لأيام عديدة تصدرت حركة المقاومة الاسلامية "حماس" واجهة الاحداث اثر محاولة الاغتيال الفاشلة لأحد اهم قيادييها عبدالعزيز الرنتيسي، وباتت الحركة لازمة على ألسنة المسؤولين الاسرائيليين والاميركيين الذين اعلنوا الحرب الشاملة عليها على مختلف الصعد، اذ توعد شارون ب"سحق" الحركة وبنيتها التحتية واستهداف جميع قادتها من دون تفريق بين سياسي وعسكري. انصافاً للحقيقة فإن هذا المستوى من الهجوم على "حماس" لم يتوافر في أي مرحلة، أقله من زاوية حدته وحجم وعيده اضافة الى مشاركة الولاياتالمتحدة الفاعلة فيه، غير ان ذلك لا ينفي ان شيئاً قريباً من ذلك قد حدث. هل تذكرون قمة شرم الشيخ عام 1996 التي شارك فيها زعماء العالم اجمع اثر موجة العمليات العسكرية التي نفذتها الحركة رداً على اغتيال قائد جناحها العسكري المهندس يحيى عياش، والتي قيل انها اسقطت رئيس الوزراء شمعون بيريز؟ في قراءة تاريخ الحركة منذ نشأتها سنعثر على محطات متوالية تبشر بأن الهجمة الجديدة ستنكسر مثل سابقاتها وستبقى الحركة جزء مهماً من نسيج الشعب الفلسطيني، والأهم انها ستبقى عاملاً له اثره في تشكيل الوعي الجمعي للامة العربية والاسلامية. نقول ستنكسر حتى لو افضت في ظاهرها الى اصابة الحركة في جملة من عناصر قوتها، كأن يصل الاسرائيليون الى قيادتها السياسية ويغيبونها قتلاً او اعتقالاً، بما في ذلك المؤسس الشيخ احمد ياسين. وهذا أمر الذي تراجع على نحو ملحوظ بطلب شارون الهدنة، ووضوح الميل الاميركي - الاسرائيلي الى "التهدئة" عبر ضغط السلطة على "حماس" وتسليمها مهمات الامن من جديد. في تاريخ الحركة ثمة محطات مهمة تعرضت خلالها لضربات شديدة، كان اولها منتصف العام 1989 بعد اختطاف جنديين اسرائيليين وقتلهما. وقد اعتقل في هذه الضربة عدد كبير من قادة الحركة بلغ حوالي مئتين وستين، وكان على رأسهم الشيخ احمد ياسين. في تلك الآونة لم يبق احد من الكبار، ما اضطر مسؤولاً في الخارج موسى ابو مرزوق الى المجازفة بدخول غزة لاعادة ترميم ما تهدم، ومن ضمن ذلك الجهاز العسكري كتائب عزالدين القسام. الضربة الثانية كانت اواخر العام 1990 حين اعتقل حوالي الف وسبعمئة شخص من الحركة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتلا ذلك مباشرة ابعاد اربعة من القياديين الى الخارج. وفي هذه المرحلة حصلت عملية الابعاد الشهيرة نهاية العام 1992، والتي شملت كبار رموز الحركة والصف الثاني منها، غير ان تلك العملية كان مفاجئة في خاتمتها، اذ انتهت بانتصار كبير للحركة. في العام 1993 وقع اتفاق اوسلو الذي بدأ تطبيقه في قطاع غزة، ما أدى الى تراجع الفعل العسكري بتعاون السلطة الامني، ونتاجاً لمخاوف الحركة من الصدام معها في آن. في هذه المرحلة استشهد عدد من ابرز رموز الكتائب وعلى رأسهم الشهيد عماد عقل، وهنا انتقل العمل العسكري الى الضفة الغربية لتبدأ مرحلة الشهيد يحيى عياش والنمط الجديد من العمل الاستشهادي الذي انطلق بعملية الشهيد سامر التمام في شهر نيسان 1993. تواصلت العمليات وبدأ التعاون الامني يصل الضفة الغربية، ففر يحيى عياش الى غزة، وهناك كان موعده مع الشهادة في الشهر الاول من عام 9619، ثم كان الرد الذي انعقدت على اثره قمة شرم الشيخ في آذار مارس من العام نفسه كما اشير سابقاً. ما تبقى من عام 96، ومعه اعوام 97، 98، 99، وصولاً الى اندلاع الانتفاضة في ايلول عام 2000 كان الاسوأ على الحركة، غير انه لم يكن بسبب الاحتلال بل بفعل اوسلو وسلطته والتعاون الامني، والاهم هو الانقسام في الشارع حول برنامج المقاومة، اثر تبني "فتح" لاوسلو. هذه المحطة اكدت معادلة مهمة في هذا السياق تقول ان ضربات الاعداء ليست هي التي تصيب المقاومة وقواها، بل الانقسام الداخلي، وتعاون فريق