تسمح المتابعة بالاستنتاج من دون محاذير كبيرة بأن العراقيين في معظمهم سعداء بالخلاص من النظام البعثي كله وليس فقط من افرازه الاعلى والاسوأ، أي طغمة صدام حسين. وأن الديموقراطية الدستورية هي النظام الاصلح الذي تتحرق له النخب الواعية والفاعلة في المجتمع. لكن اقامة هذا النظام تبدو لديهم عملية عسيرة للغاية وربما مستحيلة في المدى القريب لأسباب بعضها خارجي مرتبط بخطط قوى الاحتلال الاميركي - البريطاني خصوصاً، وبعضها، وهو الاهم، عراقي محلي في مقدمه قطعاً هشاشة التأسيس العائد الى الفترة الملكية التي استمرت لأكثر من ثلاثة عقود. فإذا صح، ان العراقيين سيتمسكون بالديموقراطية الدستورية بكل قواهم وسيدافعون عنها بقوة وبراغماتية اذا حصلوا عليها هذه المرة، فإن عليهم البدء من الصفر في بنائها معتمدين، من جهة، على عزمهم لوضع حد للمعاناة والخسائر الجسيمة التي تحملوها خلال القرن الاخير بسبب سيطرة الحكومات الديكتاتورية التي حكمتهم سواء التي شكلت في ظل النظام الملكي الذي كانت السلطة فيه بيد تحالف مالكي الاراضي مع الضباط والباشوات الموالين لبريطانيا، او ما سمي بالجمهورية التي كانت الطغم العسكرية فيها، لا سيما بعد انقلاب شباط فبراير 1963، الحاكم المطلق غالباً. ومستفيدين، من جهة ثانية، من ثروتهم الجديدة المتمثلة في ثقافة الاطلاع والاحتكاك واحياناً ممارسة التجارب الديموقراطية الغربية والتي راكمها عراقيو المهجر، الذين يتحدث البعض عن بلوغ عددهم نحو ثلاثة ملايين او اكثر، منهم نحو النصف في دول ذات انظمة برلمانية دستورية. فهذه الثقافة ثروة ثمينة بذاتها يتناسب تأثيرها الايجابي طردياً مع قوة حضورها في المجتمع مستقبلاً. وهناك من جهة ثالثة، "قوة الوعي" بالضعف المأسوي الحالي الذي يشعر به العراقيون داخل البلاد وخارجها وهم يرون انفسهم خارج اللعبة السياسية الخاصة بهم، بينما تتعلق هذه اللعبة برسم مصيرهم هم ذاتهم. فهذا الضعف له "ايجابية شر" واحدة على رغم الوضعية الكارثية التي يعنيها لهم وقوع بلادهم تحت الاحتلال العسكري الاجنبي المباشر، وتتمثل في غياب مؤكد في اللحظة الراهنة تحديداً للفئة المتسلطة سواء على صعيد الحكم او المعارضة او النفوذ السياسي في الشارع. اذ لا جماعة سياسية تحظى بالثقة نفسها التي كانت لها من قبل. والعراق اليوم يشبه ربما في محنته، كبلد محتل عسكرياً، ما كان عليه بعد الغزو البريطاني لأراضيه في 1917، الا انه يختلف جذرياً في كل شيء عدا ذلك، وخصوصاً في تشكيك غالبية ابنائه بكل من يريد التفكير بدلاً منهم او الوصاية عليهم، بما في ذلك في طريقة الخروج من هذه المحنة. وهذا يشمل الجميع في رأينا خصوصاً جماعات المعارضة السابقة المسكونة بهاجس "ملء الفراغ" فيما تبدو قوى الاحتلال على ادراك للأمر جيداً بحكم تجاربها الاخرى. ورأينا كيف فوجئت او فجعت عندما وصلت الى داخل العراق، جماعات في المعارضة السياسية الخارجية سابقاً، كانت تتوهم نفسها في موقع مماثل للجنرال شارل ديغول عندما عاد الى فرنسا بعد انهيار الاحتلال الهتلري لبلاده وبفضل القوات الاميركية والبريطانية ايضاً!