في التاسع من نيسان ابريل الماضي سقط أعتى نظام في عالم اليوم، ذلك هو سلطان صدام حسين في عراق الحضارات، وتنفس المواطنون العراقيون بالدرجة الاولى الصعداء وقد أزيل عنهم كابوس الارهاب المرهق بكل جبروته وطغيانه، وبكل ادوات قمعه وفتكه، واخذت تبرز على السطح كل مآسي السنوات العجاف المظلمة التي حكم فيها نظام البعث العراقي ورئيسه، فأزال كل معالم الحياة الانسانية، وترك مخلفات مؤلمة تحتاج الى سنوات من الجهد المتواصل لإعادة الطبيعة الى هذا البلد المعطاء، الغني بكل مقومات الحياة. وابناء هذا الوطن الغيارى في امكانهم صوغ عهد جديد لهم اذ لهم القدرة والكفاءة اذا فسح لهم المجال. لقد تجاوزت مسيرة التحرير بنا الشهرين، وقوى التحالف تسعى الى استتباب الامن، وما زالت فلول النظام السابق تعمل بخبث وحقد على ارباك الوضع الامني وانفلاته، واثارة النعرات الطائفية المقيتة بلون وبآخر، وبحجة بائسة، ورغبة جامحة لزعزعة المكسب الرائع الذي حظي به شعبنا العظيم، وهو التحرر من نظام الخيانة والقمع، والارهاب والتعسف. ان يقظة الشعب العراق المظلوم من نظام فاسد بائد تدعوه الى بذل المستحيل كي لا تعود عقارب الساعة الى الوراء من جديد، وسوف يحرص كل الحرص على الدفاع المستميت في سبيل بقاء مكتسباته الوطنية التي ناضل من اجلها سنوات القمع والارهاب. ومن هذا المنطلق الاساس لا بد ان نلتقي في ظل حرية الكلمة واصالة الرأي لنتداول في شؤون مستقبل عراق الغد، وما يلزمنا من اتخاذ موقف موحد ازاء كثير من القضايا التي تخص مسيرتنا المستقبلية الى جانب وحدتنا ومصيرنا المشترك، نظراً الى ان مسؤولية المستقبل لا تخص جهة من دون جهة ولا فصيلاً محدداً، وانما تخصّ تلك المسؤولية جميع العراقيين الذين ناضلوا من اجل اسقاط سلطان صدام حسين. لا شك ان العراق اليوم محكوم بسلطة قوى التحالف التي ساهمت في عملية التغيير مع الشعب العراقي، قد تختلف افكارها في ادارة الدولة حالياً مع افكار الكثيرين من القوى الوطنية على اختلاف نزعاتها وتوجهاتها الحزبية وغير الحزبية. لكنني لا اعدم الامل في التوصل الى الهدف في ما بيننا ما دمنا حريصين جميعاً على تحكيم العقل وعدم المجابهة الفاشلة التي يهدد بها البعض من الذين يحاولون تعكير الجو، والسباحة في بحر متلاطم. وفي هذه الحال الراهنة الوقتية كما اتصورها علينا ان نلاحظ النقاط الآتية: اولاً ان قرار مجلس الامن الرقم 1483 يحدد ان السلطة العليا هي سلطة التحالف الموقت، ومعنى هذا ان ليست عندنا حالياً سلطة او حكومة عراقية. وهذا جانب سلبي محض، ولكن الايجابي منه ان سلطة التحالف مسؤولة عن اعادة السلطة الى حكومة عراقية منتخبة غداً او بعد غد، وهذا يعني ببساطة الزام سلطة التحالف باجراء انتخابات يشارك الشعب العراقي بنتيجتها في العملية السياسية. قد يرى البعض ان تحقيق ذلك يقتضي ضرورة القيام ببعض الاجراءات من اجل تحقيق النتيجة، وهذا يتطلب بعض الوقت. نحن نقول بوضوح لا لبس فيه اننا نهدف بشكل اساسي الى ان نحقق المشاركة السياسية للشعب، فاذا كانت الاجراءات تتطلب بعض