ينحصر بث الأغاني السياسية او الملتزمة، كما تسمى، في المناسبات الوطنية أو في حالات الطوارئ العربية الناجمة غالباً عن نكسة أو بمجزرة. ومع غياب أبرز الأسماء التي أسست لهذه الأغنية بسبب انحسار مشجعي انتاجها، وجد بعض مستغلي الظروف فرصتهم، التي يصعب عليهم تفويتها كالعادة، لمزاحمة بعضهم بعضاً في تسجيل الأغاني "الوطنية" وتصويرها على طريقة الفيديو كليب "المؤثرة" أيضاً، معتمدين على شركات الانتاج اللاهثة خلف الكسب المادي. لم يعد للأغنية السياسية أو الملتزمة الموقع نفسه الذي عرفته في السبعينات والنصف الأول من الثمانينات من القرن الماضي عندما كانت تخاطب الشباب الثائر وتعمل على التحريض السياسي والايديولوجي. اختلف تأثيرها اليوم وكذلك موقعها بعدما خفت وهجها، وارتبطت هويتها الى حد بعيد بتمسك الفنان نفسه بخلفية فكرية ثقافية وسياسية، مضيفاً اليها نظرته الفنية الجمالية. أغنية مختلفة الفنان خالد الهبر، وهو من رموز هذه الأغنية، لا يحبذ تسميتها بالأغنية السياسية، لأن معظم الأغاني لها مكانها السياسي في حركة المجتمع، ويفضل ان يعتبرها أغنية مختلفة، أحياناً متمردة، ثائرة، ولا تشبه غيرها من الأغاني أو مما نسمعه في شكل عام. هذه الأغنية هي وليدة المجتمع، لأنها من حيث الشكل تجمع كل الأنماط الموسيقية، من الشرقي العتيق وصولاً الى الغربي، وهي تعبّر عن هذا الخليط. أما من حيث المضمون، يضيف الهبر، فيفترض بهذه الأغنية ان تعبّر عن الحياة التي نعيشها وهي عبارة عن حال طوارئ سياسية دائمة لم تهدأ منذ نكبة 1948 ثم نكسة 1967، ثم شبه انتصار 1973، الى جانب الحرب الأهلية في لبنان التي اتخذت اشكالاً مختلفة بعد اتفاق الطائف، وصولاً الى الحرب على العراق والمنطقة "المشكلة اننا وُجدنا في منطقة غنية بالبترول". وفي حين يلتزم الفنان الهبر هذا النوع لقناعته بعدم توافر الظروف والعناصر الايجابية التي تسمح له بالتوجه الى انواع اخرى من الغناء، يشعر الفنان أحمد قعبور انه محاصر بأغانيه السابقة ما جعله يتحفظ عن تسمية "رواد" الأغنية الملتزمة، الأمر الذي أظهره مع بعض الأسماء وكأنهم "الوكلاء الحصريون" للأغاني الوطنية، على رغم امتلاكه الرغبة كفنان في الغناء لمواضيع أخرى تشمل الحب والطفل، الانكسار والانتصار الروحي... وغيرها. ويعتبر قعبور أن تصنيف الأغاني يفتقر الى الموضوعية، لأنه يربط تحديد قيمة الأغنية بالموقف السياسي الذي تعبّر عنه وليس بالقيمة الفنية الجمالية، كما يفترض. شباب اليسار ويتوافق معه في الرأي الفنان خالد العبدالله الذي يعرّف الأغنية الملتزمة بالعمل "النظيف" الذي يتمتع بشروط فنية على مستوى معين في الكلام أو الشعر أو اللحن والأداء، وكذلك التوزيع الموسيقي. والالتزام بالنسبة الى خالد ينطلق على أساس الأغنية الراقية الجدية سواء تناولت قضايا وطنية أم غرامية... المهم أن تُؤدى بصدق. والأغنية الوطنية أو السياسية، بمفهومها العام، تعاني اليوم أزمة صدق بالدرجة الأولى، بحسب خالد العبدالله، وهي تُنتهك في كل مناسبة ب"فورات" من الأغاني دون المستوى يتكرر فيها الكلام ليحمل الكثير من الابتذال والندب المقصود. غير ان الأمر الذي يدعو الى الاطمئنان، يضيف العبدالله، ان الجمهور الوفي لهذه الأغنية ومعظمه من الشباب اليساري، يتمتع بحس ذكي ولطيف يمكنه من الإحساس بصدق المطرب أو ابتذاله. ومن المعروف عن خالد العبدالله انه يؤدي الأغاني الوطنية كما العاطفية الطربية بإحساس عال ومرهف، هو الذي قدّم تحية للشيخ إمام من خلال تسجيله أغانيه الطربية التي لا يعرفها الناس ولا تقلّ جودة عن أغانيه الوطنية المعروفة. وقد اختاره أحمد فؤاد نجم أثناء زيارته بيروت ليقدم له قصيدة "غزالة" وهي من النوع العاطفي. من الضروري ألا يتحول مفهوم الالتزام عند الناس، الى ان الفنان "رأسه مسكّر"، بحسب العبدالله، وانه لا يزال يعيش في الزمن الغابر، بل على العكس، له