، فإذا بها تكتشف "غربتها" الجديدة، وتدرك متأخرة ان مواقع الانترنيت والصحف الخلابة لا تصنع القوى الاجتماعية في العراق ايضاً. من هنا نعتقد ان المهم بالنسبة الى العراقيين التركيز الواضح والجريء، الآن، على ضرورة سلامة التأسيس للنظام الديموقراطي الدستوري المأمول بعيداً من الأوهام والتعصب والترويج العاطفي الارتجالي الجاهل منه او المتحزب لهذه الجماعة او ذلك المفهوم. وبالطبع فإن النموذج الليبرالي التعددي الغربي على حد علمنا في التجارب المعروفة هو المقصود بهذا الطرح، ما يعني بداهة اقصاء اي نماذج اخرى قومية او دينية او شمولية تزعم تجسيد الديموقراطية الدستورية حالياً على الاقل. هذا التصور يوازيه تصور آخر ايضاً وهو ان نظاماً ديموقراطياً متكاملاً وتعددياً وواقعياً في عراق ما بعد صدام حسين، ينبغي ان يكون من اختيار الشعب مباشرة عبر استفتاءات مباشرة وشفافة كلياً وتحت عيون الصحافة العالمية والمنظمات الدولية كمراقب وليس كمشرف او وصي. الا ان الاولوية ينبغي ان تذهب الى الجوهر وحده، وهو بناء الدولة الحديثة وإرساء آليات وشروط العملية الديموقراطية الدستورية الملموسة ذاتها، عبر نشر وتعزيز اخلاقيات المجتمع المدني واشاعة السلم الاجتماعي والامن وتعميم الثقة بالنفس على اساس اولوية المواطنة وثقافة الحقوق والواجبات وفصل السلطات على اساس الدستور وبعدها بشوط بعيد الاستفتاء على شكل الحكم وعلى كل الاشياء الاخرى من دون عقد او اوهام بداهة. ومن هذه الأوهام القول إن النظام الملكي افضل من النظام الجمهوري في العراق بينما يبدو الاخير الاكثر رقياً وازدهاراً وانتشاراً في كل العالم على صعيد العلاقات الانسانية والمفاهيم الحضارية وضمانات حماية مستقبل البلاد والمجتمع. وحتى إن كان النظام الملكي افضل، فإن الشعب ينبغي هو ان يقرر ذلك في اللحظة المناسبة. المشكلة الفعلية في العراق حالياً ليست المفاضلة بين النظام الجمهوري والملكي انما انهيار كيان الدولة، وهذا بدأ تدريجاً منذ الانقلاب البعثي في 1968 ووصل ذروته مع نظام صدام حسين. واطلعت باهتمام وسرور على الملاحظات النقدية التي وجهها السيد نجدة فتحي صفوت في رد نشرته له على آراء في مقال لي نشرته في 17 حزيران يونيو 2003، منه بعنوان "شعار عودة الملكية الى العراق وتأثيره في العلاقات المستقبلية مع الاردن". وأدهشني بميله المفرط الى المطابقة بين النظام الجمهوري والطغم العسكرية الانقلابية التي حكمت العراق بعد اطاحة النظام الملكي الهاشمي، مسهلاً على نفسه المطابقة وبشكل مفرط ايضاً بين الاخير والنظام الملكي الدستوري، غير متردد بروح تعليمية تقليدية في اتهامنا بعدم الالمام "إلماماً كافياً" بتاريخ العراق الحديث. لكن الدهشة تلاشت عندما وجدنا السيد صفوت يستغرق في الترويج العاطفي لرئيس الجماعة التي تطالب بالعرش في العراق وفي كيل المديح بسخاء ما بعده سخاء للنظام الملكي الهاشمي، فيقول: "كان العراق في العهد الملكي ينعم بجهاز حكومي من انزه الاجهزة الحية في الوطن العربي وأكثرها كفاية، وبنظام اقتصادي حر، متين، مزدهر، وبوفرة من الارصدة والأموال، وكانت حاله الاقتصادية في تحسن مطرد، وموازنته معلنة، متوازنة، مدروسة"... والى آخره من العبارات الحماسية التي كان الاعتقاد يراودنا بأنها انقرضت من اللغة التحليلية في السياسة ناهيك عن التاريخ او الفكر. وعلى رغم احترامنا للسيد صفوت، فإن هذه الاقوال