ما دام هذا ليس الأوان، فما الذي يدفع إلى الخوض في أحداث عراقية سابقة؟ الذنب ليس ذنبي لأن البعض كتب عنها في "الحياة" حلقات متتابعة، وعلق عليها البعض في إيجاز على رغم أنها حدثت في ستينات القرن الماضي في العراق الحبيب. المسافة بيننا وبينها طويلة، إذا قيست بما حدث خلالها من أحداث جسام، وخطيرة، إذ كانت مع غيرها سبباً في الموقف المؤسف الذي أصبح فيه العراق ونحن معه الآن. أغلب من كتبوا كانوا من قادة الجيش العراقي، وراعني أنهم لم يكتبوا عن الاستراتيجيا أو التكتيك أو الحرب، لكنهم كتبوا عن ممارستهم سياسة من طريق التآمر والانقلابات والتصفيات ولو كان ذلك على حساب عدم تفرغهم لزيادة القدرة القتالية للقوات المسلحة التي تولوا قيادتها في الظروف الخطيرة التي كانت تحيط بالعراق وهو واقف على الأبواب الشرقية للأمة العربية التي ما إن تسرب منها العدو حتى أصبح داخل القلعة، والقلاع لا تسقط إلا من داخلها. تلك الكتابات قدمت توضيحاً كافياً وجلياً، خصوصاً بعد إقامة الجيش العقائدي أيام حكم البعث، عن أسباب هزائمنا ونكساتنا، لأن العبرة ليست بالتسليح الذي يُشترى بالمال ولكن العبرة بالتفرغ والقيادة والتدريب والعلم، فهي التي توفر الجهد والعرق والدم وتحقق الانتصار، فليس هناك وحدات رديئة، ولكن، هناك قيادات رديئة، فالرأس الفاسد لا يبقى إلا على جسم فاسد لأن الجسم الصحيح يلفظه ولا يبقي عليه. علاوة على ذلك، فإن ما كتبوه اتسم تاريخياً بعدم الدقة، فإن كان هذا من غير قصد فإنه يدل الى أن معرفتهم بمجريات الأمور كانت هامشية، الأمر الذي يتناقض مع ما صوروه من أنهم كانوا اللاعبين الرئيسين في تسيير الأمور، وإن كان ذلك عن قصد فإنه يدل على التلاعب في أحداث التاريخ، وهذا ما يعانيه تاريخنا العربي، لأن كاتب التاريخ لا يصنع الأحداث بل يكتبها كما يراها كآلة التصوير تصور ما أمامها من دون رتوش. وآه من الرتوش التي قلبت الهزائم إلى انتصارات، ما يفسح في المجال للهزائم أن تتكرر ويقف الناس حيارى يتساءلون عن السبب!! أقف أمام كل ما كتب عند حدثين، لا للقيام بمقارنة فات أوانها، ولكن لأضيف شيئاً إلى ما قيل وربما أتجاسر وأنزل لأصحح شيئاً لما كتب لأنني حضرت وشاركت في صنعهما: الأولى محاولة انقلاب حدثت في أيلول سبتمبر 1965 وكنت وقتئذ سفيراً للجمهورية العربية المتحدة في بغداد. والثاني محاولة انقلاب أخرى جرت ضد الحكم العراقي في بغداد وكنت وقتئذ وزيراً للإرشاد القومي. ذهبت إلى العراق ضمن وفد برئاسة المشير عبدالحكيم عامر للتعزية في وفاة الرئيس عبدالسلام عارف في حادث طائرة قيل إنه من صنع القدر وقيل إنه من صنع البشر. وقد كتبت عن الحدثين بالتفصيل في كتابيّ "كنت سفيراً في العراق" و"50 عاماً من العواصف - ما رأيته قلته". * محاولة انقلاب أيلول 1965: كنت وقتئذ سفيراً لمصر في العراق، ويمكن أن أدعي أنني كنت على علم بكل ما يجري في سراديب السياسة العراقية في ذلك الوقت. كان الطريق مهيئاً أمام الحكم القومي لتحقيق الأماني التي طالما تمناها الشعب العراقي، ولم يكن هناك ما يشير إلى احتمال حدوث حركات مضادة في القريب العاجل تهدد استمرار الحكم القائم، ولكن، كان الخوف أن ينهار الحكم من داخله لصراعات جارية تحت السطح وخلافات تتعمق بين الفرقاء، وظهر للعارفين ببواطن الأمور أن الكتل أخذت تتربص ببعضها بعضاً. كل منها يريد القضاء على الآخر، وأراد الرئيس عبدالسلام عارف - ضمن سياسته لتفتيت هذه الكتل - استقطاب عارف عبدالرازق آمر القوات الجوية إلى جانبه من طريق صديق الطرفين سعيد صليبي آمر الانضباط العسكري، فعينه رئيساً للوزراء خلفاً لطاهر يحيى كما عين الدكتور عبدالرحمن البزاز سفيراً للعراق في لندن، وكان موجوداً وقتئذ في بغداد، نائباً لرئيس الوزراء. وقبل أن يعلن النبأ اتصل بي الرئيس عارف في منزلي من طريق هاتف خاص بينه وبيني، وأخبرني بالتعديل المنتظر، كما حدثني البزاز يزف الأخبار، وحرصت في حديثي مع الرئيس على أن أنصح بضرورة لمّ شمل الفئات القومية المتناثرة في الوزارة الجديدة، وحين انتهت المحادثة الغريبة وجدتني اتساءل: ولماذا يتصل بي الرئيس ليخبرني بتعديل لم يعلن عنه؟ وما هذه الثقة المفاجئة بعارف عبدالرازق بعد الفشل المرير في شخصه؟ وتوقعت شراً، وتم تشكيل الوزارة على عَجل وفي نية الجميع استغلال ذلك للإطاحة بالرئيس عارف بطريقة سهلة أثناء وجوده في مؤتمر القمة في الدار البيضاء. وحانت اللحظة التي ينتظرها الجميع حينما غادر الرئيس عارف قاصداً الدار البيضاء يوم 12/9/1965 وسط مراسم توديع اشترك فيها كل المسؤولين والسفراء وتولى السلطة بالنيابة أثناء غيابه مجلس مكون من رئيس الوزراء عارف عبدالرازق ورئيس الأركان اللواء عبدالرحمن عارف وحان وقت تنفيذ الخطة التي عدلت مراراً، واستقر الرأي على ان تتم وفق الخطوات الآتية: يتم الاستيلاء على معسكر أبو غريب مساء 14/9/1965، في صباح 15 يتم الزحف على بغداد للاستيلاء على محطة الإذاعة والسيطرة على المراكز الحيوية في بغداد، تذاع البيانات، تحلق القوات الجوية في سماء بغداد، يتولى عارف عبدالرازق قيادة العملية من مكتبه في رئاسة الوزراء. استدعى عارف عبدالرزاق كلاً من سعيد صليبي، آمر الشرطة العسكرية وحميد قادر مدير الشرطة ودعاهما للاشتراك في العملية كلاً على حدة، لكنهما رفضا، وعلى رغم ذلك أطلق سراحهما واتصل أحدهم بتدبير من سعيد صليبي بقيادة الانقلاب ليخبرها بفشل الاستيلاء على معسكر أبو غريب ولم يكن هذا صحيحاً، وهنا صدرت التعليمات بتأجيل العملية، وتوقفت عجلة الانقلاب المبتور، وأصبح سعيد صليبي في مقره بالانضباط العسكري سيد الموقف، وحينما تم الاتصال به ليتولى رئاسة الجمهورية رفض. وفي صباح يوم 15/9/1965 عقد اجتماع في منزل عارف عبدالرازق لتدارس الموقف، وبعدها غادر هو وعائلته إلى القاهرة على متن إحدى الطائرات الحربية ولم أكن - كسفير لمصر - على علم باتجاه الطائرة إلى القاهرة، وبالتالي لم تكن القاهرة على علم بذلك. كان ذلك يتم والرئيس عارف هناك في الدار البيضاء، وقد علم بتفصيلات ما حدث من الرئيس عبدالناصر، إذ كنت أرسلت اليه بالتفصيلات قبل أن يتمكن أحد في بغداد من إخطار الرئيس عارف بما حدث، ولعل هذه المبادرة كانت سبباً في الشكوك - التي لا أساس لها - التي سيطرت على الرئيس عارف بعد ذلك. وقطع الرجل زيارته إلى الدار البيضاء ليعود إلى بغداد، ونزل في مطار غرب القاهرة حيث كان في استقباله المشير عبدالحكيم عامر، وأخذ طريقه بعد ذلك إلى بغداد بتنسيق كامل معي لأن طائرات مقاتلة عراقية كانت في انتظار طائرته لإسقاطها، ولم أخبر أحداً بموعد وصول الطائرة خوفاً على حياة الرجل، حتى أن أخاه عبدالرحمن رئيس الأركان كان يعلم حينما اصطحبته إلى المطار أنه ذاهب لمقابلة وفد عسكري قادم من القاهرة على متن إحدى الطائرات الحربية في تمام الساعة الخامسة، وحينما رأيت الطائرة وهي تحلق في سماء المطار أخبرت عبدالرحمن عارف بمقدم أخيه فترك كل شيء وانصرف ليعد حرس شرف لاستقبال الرئيس القادم. ونزل الرئيس عارف من الطائرة وهو ثابت الجنان وسلم على النفر القليل الموجودين، وأوصلناه في إحدى العربات الصغيرة إلى القصر الجمهوري ليبدأ محاولاته للسيطرة على الموقف، وكانت أول كلمة قالها لي في محادثتي الهاتفية. "رجلكم في الحكاية يا أبو هاشم". كان بشير الطالب أحد مرافقيه قام