع روكو وعلامات الأسى الصادق بادية على وجهه: "لماذا يكرهون الفرح... لماذا يكرهون الحرية؟ أنا لا أفهم". تغادر الجزيرة الجميلة وشبابها البسطاء. تودع الفراغ الهائل في سمائها وتتجه إلى أقرب مطار. هناك تخلع حذاءك وتنتظر دورك في طابور المسافرين.