القدرة على أن يعيش عصره ويعبّر عنه ويستخدم التقنيات الحديثة أيضاً. من جهته يسمي الهبر جمهور الأغنية "الملتزمة" بحزب هذه الأغنية لأنه طالما أخلص لها منذ انطلاقتها، حتى انه "يتجدد" باستمرار بمعنى انضمام شباب متوسط أعمارهم 20 سنة ليستمعوا الى أغان أكبر منهم سناً، ولكنها تشبه واقعهم الحالي. استمرار حياة هذه الأغاني، وإن كان دليلاً إلى أن الأوضاع لم تتغير، هو كذلك تأكيد لجدية هذه الأعمال واحترامها أذواق الناس ومشاعرهم. غير ان المشكلة الأساسية بالنسبة الى تحديد جمهور هذه الأغنية، كما يراها الهبر، تتعلق بصعوبة انتشارها وعدم وصولها الى شرائح أكبر من المجتمع اللبناني والعربي أيضاً، بسبب القيود والخطوط الحمر التي تتحكم بالإعلام المرئي والمسموع. فهذه الأغنية "الوقحة" لا تجامل أحداً، ويبدو من الطبيعي ان "تحضر عدوّها معها" لأنها تعبّر عن موقف. كما ان الفضائيات العربية التي تبغي الكسب المادي، تهتم بالأغاني التي "تضرب"، اي الايقاعية التي أسست لنمط جديد من الاستماع "عن طريق الخصر". أحمد قعبور: أبواق سياسية غير ان أكثر ما يزعج قعبور، انه يتم التعاطي مع الأغاني الوطنية بطريقة "مناسباتية"، وكأن الوطن مجرد مناسبة، حينما تعمل الفضائيات العربية على تحويل الفنانين الى "أبواق سياسية" في فترة الأزمات. وقد تحولت بعض الأغاني التي تدعو الى الحياة مثل أغنية "أناديكم" الى "نذير شؤم" يدل الى وقوع الحرب. وفي غير هذه الأحوال "لا يمكن هذه المحطات التلفزيونية ان تعطي هامشاً للأغاني الإنسانية أو الوطنية الملتزمة، لأننا لا نلبي غايتها الاستهلاكية". وما يزيد الأمور سوءاً ان تتحول المناسبات الوطنية الى "بازار" بين الفنانين حول قدرة كل منهم على ركوب "الموجة" الوطنية. "من المعيب استغلال رغبة الجمهور وتعطشه لسماع الأغاني الثورية أو الوطنية لتقدم له الفضائيات ما دون المستوى الفكري والفني والحضاري والثقافي الذي يحتاج اليه". ويعلق قعبور على تحويل "الحلم العربي" الى "كابوس انهزامي ينتهك أرواح الشهداء عندما يستعرض الجثث ومشاهد الموت من الأرشيف على خلفية فنانين في كامل أناقتهم، في حين يتم صرف عشرات الآلاف من الدولارات عند انتاجهم لكليبات "الغرام" و"الجيل والسيليكون" الخاصة بهم". ترتبط المشكلات الانتاجية التي تعترض الأغنية "الملتزمة" الى حد كبير بهذا المفهوم الاستهلاكي أيضاً، حينما يتم ابعاد الفنان الذي لا يتمكن من الخضوع لمعادلة العرض والطلب المعتمدة من وسائل الإعلام، لتبث كل ما يعمل على تسطيح المعاني والمفاهيم والأفكار ما يعكس هوية منتجيها. وعلى عكس المفهوم المرتبط بالأغنية "الملتزمة" باعتبارها تعمل على الاستنهاض أو التعبئة وبث الحماسة في نفوس الجماهير للقيام بثورة أو انتفاضة، يعتبر قعبور أن حركة الشعوب هي التي تؤثر في انتاج هذا النوع من الغناء. كما انها في كثير من الأحيان تعالج التفاصيل الإنسانية الدقيقة، لأن الوطن ليس مجرد أرض وناس، بل هو التفاعل الذي يعكس هموم الناس من بطالة ويأس من دون الترويج له، وسهرات وقصص حب وأفراح. ويعتبر الهبر ان الأغنية تشكل متنفساً للناس حينما تعبّر عن واقعهم وعن أفكارهم وبالتالي تحثهم على طرح التساؤلات والبحث عن اجابات... ويضيف ان "الالتزام ضمن هذا النمط الغنائي يواجه الكثير من الصعوبات، يرتبط بعضها بحياة الفنان الشخصية وظروفه وقدرته على تحمل الضغوط المادية والصحية والنفسية للمتابعة والاستمرار، مع تأكيد أهمية وجود القناعة الفكرية والسياسية. كما تتطلب استمرارية هذا النوع الغنائي أيضاً إنشاء أو تهيئة جيل جديد من الشباب لكتابة هذا النوع وغنائه، يمتلك القدرة الجسدية، لزيارة مختلف المناطق بهدف ايصالها. تبلور بعض المحاولات الشابة ضمن هذا الاطار تبدو غير ثابتة حتى اليوم، بسبب تأثر هؤلاء الشباب بآراء الآخرين، وهذا النمط الغنائي يحتاج الى مواقف ثابتة وواضحة".