الوقت فنحن مستعدون لاعطاء الوقت المطلوب من اجل ان نحقق هدفنا المقدس، وهو الانتخابات، وليس هناك من سبيل الى اعادة السلطة الى الشعب الا من خلال صناديق الاقتراع. ثانياً طوال العقود السوداء الماضية كان الهم العراقي الكبير هو ان السلطة العراقية نشأت على أسس خاطئة لذلك كان الانهيار نصيبها، وقد يكون بدايته من زمن ما يسمى ب"الحكم الوطني". واذا كانت قد حصلت محاولات تصحيحية جريئة خلال العقود الماضية فإنها لم تتمكن من تحقيق هدفها المنشود، وقد يكون ضررها اكثر من نفعها. علينا الآن والفرصة متاحة لجميع العراقيين الشرفاء بناء الدولة العراقية الجديدة على اسس ديموقراطية دستورية تعددية، تمثل كل النسيج العراقي ومكوّناته من دون الغاء اي جهة طالما انها جهة عراقية. دولة تمتلك كل مقومات الدولة الحديثة وتحتفظ بالخصوصية العراقية، التي هي ضمان المستقبل السياسي. ثالثاً العمل على انتخاب مجلس تأسيسي يمثل جميع المحافظاتالعراقية لا بحجم سكانها يجمع فيه اهل الاختصاص من العلماء والاكاديميين، والقضاة والمحامين واهل الخبرة في المجالات القانونية، يكلف باعداد مسودة دستور دائم يعرض بعد ذلك على المجلس التأسيسي لإقراره، ثم يعرض للاستفتاء العام على الشعب العراقي بإشراف الاممالمتحدة، او اي جهة دولية حيادية، وان مجلساً مكلفاً من جانب اي جهة بوضع مسودة دستور دائم للبلاد لا يحقق تطلعات شعبنا العراقي. رابعاً ان العراقيين بمختلف انتماءاتهم الدينية والسياسية والقومية والمذهبية، وفي طليعتهم قوى المعارضة الوطنية في الداخل والخارج يتطلعون الى انبثاق سريع لحكومة عراقية تعبر عن تيارات الشعب العراقي ومكوناته كافة، وتساهم في ملء هذا الفراغ السياسي والاداري القائم الذي يتسبب بكثير من المشكلات المعيشية والامنية والسياسية، ويتطلعون الى دولة حضارية تقوم على أسس متينة تلم شمل البلاد، وتصونها من التشتت والتمحور. واساس هذه المقومات هي: الحرية والاستقلالية والعدالة. خامساً علينا ان نخطط للدولة العراقية الحديثة بشكل يضمن العدالة في توزيع الثروة الوطنية، كما يجب تعريف الشرائح الوطنية بحقوقها وواجباتها والغاء كل القوانين الجائرة والمجحفة بحق الشعب العراقي، والتي سنّت وفق ظروف معينة، غمط فيها حق الشعب، خصوصاً خلال نظام صدام الذي وظف قراراته لمصلحة سلطته البغيضة، وكان من جرائها الاضطهاد الطائفي والعنصري، والانتهاكات الفظيعة لحقوق الشعب العراقي العظيم، وما تضمنته من ممارسات قمعية، ترفضها القيم الانسانية، ومبادئ حقوق الانسان. سادساً من اولويات استقرار العراق واستقلالية مستقبله الايمان والعمل بمبدأ سياسة حسن الجوار، ورفض كل محاولات التدخل بالشؤون الداخلية، وتحت أي شعار كان. سابعاً العمل على ان تأخذ المرأة العراقية التي وقفت الى جانب الرجل في مراحل النضال السابقة دورها الطبيعي، وحقها الكامل في المشاركة السياسية والاجتماعية والاعمار، وضمن كل المؤسسات التي تفرزها المرحلة الانتقالية، وما بعدها، كما من الضروري اعطاء حقها في التعليم والادارة، وحقوقها في الامومة