مع الاحتلال ضد المقاومة من خلال اجتهاد سياسي مخالف. وهي المعادلة التي اخذت تحرك اللعبة السياسية خلال الايام الاخيرة. يؤكد هذا الجانب ما جرى بعد انتفاضة الاقصى، فحين توافر الاجماع على برنامج المقاومة، عادت "حماس" اكثر قوة من ذي قبل وساد فكر الاستشهاد عموم الساحة الفلسطينية. بل ان ما جرى عقب عملية "السور الواقي" من هجوم اسرائيلي اصاب قادة الضفة الغربية السياسيين والعسكريين لم يؤد الى نهاية المقاومة او تراجع الحركة. ولولا تردد السلطة الذي تلا هذه المرحلة لكان الوضع افضل بكثير. اذاً، فقد اعتقل القادة المعروفون في الضفة الغربية او اغتيلوا، لكن ذلك لم يوقف العمل، فيما بقي الوضع قوياً في قطاع غزة في وقت يعاني فيه من ضآلة الاهداف العسكرية. والحال ان تردد القيادة الاسرائيلية في احتلال القطاع من جديد لم يكن الا خوفاً من تداعياته الامنية والعسكرية وليس السياسية. ثمة خسائر كبيرة كان يمكن ان تترتب على اعادة احتلال قطاع غزة لعل اهمها الخسارة العسكرية قياساً الى معركة مخيم جنين، فالقطاع الذي يزدحم بالبشر كما لا يتوافر في أي منطقة في العالم كان لا بد له ان يقاوم بشراسة، خصوصاً بوجود جحافل من الشبان المقبلين على الاستشهاد، فيما يعانون من قلة الاهداف العسكرية، وقد شاهد العالم تلك العمليات المتواصلة على اسوار المستوطنات من قبل شبان صغار اضطرت "حماس" الى مناشدتهم الا يفعلوا حفاظاً على انفسهم. والحال ان مجزرة تبدو متوقعة في قطاع غزة في حال الاجتياح الشامل. اما الاهم من ذلك كله فهو انهاء السلطة واعادة الاحتلال الكامل بما يترتب عليه من مسؤوليات مدنية، وبما يترتب عليه من نتائج عسكرية حيث التواجد داخل المدن والمخيمات الذي يجعل مهمة المقاومة اكثر سهولة، خصوصاً ان المحظور الآخر ممثلاً في القدرة على مطاردة المقاومين والوصول اليهم يبدو وارداً في الحالين، كما يحدث في الضفة، وكما يحدث ايضاً في غزة من خلال عمليات التوغل والاجتياح والانزال شبه اليومية. ان اعتقال قادة "حماس" السياسيين في غزة وبينهم العسكريون او من يمكن الوصول اليه منهم، سيعيد ظاهرة المطاردين في كل فلسطين، ولن يكون كافياً لجعل المعركة رابحة للطرف الذي يعتقلهم، بدليل التجارب السابقة. ان أسهل شيء يمكن تعويضه هو الجانب الانساني، فكل شهيد يتبعه اخر او آخرون وكذلك شأن المعتقلين الذين لا يقلون تأثيراً عن الشهداء. بل ان حدوث ذلك على هذا النحو سيجعل الوجهة محسومة في الوعي الفلسطيني، فهي المقاومة ولا شيء سواها بوجود عشرات الآلاف من المعتقلين ومسلسل الشهداء اليومي. ولا ننسى هنا تأثيرات ذلك كله في مجرى الصراع على الصعيد العربي والدولي، حين يعود الاحتلال الى وجه البشع بعدما اخذ شكلاً آخر خلال مسيرة اوسلو وحتى الآن. ان اغتيال قادة "حماس" او اعتقالهم في غزة كما حصل في الضفة الغربية لن يؤدي الى نهاية الحركة، بل سيزيدها قوة وتجذراً في الوعي الفلسطيني والعربي والاسلامي، فضلاً عن ان مددها من الرجال سيكون كبيراً بالتفاف الشعب من حولها. ذلك هو الضمان الاهم لاستمرار قوة الحركة. اما وجود القيادة السياسية للحركة في الخارج فسيشكل عنصر توازن دائم خصوصاً اذا حصلت الضربة في ظل احتمالات تطور في الوضع العربي والدولي وخروج له من سطوة القوة الاميركية بعد اندلاع المقاومة في العراق. لقد توعد القادة الاسرائيليون مراراً ب"سحق" حماس، لكن ذلك لم يحدث وواصلت الحركة صعودها، ما يؤكد ان الخطر الحقيقي على خيار المقاومة لا يكون من اعدائه، بل من الداخل تحت عنوان الانقسام على كونه الخيار الافضل، وهو امر يبقى موقتاً اذ يحدث ما انتهى اليه مسار اوسلو، وما يمكن ان ينتهي اليه مسار خريطة الطريق في حال فرض تحركه بسطوة القوة الاميركية. * كاتب من الاردن.