تفتقد الى الجدية تماماً عندما يعترف صراحة بأنه يناصر شخصاً بعينه لحكم العراق باعتبار ترشيحه "هو الحل الامثل وربما الحل الوحيد لمشكلة العراق التي لا حل لها سواه" لا لبرناج سياسي او اجتماعي او فلسفي او لتاريخ نضالي ملموس انما لمجرد ان السيد صفوت "ملكي الهوى" وهذا حقه المطلق في كل الاحوال. كما انها تتناقض مع تأكيده الغريب انه يكتب استنتاجاته "بعد طول دراسة وتأمل في تاريخ العراق الحديث" متباهياً باكتشاف درة طريفة وهي أن "منصبة الملوك" جيرترود بل "كانت آنسة لا سيدة" هل لهذا اهمية في تاريخ العراق الحديث!، ليستنتج ان هذا "دليل آخر الى عدم إلمام الكاتب بتاريخ العراق الحديث، ولا بالموضوع الذي يقحم نفسه فيه" في تلويحات تمزج التنابز بالردع في آن، وتفيد قطعاً بأن السيد صفوت استغرق في ترجمة الوثائق البريطانية الى درجة لم يعد يرى اهمية في الرجوع الى غيرها لكتابة تاريخ كان المستعمر البريطاني الخصم لا الحكم فيه على حد علمنا. فهذه عشرات البحوث العلمية والوثائق والمذكرات التي كتبها عراقيون وغير عراقيين تؤكد أن العهد الملكي لم يكن في العراق عهد احترام للحقوق والحريات كما انه لم يكن عهد ازدهار اقتصادي واجتماعي. كانت هناك انتخابات وبرلمانات ودستور دائم وصحافة في العهد الملكي، الا انها كانت شكلية غالباً وتعاني الانتهاكات ومن دون توقف تقريباً. ففي ظل النظام الملكي قمعت المعارضة الوطنية وأسقطت الجنسية عن كتّاب وسياسيين، وأطلقت النار على عمال مضربين سلمياً وسجناء سياسيين، وقتلت الشرطة متظاهرين بالمئات كما أعدمت قيادة حزب يساري كانت في السجن اصلاً، بسبب مواقفها السياسية الرافضة للهيمنة البريطانية. وعن هشاشة بنية النظام الملكي يكفي ان نذكر ان العراق عرف من الانقلابات العسكرية الدموية خلال العمر القصير للملكية الهاشمية أكثر مما عرف بعدها، إذ جرت انقلابات عدة نجح ثلاثة منها في اخذ السلطة لبعض الوقت هي انقلاب بكر صدقي/محمد علي جواد عام 1936 ثم انقلاب العقداء القوميين الأربعة حركة رشيد عالي في 1941، وحتى انقلاب/ثورة تموز يوليو عام 1958. إضافة إلى الوثبات الوطنية والانتفاضات الشعبية المتكررة وقيام الجيش بقصف العشائر العربية في الفرات الأوسط والجنوب والكردية والمجزرة ضد الآشوريين. لكن هشاشة النظام الملكي تبدو على حقيقتها في ضعف تركتها في مجال بناء الدولة الدستورية الحديثة، ما يفسر الغياب المباغت لكل مؤسساته السابقة حال انهياره وحتى من ذاكرة الناس تدريجاً. ولو كان قوياً ورصيناً وحقيقياً للعب هذا التأسيس دوراً مهماً في اعاقة انحدار الدولة ذاتها ولأصبح رافداً اساسياً في بناء المستقبل في دولة نزعم ان الديمقراطية، او شكلاً منها على الاقل، تجد مسقط رأسها في العراق اصلا قبل ان يكتشفها الاغريق. ان نظاماً ديمقراطياً جمهورياً دستورياً في العراق المقبل يمتلك كل شروط النجاح، علاوة على انه الحل الوحيد للأزمة العراقية الحالية في رأينا. واذا كنا نعتقد بشكل جازم ان العراق يشبه فرنسا في كون ارضه سهلة الغزو وكونه قادر على "امتصاص" الغزاة مع مرور الأيام، فإنه يشبه فرنسا في ان الجمهورية اصلح واعظم في اطلاق مزاجه وقلبه وعقله. * كاتب عراقي. رئيس تحرير القسم العربي في "يونايتدبرس انترناشنال"