مهما أثار الأمر الاستغراب ظاهرياً، إلا أنها ليست المرة الأولى، التي يبدي فيها المستبدون ميلاً خاصاً الى الفن والأدب. فإذا عرف التاريخ البعيد نيرون بصفته شاعراً "رقيقاً"، والتاريخ القريب أدولف هتلر رساماً ومعمارياً، وماوتسي تونغ ناظماً للقوافي الطويلة، فإن ظاهرة الديكتاتور - الكاتب ، كما يبدو، تحولت إلى تقليد لافت في عصرنا الحاضر. طغاة يكتبون بأنفسهم الروايات والمسرحيات وينظمون الشعر. يكتبون بأنفسهم؟ هذا ما يوحون به على الأقل، أو يُجبرونك على تصديقه وبمختلف الوسائل. يسأل المرء نفسه من أين يملك هؤلاء الوقت الكافي للكتابة، فإذا كان الحاكم "العادي" في البلدان غير الديكتاتورية يعمل كما هو معروف 16 ساعة في اليوم، فإن الديكتاتور يعمل تقريباً على مدار 24 ساعة! يقف المرء مشدوهاً، أمام قدرة هؤلاء الطغاة على السيطرة على هذا التنافر: كتابة القصيدة والرواية والنوتة الموسيقية باليد ذاتها التي تُعذب وتقتل. من الخطأ النظر بتهكم الى الأعمال التي تُكتب أو تنشر باسم هؤلاء، أعمال ركيكة مثيرة للسخرية. الركاكة هذه بالذات، هي دليل قوتهم، فمن يفرض نفسه على الملايين من الناس، ليس شخصاً ضعيفاً، وحتى لو افترضنا أن أحداً "مثقفاً" كتب له هذا العمل "الركيك" كما تسرب عن كتبة صدام حسين من "المثقفين" العرب، فإنها قوة الطاغية أيضاً، التي تُقنع الآخرين بالتخلي عن شخصياتهم وكتابة نصوص على مقاس المستبد. الضعيف هو الذي يكتب للديكتاتور وليس الديكتاتور - الكاتب. لأن الضعف يعني التمزق الداخلي، الانكسار والاتكاء على شعارات طنانة، في حال انكشاف السر. الطغاة لا يخجلون من العمل المكتوب. على العكس، يفخرون به، ويجعلونه يوزع في كل مكان، ويقيمون له المؤتمرات التي يقدم فيها أهل الاختصاص الدراسات "العميقة". تلك هي ميزة الرؤساء: انهم أقوياء غير منكسرين، يؤمنون، بما يفعلونه، بالتمام. وعلى هذا الأساس علينا أن نستوعب التزامن بين الكتابة الأدبية والعنف، وبأنه يتحول عندهم إلى شيء واحد. والأخطر من ذلك أيضاً أن جميعهم، ينحدرون من علاقات ما قبل قروية، بدائية، علاقات اجتماعية بسيطة، وعندهم ثأر قديم مزمن وتدميري لكل ما هو ثقافي. من هنا تأتي خطورة أعمالهم وضحالتها في المضمون، والشكل، وهذا يستدعي أخذها في الاعتبار ليس عند تحليل شخصية هؤلاء المستبدين فقط، وإنما عند تحليل شخصية المجتمع الذي يحكمونه ويروج لهذا التخريب الثقافي، الذي يجب أن يصنف تحت باب: أسلحة الدمار الشامل عند محور الشر الأدبي! اثنان من قائمة الأدباء الذين نتحدث عنهم، سبق أن وضعتهما الولاياتالمتحدة الأميركية على قائمة "المارقين". والثالث تحت الرصد، ضمن الجناح الشرقي ل"محور الشر"، والرابع وجه جديد يطل على الشاشة "العالمية" للشر، ويبذل جهداً "شريراً" يُحسد عليه للتعريف بنفسه، لأن اسمه ما زال غير معروف في العالم وفي الغرب بصورة خاصة حتى الآن" لكن من الممكن، أن يشكل اكتشافاً جديداً بديلاً لصدام حسين، وخصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار وضع بلاده الاستراتيجي والثروات المعدنية فيها. الخامس صُنف منذ سنوات طويلة كمجرم حرب، هارب