تحتاج حركة "حماس" بكل تأكيد في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها قضية الصراع العربي - الصهيوني إلى نصائح المحبين لها والمتعاطفين معها بالقدر الذي تحتاج فيه إلى دعمهم المادي والمعنوي. وقضية الصراع العربي - الصهيوني وعاء أشمل بكثير من "حماس" أو غيرها من حركات المقاومة داخل فلسطين تلك التي تحتل مكانة رفيعة في الضمير العربي. والقضية بتفاصيلها محفورة في جدار الأمة وذاكرتها جيلاً وراء جيل قبل أن تقوم "حماس"، وستستمر إلى أن يتسلم الراية قائد ملهم يوحد فيالق الجهاد ويدخل القدس فاتحاً ومحرراً ويعيد الحق إلى نصابه. ليست وحدها "حماس" التي امتعضت من تصريحات أبو مازن في العقبة التي طالب فيها بإنهاء عسكرة الانتفاضة وعززها في غزة، وإنما غالبية الرأي العام العربي رفضها ولم يشفع لأبي مازن ما يروج له خلف ستار أو يروجه له حواريوه من أنه استهدف من ورائها ورقة سياسية ورسالة يبعث بها إلى صانع القرار الأميركي ولا بأس من استخدامها فى خلفية صناعته لشخصيته المفقودة فى صناعة القرار الفلسطيني وتأهليه كقيادة مقبولة بعد عرفات، غير أن الذي أفقدها أي قدر من التفهم داخل أروقة الشعوب العربية هو البوح بها في خطاب مكسور مهزوم يلقي الضوء على أوضاع مزعومة لمعاناة الشعب اليهودي، في الوقت الذي أغفل فيه معاناة حقيقية لشعبه الذي يتجرعه غصباً على سدة الحكومة. لكن "حماس" حينما تتحدث كثيراً في الآونة الأخيرة عن الانتقام والثأر عقب كل عملية اغتيال يتعرض لها رمز مقاوم أو اجتياح لمدينة فلسطينية مقاومة باسلة، قد يقلب المفاهيم أو "يشوشر عليها"، ويحولها من حركة تملك رؤية استراتيجية شاملة لمقاومة العدو المحتل ومن ثم تحرير الأرض وإقامة دولة مستقلة، إلى مجموعة مقاتلة تسعى إلى الثأر وتنشغل بردود الأفعال أكثر ما ترمي إلى الفعل وصناعته. والبون واسع بين حركة الكفاح المسلح والمقنن عبر منظومة مترابطة من القيم والنصوص الدينية والأعراف الدولية عبرت عنها في فترة حركة "فتح" إلى ما قبل أوسلو وتسلمت الراية "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وبين عمليات الثأر والانتقام التي تتسم بمحدودية في آفاقها وأفق المهتمين بها. وحينما ننعى مجرد الثأر فإننا بكل تأكيد لا ننال منه ولا من الساعين إليه ولا ننكره عليهم، لكننا في الوقت ذاته نخشى أن يتحول الكفاح المسلح والجهاد الواجب للتحرير وإقامة الدولة إلى مجرد ثارات انتقامية تتأثر بمنهجية العدو المنظم وبقدراته القتالية وقبلها مشروعه التوسعي، وهو يجرها لفخ غير واضح المعالم. كانت محاولة اغتيال الرنتيسي بما يمثله من قيمة فكرية وسياسية تعكس شموخ المقاومة وصواب أجندتها بعداً قوياً في الدلالة على غطرسة شارون ومنطقية التخوف من صدقيته، مثلما كانت محاولة اغتيال خالد مشعل من قبل دفعة قوية للنضال السياسي لحركة "حماس". وإذا كانت المقاومة المسلحة عبر روافدها المتنوعة والتي تأتي في جانب متقدم منها العمليات الاستشهادية تحتاج إلى فهم الطبيعة التضاريسية الجغرافية للأرض ضماناً لنجاحها وإصابتها لأهدافها المنشودة نوعياً ومرحلياً، فكذلك المقاومة السياسية تحتاج إلى فهم معطيات المناخ السياسي المحيط بها ومكوناته. وإذا كان "حزب الله" في لبنان استطاع أن يوفر لنفسه غطاء عربياً ملائماً رسمياً وشعبياً ارتكن إليه في مقاومته المسلحة المشروعة، حتى استطاع أن يحقق انتصاراً كبيراً وحرر غالبية الأرض في الجنوب وبقيت مزارع شبعا، فإن حركة المقاومة داخل فلسطين، وفي الطليعة منها "حماس"، تحتاج إلى توفير قدر مناسب من الغطاء العربي على رغم أن أدواته الحالية تعاني فقراً مدقعاً فى ضوء الهيمنة الأميركية واجتياحها المنطقة بعد غزو العراق وإسقاط نظامه وتمحور قواتها داخله وعلى حدود بلدان أخرى متلاصقة، بما يعني صعوبة في التحرك تختلف عن الأجواء التي انطلق منها "حزب الله" والذي تقل معاناته الحالية عن "حماس" وأخواتها مما تحتاج