وفق ما قررته الشريعة الاسلامية لها، وكذلك لا بد من الاهتمام بالطفل العراقي، وتوفير سبل رعايته بما يحقق له التربية الصالحة. ثامناً لقد كانت سياسة النظام الصدامي البائد توظيف الطلاب في مختلف المراحل اداة لسياسته الفردية التي وظفها لمصلحة سلطانه، فكانت النتيجة تخلفاً مريعاً في المستوى التعليمي، ومن الضروري ونحن في بداية بناء عراق المستقبل ان نأخذ اجواء الدراسة في كل مراحلها بنظر الاعتبار والاولوية ونحترم حق الطالب في التحصيل العلمي في المدارس والجامعات والبعثات الخارجية بغية تأهليه بالمستوى العالي المثالي الذي يحتاجه الوطن في مستقبله. تاسعاً كان النظام السابق يصبّ جل اهتمامه على من يدور في فلكه فكان يغدق الاموال عليهم من دون رعاية للآخرين، والآن وقد عادت الامور الى مجاريها الطبيعية فلا بد من مراعاة الفرد العراقي من خلال تحسين احواله المعيشية والاقتصادية سواء كان موظفاً او متقاعداً وفي المجالات المدنية والعسكرية كافة، ممن كان لهم وجود شاخص في بناء كيان ووطننا الغالي ماضياً وحالياً وذلك بتخصيص مبلغ معين من موارد النفط لهم اسوة بالدول الاخرى، وعلينا توفير فرص العمل للشباب العراقي والاهتمام بمستقبله، وتفضيله على العامل الاجنبي الوافد. عاشراً علينا رعاية عوائل الشهداء الابرار والعمل على تحسين اوضاعهم المعيشية والمطالبة بالتعويضات، وكذلك الذين حكموا وسجنوا في سبيل الرأي والمعتقد ضحايا اجرام صدام ونظامه القمعي. من الضروري الآن، ونحن في اعراس التحرر من افظع نظام متخلف طائفي، ان تكون التجربة المرة التي قاسى منها شعبنا العظيم في هذه العقود العجاف باعثاً على صحوة زاهية وبكل ما يزيل عن هذا الوطن العريق شوائب الماضي السحيق، فنعمل على بنائه بما يعلي شأنه في العالم، وبما يوضح معالمه الشامخة في عقيدته، وأصالته، وخصوصيته، من خلال مؤسسات منتخبة تعبر بوضوح عن وحدة الوطن، وعراقة شعبه بكل مكوناته من عرب واكراد وتركمان ومسيحيين، وسائر اقلياته. ان علينا ابناء هذا البلد ان نتعلم ونعلم الناس كيف نحقق حقوقنا من دون خوف وخشية ووجل، وبالطرق السلمية؟ وكيف نتمكن من اعادة السلطة للشعب بعد ان سلبت منه طوال العقود السوداء الماضية؟، وكما تشير المقولة الشهيرة "ما ضاع حق وراءه مطالب". كما علينا ان لا نتوقع لشعب عاش اكثر من ثلاثة عقود في طاحونة الدمار والموت ان تتغير الامور في البلاد بشكل طبيعي سريع، فالتركة الثقيلة تركت بصماتها على كل انسان عراقي، وتجاوزته الى الشجر والتربة والانهار، لذلك لا يمكن التحدث عن الاستقرار والامن الا بشكل نسبي، وبهذا المعيار يمكننا القول ان العراق اليوم افضل من امسه، ونطالب قوى التحالف بجدية اكثر في ملاحقة فلول النظام البائد، والمجاميع الاجرامية المتوافقة معها، من اجل وضع حد للجرائم وحالات الاختطاف والسلب والنهب والطيش، ورحم الله شاعرنا الكبير حين يقول: فضيّق الحبل واشدد من خناقهم/ فربما كان في إرخائه ضرر... * رجل دين وسياسي عراقي. والنص من محاضرة ألقاها في نادي العلوية في بغداد في 21 حزيران يونيو.