بالواجب ليوجه الاتهام إلى القاهرة، وكان هذا افتراء. ويا ليت الرئيس عارف يسمع هذا وهو في قبره أمام الله. وقابلت الرئيس بعد ذلك في اليوم التالي: كانت مقابلة عاصفة، وكان الفضل في ذلك يرجع إلى مرافقي السوء. وحدثت ملابسات مؤسفة طوال هذه الأحداث. قبيل حدوث الانقلاب كنت قد انتويت السفر إلى القاهرة للتشاور، وفعلاً تم حجز مكان لي في الطائرة المصرية التي تغادر بغداد ظهر يوم 15/9/1965، وأخطرت القاهرة بذلك كما أخطرت عائلتي بموعد الوصول. وفي يوم 14/9/1965 رأيت من اللائق والواجب الاتصال بعارف عبدالرزاق رئيس الوزراء لأخطره بسفري في الغد فاتصلت به في رئاسة القوات الجوية حيث كان يغلب وجوده فقيل لي إنه في مكتبه برئاسة الوزارة، فاتصلت به هناك في نحو التاسعة مساء، وردّ الرجل عليّ بهدوئه المعتاد فأخبرته بموعد سفري في الغد، وبرغبتي في لقائه قبل السفر، وكان من عادة الصديق "أبو رافع" أن يرحب باللقاء في أي وقت وأي مكان، إلا أنني فوجئت برده "في الصباح يفعل الله ما يشاء"، وانتهت المحادثة وتركت له حرية معاودة الاتصال. لم أكن أعلم حينما اتصلت مع "أبو رافع" ان عجلة الانقلاب دائرة، إلا أن هذا الاتصال المسجل استغل أسوأ استغلال في الأيام التالية في الوقيعة بين الرئيس عارف والقاهرة من دون تقدير للمصلحة القومية. كان أول وقت علمت فيه بالانقلاب الساعة العاشرة من صباح 15/9/1965 من طريق أحد الاصدقاء، فألغيت سفري إلى القاهرة، لمواجهة الموقف ثم أرسلت المعلومات الخطيرة إلى القاهرة لنقوم بإرسالها إلى عبدالناصر في الدار البيضاء، وهذا يفسر كيف كان الرئيس أول من أخطر "أبو أحمد" بحدوث الانقلاب، وفي الوقت نفسه قمت باتصالات عدة: مع سعيد صليبي قائد موقع بغداد فأخبرني أنها محاولة شيوعية أخمدت، ولكن، بعد ذلك أخبرني بالحقيقة، واتصلت بعارف عبدالرزاق في منزله فتحاشى الرد، واتصلت مع عبدالرحمن عارف فكان آخر من يعلم وذكر أنها محاولة شيوعية تمت السيطرة عليها، وأبلغت أبو قيس أن القاهرة وافقت على وضع قواتها تحت تصرفه، إذْ كان لنا قوات مصرية في معسكر التاجي. وحوالى الساعة الثانية بعد الظهر استقل عارف عبدالرزاق طائرة حربية ومعه عائلته وبعض ضباطه واتجه إلى القاهرة التي لم تكن علمت بالأحداث لأن برقيتي كانت وصلت ولكن لم تحل شفرتها بعد. ولذلك استقبل عبدالرزاق الاستقبال اللائق برئيس وزراء واستضيف في قصر الطاهرة، ولكن، حينما صرح بما حدث رجوه أن يقدر الموقف إذا ما اضطروا إلى استضافته في فندق شبرد، وكانت السيدة زوجتي رحمها الله في مرافقة عارف وأسرته للصداقة الحميمة التي تربط عائلتينا، ولعن الله السياسة!! بدأ الحرس القومي البعثي ينزل إلى الشارع وتمركز البعض منهم حول مبنى سفارة الجمهورية العربية المتحدة ودار السفير، وقام قائد القوة المصرية بحراسة المنزلين ببعض دباباته. بعد ظهر ذلك اليوم الطويل أخبرني صديقي عبدالهادي البكار وكان يعمل وقتها في الإذاعة العراقية أن العقيد بشير الطالب الذي يتولى حراسة مبنى الإذاعة يردد وسط ضباطه أن سفير الجمهورية العربية المتحدة هو الذي دبر الانقلاب، وان معه شريطاً مسجلاً لاتصال تم بيني وبين عارف عبدالرزاق مساء يوم الانقلاب، وكانت جريمة أخرى تجرعتها في ذلك اليوم الطويل. وفي المساء حضر بعض الوزراء العراقيين إلى السفارة ومعهم برقية فيها معلومات عن الانقلاب يريدون ارسالها من طريقنا إلى الرئيس عارف في الدار البيضاء، وأرسلناها لتصل إليه بعد وصول برقيتي الى الرئيس عبد الناصر بعشر ساعات. وما رأيته قلته والله على ما أقول شهيد.. وفي مقالنا التالي سنحكي عن محاولة الانقلاب الأخرى. * كاتب مصري. وزير دفاع سابق.