من وجه العدالة. شخصياً، يُسعدني، أنني أعيش في جزء من الكرة الأرضية، من الممكن أن يكون فيه الأقوياء حمقى، ويفتقرون الى الذوق الأدبي، لكنهم على الأقل، لا يُقدمون أنفسهم أدبياً، ولا يكلفون الآخرين كتابة ملاحمهم، على رغم أن السوق هنا، في الغرب، مفتوحة للجميع. الرئيس العراقي المخلوع كان عبئاًً ثقيلاً، ذلك الذي كان على "أبي كل العراقيين"، تحمله طوال سنوات حكمه "القرقوشي". إذ كما يبدو، لم يقع على كاهله قتل مئات الآلاف من العراقيين أو دفنهم وهم أحياء فقط، إنما أن يكتب أيضاً الملامح الأدبية. فبعد أن اكتشف بنفسه الرسالة التي أُلقيت على عاتقه، توقف عن سماع الأطنان الغثة من القصائد المملة والطويلة، وأخذ على عاتقه أن يكتب روايات حب أخاذة يمدح بها نفسه. لم تكن هناك حاجة الى وكالة دعائية للترويج، فقد كانت كتبه تُروج بأحدث الطرق الشرقية: ابنه عدي من جهة هو رئيس اتحاد الأدباء والصحافيين والفنانين. ومن ناحية أخرى، كل شخص يُعرض عليه الكتاب ولا يشتري نسخة منه، يُقطع رأسه. ثلاث روايات صدرت له حتى الآن، والرابعة عُثر عليها في مكتبه، جاهزة للنشر. الملاحم تلك، من "القلعة الحصينة" وحتى "أخرج منها يا شيطان". وكل رواية منها تحمل لقب "أم الروايات"، تلقن الشعب، والرجال منهم بالذات، الدرس الذكوري الأول: ليس هناك حب من دون بطولة. وتعلم النساء الطاعة: ليس هناك حب من دون طاعة: "أنا قائد عظيم، عليكِ طاعتي، وأكثر من ذلك، عليكِ أن تحبيني". قصص ينتصر فيها القائد "التاريخي" ومعه ينتصر الشعب ذاته. والأمر يصبح أكثر درامية، إذا عرفنا العبء الحالي الذي وقع على حرامي بغداد من جديد: أن يشغل نفسه مرة أخرى بمقارعة "الأعداء" الأميركيين، في الوقت الذي يحتاج ربما، الى كتابة رواية ملحمية جديدة، تحكي عن صعود قرية العوجة وانهيارها". وجه جديد واعد: نيجاسوف الرئيس التركمانستاني، سابار مراد نيجاسوف، يملك كل المواصفات التي يمكن كل "مارق" التحلي بها. فإضافة الى تمتع بلاده بالوضع الاستراتيجي، الذي اكتسب أهميته في السنوات الأخيرة، لأنها تقع على حدود أفغانستان وإيران، فإن "أبا كل التركمانستانيين"، يخضع لمراقبة الملاحقين القانونيين الأميركيين منذ زمن غير قصير، بسبب علاقاته الجيدة المعروفة أيضاً مع كل الأطراف المتحاربة في أفغانستان. كان عليه المساهمة "في الحرب ضد الإرهاب" بعد 11 أيلول سبتمبر، كما طلب منه الأميركيون، وهذا ما فعله "ظاهرياً" بحماسة، عندما سمح للوحدات الأميركية باستخدام المجال الجوي لبلاده، وشدد على مراقبة تجارة المخدرات على حدود بلاده، ظناً منه، أن أميركا ستكافئه لاحقاً، ولن تصيخ السمع لصيحات منظمات حقوق الإنسان، التي تتحدث عن الرعب الذي يبثه الطاغية في مواطنيه. يُقال، ان صحراء "كاراكوم"، التي تغطي مساحات كبيرة من تركمانستان، تحتوي على ما يقارب 500 آلاف برميل من النفط إن لم تظهر بدلها المقابر الجماعية، كما ظهر في صحراء العراق، ناهيك عن احتياط الغاز الطبيعي عند بحر قزوين. الثروة هذه تسمح لنيجاسوف بالتحول إلى مارق من العيار الثقيل، لأنه يجسد النموذج المثالي لشخصية البطريرك، الحاكم الأوحد، الذي