معه حركات المقاومة إلى حسن تدبير أكثر رشداً وأقل أنفعالاً أو تأثراً بردود الأفعال. بقدر ما أبدت قيادات "حماس" فى العامين الأخيرين قدرة مناسبة من المناورة والكر والفر فى ظل اجتياح صهيوني صارم لأراضي السلطة الفلسطينية وحصار عرفات ومحاولات مستميتة لدفع الأمور إلى الاقتتال الداخلي بتحقيق الفتنة، وكانت "حماس" في كل مرة حريصة على تفويت الفرصة بمنع بؤر الانفجار المأزوم للحالة الداخلية، خصوصاً أن عملية اختيار أبو مازن قد أحاطت، بما صاحبها من ضغوط دولية وإقليمية على عرفات لإنفاذه، بمدى الرهان الذي تعوّل عليه الإدارتان الأميركية والصهيونية على نجاح تحقيق الفتنة بالاقتتال الفلسطيني واشتعال الحرب الأهلية داخلياً. وفي هذا السياق ربما جاءت مطالبات أبو مازن الشهيرة بإنهاء عسكرة الانتفاضة ومن المنطقي أن ترفضها "حماس" في شكل مطلق وبقية حركات المقاومة الأخرى. نقول أيضاً ل"حماس" وننصح بضرورة تحرير خطابها السياسي من الإنشاء والقوالب الحماسية، بما يتيح لها حسن مواجهة اتهامات أميركية عنيفة ضدها تصمها بالإرهاب ودعوتها السلطة الفلسطينية الى اتخاذ إجراءات وتدابير حاسمة من أجل تفكيك "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، بل ما تمارسه الإدارة الأميركية من ضغوط عنيفة على الدول العربية من أجل "إنهاء" الدور الذي تلعبه "حماس" ما دفع السودان إلى استعداده إغلاق مكاتب "ىحماس" في الخرطوم !! إننا لا نغفل بالتأكيد أهمية الدور المعنوي للتواصل مع عواطف الشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة كما ينبغي التواصل مع الشعب العربي في كل مكان، وإنما نود توازناً معقولاً وخيطاً ممتداً بين الجهاد المسلح والخطاب الإعلامي والسعي الديبلوماسي. إننا بكل تأكيد مع الصمود والشموخ في معالجة هذه "الاتهامات الأميركية المنحازة"، لكننا أيضاً مع ضرورة تحرك مضاعف سياسي وإعلامي وفكري عبر منافذ أوروبية وأخرى عربية شعبية تخترق الحصار الأميركي العنصري، فلا شك أن حالة الاستسلام العربية الرسمية للاتهامات الأميركية الزائفة ضد العراق عن امتلاكه أسلحة دمار شامل لتبرير الغزو لم تمنع دولاً أوروبية عريقة من مجافاة المنطق الأميركي - البريطاني المغلوط، وحالت دون إصدار قرارات من الأممالمتحدة تضفي مشروعية على قرصنة التحالف، وخرجت التظاهرات المليونية فى كبريات العواصم الأوروبية ترفض الحرب على العراق. وبعد كتابة مقالي جاءت الأنباء عن العملية الاستشهادية الجديدة التي قامت بها كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة "حماس" داخل القدس حينما تنكر الاستشهادي الفلسطيني بزي رجل دين يهودي وقام بتفجير نفسه داخل أحد الباصات أسفرت عن مقتل قرابة ستة عشر إسرائيلياً وجرح أكثر من خمسين آخرين، ثم تفجرت الأحداث على النحو الذي نرقب مستجداته ساعة بساعة. والذي أحب أن أشير إليه أن استمرار حركات المقاومة داخل الأراضي المحتلة في عملياتهم الاستشهادية هو مما لا نخالفهم فيه. بالعكس نراها دليلاً الى حيوية الشعب الفلسطيني وقدرته على إفراز استشهاديين باستمرار وإلحاق الضرر بالمجتمع الصهيوني وقوات الاحتلال، غير أن ما نرمي إليه هو أن تصب مثل هذه العمليات داخل منظومة استراتيجية متكاملة عسكرياً وسياسياً وديبلوماسياً، مع رجاء أخير لقادة المقاومة بعدم نشر أسماء الاستشهاديين لتفويت الفرصة على العدو بهدم منازل أسرهم وتشريد ذويهم. اقتراح يحتاج لرعاية أكثر من نسبة العملية لهذا الفصيل أو ذاك، مدنيين أم عسكريين!! نقلت وكالات الأنباء أخيراً عن صحيفة صهيونية نتائج استطلاع للرأي ذهب خلاله معظم الشعب الإسرائيلي إلى أن توقيت محاولة اغتيال الدكتور عبد العزيز الرنتيسي أحد أبرز قياديي "حماس" كان موفقاً، بمعنى أنهم يوافقون على الاغتيالات، ما يفتح الباب مجدداً عن جدوى التفرقة بين العسكريين والمدنيين عند تقويم عمليات المقاومة الفلسطينية؟! * محام مصري وكاتب إسلامي.