يملك وحده صلاحية إدارة الكنوز الأرضية، والذي لا ينقصه إلا كتابة الشعر. "روحنامة"، هو عنوان القصيدة الطويلة، أو "الملحمة الشعرية"، التي أهداها الى شعبه. "كتاب الروح التركمانستانية" هذا، الذي يحوي 400 صفحة، المجلد بغلاف وردي: "مثل أحلام الشعب"، يُعرض ليس فقط في البنايات الرسمية، إنما يواجه المرء في كل مكان: على أغلفة علب الشاي، وقناني الفودكا، على الأوراق النقدية، وفي الألعاب النارية، ودائماً تبرز في الواجهة، صورة مؤلف "روحنامة": رجل عجوز في حقيقته، على رغم الشعر المصبوغ للتو بلون اسود فاحم، لا ينجح في تسويق خدعة شبابه، مثلما لا تنجح ابتسامته الواضحة للعيان بإخفاء ملامحه الصارمة، ملامح الجلاد. "أيها الوطن الأم، أيتها الدولة ذات السيادة، تركمانستان، أنت ضوء ونشيد الروح، لتعيشي طويلاً ولتزدهري الى الأبد"، تقول الأبيات الأولى من ال"روحنامة"، وهي أيضاً المقاطع الأولى من النشيد الوطني للبلاد، ويُراد منها أن تكون وثيقة أساسية يعتمد عليها الشعب، لكي يعرف أنه قومية لها تاريخ طويل. محاولة عبثية أصلاً، لأن ليس هناك أصلاً قومية بهذا الاسم، حتى وإن حاول نيجاسوف تثبيت شجرة "وهمية" لأصل البلاد، تشبه تلك الشجرة التي ثبتها صدام حسين لأصله العلوي. "روحنامة"، هي الكتاب الأول في المدارس والجامعات، والذي يُعرض نقاده للموت. على أي حال، يشك أنتون شبيغيل الذي ترجمه الى اللغة الألمانية، بأن يكون نيجاسوف هو المؤلف الحقيقي للكتاب. أنها لمفارقة أيضاً، أن الكتاب على رغم ترجمته، لم يصدر عن أي دار نشر في ألمانيا، لأن ليس هناك دار نشر تجازف بسمعتها. لكن يمكن الحصول عليه من طريق فرع مرسيدس في تركمانستان، التي كلفت هي ترجمة الكتاب" الأمر طبيعي. قبل وقت قصير وقّعت شركة مرسيدس اتفاقاً مدته سبع سنوات، يسمح لها ببيع سياراتها في تركمانستان، والشركة لا تحتاج إلى أي إعلان هناك، لأن السيد الرئيس أبا كل التركمانستانيين لا ينافس حبه للشعر غير: سيارات مرسيدس. كيم سونغ ايل...فناناً البلاد التي عزلت نفسها عن القرية العالمية وأوصلت علاقتها بالعالم إلى أضعف المستويات، تلجأ الى العولمة إذا استدعت الحاجة، لذلك لم تجد السلطات هناك غضاضة، في توزيع كتابات سيادة "باني مجد البلاد"، كيم سونغ ايل عبر الموقع الألكتروني لكن الرأسمالي "أمازون". هكذا يمكن المرء الحصول على عملين مترجمين الى الإنكليزية للرجل المدور الذي يشبه القرع، "القائد المحبوب" من طريق "امازون" بعد أسبوعين من طلبهما. وهناك مقاطع منشورة منهما، دعاية للكتاب. المعلومات التي يقدمها الموقع، تقول لنا، ان كيم سونغ ايل يسير على التقاليد التي وضعها له أبوه في مخطوطة سابقة. في العام 1988 نشر رئيس جمهورية كوريا الشعبية، كيم إيل سونغ توفي 1994 الكتاب الأول من سلسلة أراد لها أن تضم 20 جزءاً تحوي "مجموع الموسيقى الكورية". يُقال، ان الابن صور للسينما بلا عقدة أوديبية، في 1969 أوبرا "بحر الدم"، التي لحنها الأب نفسه. الأوبرا تروي قصة تحرير كوريا من اليابانيين. كيم سونغ إيل، كما يبدو، لا يكتب الكتب الأدبية بالمعنى الضيق للكلمة كما يؤكد مادحوه، إنما يتحدث عن الفنون الجميلة. الكتاب الأول عن "فن السينما"، الثاني "حوارات مع مبدعي الفن والأدب"، وهو نصوص قديمة ترجمها الرئىس الكوري، فهو كما يُقال خبير في اللغة الكورية القديمة. لذلك تحتفي البروباغندا الرسمية به، بصفته "الكوري الأول الذي يجسد كل عقل الثقافة الكورية": "عبقري في الأدب، في الفن، وخصوصاً في فن الحرب!". مجرم حرب يكتب للأطفال؟ رادوفان كارادجيك اكتشاف الوحدة، ربما يخدم المرء بالكتابة" ورادوفان كارادجيك، كما يبدو، المثال النموذجي لذلك. الشائعة التي يتداولها الناس في منطقة البلقان، تقول، ان رادوفان، المطلوب أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي كمجرم حرب، ويُفتش عنه في كل مكان من البوسنة والهرسك، أخفى نفسه في الجبال، وهو يستغل الوقت، بكتابة القصائد. بالفعل، ثمرة هذا الاختفاء، عمل شعري جديد مكتوب للأطفال بصورة خاصة يحمل عنوان "ليس هناك معجزة، بأن هناك معجزة"!! هذه مجموعته الشعرية الخامسة. الرجل الذي تحت أوامره، قتل وشرد جنود "جمهورية سربسكا" عشرات الآلاف من الأطفال في البوسنة والهرسك، لا يكتب فقط القصائد، إنما يكتب بالذات القصائد للأطفال. ولكي يكتمل المشهد "السوريالي"، فإن هذه القصائد بالذات، بالنسبة الى نقاد صربيين، تشكل تطوراً "إبداعياً"، ومستواها أفضل من مستوى قصائده المكتوبة للكبار. على رغم ذلك، من يقرأ قصائده، لن يكتشف موهبة "شعرية" تختفي خلف القصائد، لأن المستوى "العالي" المقصود، مكتوب بمستوى أسوأ من المستوى الذي كتب فيه سامي مهدي وعبدالرزاق عبدالواحد... ولكن نموذج رادوفان فيه من الغرابة ما يكفي، فالرجل قبل أن يصبح مجرم حرب، ورئيس الجمهورية الصغيرة "سربسكا" تقع اليوم ضمن البوسنة، درس الطب، وبالذات "الطب النفسي"، وبعد اتفاق دايتون، تحول رادوفان إلى مجرم حرب هارب، لا يستطيع حتى مزاولة وظيفته الأصلية: المحلل النفسي، وربما لهذا السبب عاد الى هوايته المحببة، كتابة الشعر. كارادجيك يكتب بلغة بسيطة، قروية، تعبر عن تصوره "الساذج" للعالم، تعتمد على القافية والوزن ليست هناك قصيدة مكتوبة في شكل آخر. انه يكتب لوطنه، يمجد حياة الريف والأدب، يحن الى المرتفعات والوديان والجبال والحقول، ويجد في المدينة تهديداً للحياة، ويعتبر مدينة "ساراييفو" بالذات: "متروبول الرعب". وإذا كان كارادجيك اعتبر قبل الحرب شاعراً سيئاً فقط، فإن من الصعب قراءة شعره الآن من دون التفكير بأنه مجرم حرب، وهارب من العدالة. وتكفي قراءة قصيدته "ساراييفو"، التي يصور فيها المدينة "ملتهبة"، حتى يتذكر المرء بالذات حريق "ساراييفو" الفعلي، الذي كان كارادجيك أحد أكبر مشعليه. وهنا لا ينفع التذكير، بأن القصيدة كُتبت في العام 1971، سنوات طويلة قبل الحرب. انها بهذا الشكل، بمثابة إعلان عما سيجري لاحقاً. إعلان عن "ثأر شاعر بائس". مروجو أعمال "محور الشر" الأدبي، لا يبدون أي شك بعبقرية هؤلاء. فمن أجل ذكر مثال واحد، صرح ناشر كارادجيك قبل أيام، بأن أعمال كارادجيك ستصدر في لغات أخرى، وأن كتابه المقبل "رادوفان وصربيا" سيكون على قائمة الأكثر مبيعاً، وسيرشح كاتبه لجائزة نوبل بالتأكيد".