هل أفلح الفلسطينيون فعلاً، بالرغم من خلافاتهم ومن انتشار الأسلحة بينهم ومن اخفاق سلطتهم الوطنية في اجتراح الإجماع والالتفاف حولها وحول خياراتها واستراتيجياتها، في تجنب الحرب الأهلية؟ قد لا تكون الإجابة عن هذا السؤال بديهية بالدرجة التي درجنا على تصورها. صحيح ان مختلف الفئات والفصائل الفلسطينية تعفف حتى الآن عن توجيه أسلحة الى بعضه البعض، وأن الحرب الأهلية تشكل واحدة من التابوهات الأكثر رسوخاً في الوجدان الشعبي والسياسي الفلسطيني حيث يبدو نشوبها أمراً مستبعداً، بل متعذراً، أقله حتى اللحظة، تمجه رابطة الانتماء الوطني والديني، أو أي انتماء آخر من أي طبيعة كان، كما تحجره تلك اللحمة الاستثنائية التي قامت بين الفلسطينيين، وصهرتهم في كنف تلك المظلمة القصوى التي لحقت بهم، واجتثتهم من وطنهم وحرمتهم وسائل الوجود، كما في كنف ما كابدوه من محن اللجوء والتشتيت واحتلال ربما كان فريداً في قسوته. لأنه على خلاف كل احتلال آخر عرفته المنطقة، لا يرمي الى مجرد اخضاعهم بل ينازعهم على وجودهم، بمعناه الأولي والأصلي. لكن ما هو صحيح أيضاً أن الحالة الفلسطينية تحمل أيضاً واقع التنازع الأهلي، والتنازع ذاك يتبدى في افتراق السبل بين مختلف أطراف الوطنية الفلسطينية حول مسائل جوهرية وأساسية، لا حول التفاصيل، حول النظرة الى العدو والى مسألة التسوية معه ومقاربتها، حول الكيانية الفلسطينية المرتجاة، وهل يمكن القبول بها "منقوصة"، تتوقف عند حدود الرابع من حزيران يونيو 1967 أو ما دونها. لأن ما حصل قد حصل ولأن واقع الحال وميزان القوة لا يتيحان أكثر من ذلك. أم هل يتعين التمادي في خوض "حرب الوجود". كما حول العلاقات والتحالفات الدولية، أي بكلمة واحدة حول مهمات وطبيعة النضال الفلسطيني في هذا الطور من تاريخ تلك القضية. والحال ان كل تلك التيارات تمتلك وسائل العنف، طالما ان السلطة لم تتحول الى دولة "تحتكر" تلك الصلاحية على ما هو بعض أكثر التعريفات شيوعاً للدولة. وان التيارات تلك لا تستبعد، نظرياً وعملياً، اللجوء الى العنف لإنفاذ آرائها ومقارباتها تلك، أو سعياً الى انفاذها. وبما ان الاختلاف حول ما هو أساسي وجوهري بهذا القدر من الحدة، وبما ان عناصر الإجماع تبدو معدومة أو بالغة الضعف، فإن حالة كتلك حالة تنازع أهلي، أقله من الناحية الموضوعية، أو بالقوة، إن لم يكن بالفعل. والحال ان ذلك الواقع الموضوعي، مع التمادي في التقصير في البحث عن عناصر الإجماع الوطني، لا بد أن يعبر عن نفسه بطريقة أو بأخرى. وإذا كان الاحتراب الأهلي المباشر يمثل تابو أو محرماً كالذي سبقت الإشارة اليه.، ثباتاً ورسوخاً، فإن الاحتراب الأهلي يمكنه أن ينفجر على نحو غير مباشر أو بالواسطة، من خلال اسرائيل مثلاً. وفي ذلك ما يشكل مخاطر لا يجب استبعادها أو التهوين من شأنها... هل يمكن أن يحصل شيء من هذا القبيل على "الساحة الفلسطينية" كما تقول مصطلحاتنا الشائعة؟ بل هو تكون مثل تلك المخاطر مجرد احتمال يتوجب درءه أم هل تراها باتت، في غفلة منا، واقعاً ماثلاً؟ لعل في تجربة السنتين الماضيتين من "عسكرة الانتفاضة" ما قد يدفعنا، مع الأسف، الى الاجابة عن هذا السؤال بالإيجاب. آيتنا في ذلك تلك الواقعة المعلومة والتي مفادها ان اسرائيل انتهزت كل عملية انتحارية استهدفتها برد هادف الى أقصى حد. تمثل دوماً في ضرب مقومات الوجود الفلسطيني، في المؤسسات والنظم والهيئات التي تجسده وتعبر عنه ويستوي من خلالها واقعاً على الأرض. وقد كان ذلك من قبلها مسعى منهجياً ودؤوباً نتائجه ماثلة اليوم امام أعيننا: السلطة الوطنية مدمرة، رئيسها محاصر معزول عن العالم الخارجي ذلك الذي مثل دوماً رئة له ولقضيته يتهدده الإقصاء على نحو مبرم، بل ربما بات إقصاؤه أمراً ناجزاً، في حين ان المرافق المدنية والاجتماعية والأمنية الفلسطينية باتت أثراً بعد عين، أقله في الضفة الغربية. كل ذلك معلوم. لكن السؤال هو: هل كان منفذو تلك العمليات الانتحارية، منظموهما والموعزون بها ومن اتخذوها استراتيجيتهم الكفاحية بامتياز، غافلين عن أن اللجوء اليها كان يعني، في وجهها المباشر، ضرب اسرائيل، وفي وجهها غير المباشر والأشد فتكاً بالتأكيد، استدراج الضربات ضد السلطة الوطنية الفلسطينية، ليس بصفتها "التنفيذية" البحتة ان صحت العبارة، بل بصفتها الأكثر شمولاً، والتي لم تغب يوماً عن ذهن آرييل شارون ورهطه من المتطرفين المحيطين به، كتجسيد للكيانية الوطنية الفلسطينية، ولكل ما يرتبط بها، إن لم يكن على نحو جامع مانع، فإلى حد كبير؟ وهل أن التكرار لم يكن فاعلاً في ايضاح ما ربما غاب والتبس في البداية؟ سوء التقدير السياسي وعدم حساب العواقب، وهما على أي حال ما عودتنا عليه حركات الجهادية الأصولية، لا يفيان بتفسير كل شيء. إذ ان حركة حماس والجهاد الإسلامي برهنا على قدرتهما على إعمال العقل، في بعض الحالات والظروف، كما يدل إحجامهما عن السقوط في فخ الإقدام على تنفيذ عمليات عنف خارج فلسطين التاريخية الأراضي المحتلة " أراضي 1948، ضد الولاياتالمتحدة مثلاً، ما يدل على أن الغريزة ليست كل ما يحركهما. فلماذا أصرتا إذاً على التمادي في تلك مثل تلك العمليات، مع علمهما بأنهما لم تفعلا بذلك سوى استدراج الضربات ضد السلطة الوطنية، ممثلة الوجود الوطني الفلسطيني؟ هل هو منطق التنازع الأهلي، كما سبق توصيفه، وقد تعذر عليه التعبير عن نفسه على نحو مباشر، للأسباب الآنفة الذكر، فانفلت من عقاله على هيئة مواجهة أهلية تخاض بالواسطة؟ ومهما يكن من أمر، فإن اسرائيل هي الطرف الوحيد المستفيد من كل نزاع أهلي فلسطيني، مهما كان نوعه أو شكله. إن كان احتراباً مباشراً، فذلك بالنسبة اليها برد وسلام. وإذا استدرجها طرف ضد طرف، فهي تتلقف الذريعة و"تلبي"، وليس في نيتها بطبيعة الحال، خوض معاركها لمصلحة أحد سواها، طالما انه كلما ازداد الفلسطينيون ضعفاً، تحسنت شروط "التسوية" بالنسبة اليها، علماً بأن اسرائيل، في صيغتها الشارونية، لا تريد تلك "التسوية" أصلاً. وهي الى ذلك لا تخص بجرائمها أحداً دون أحد، فهي بعد أن ركزت ضرباتها خلال السنتين الماضيتين، على السلطة الوطنية، ها انها تلتفت الى الحركات الإسلامية، تلك التي وفرتها الى حد ما حتى الآن، كما دلت جريمة محاولة اغتيال عبدالعزيز الرنتيسي. صحيح ان الفلسطينيين افلحوا في اجتناب الاحتراب الأهلي المباشر، لكن يبقى عليهم صوغ اجماعاتهم الوطنية الأساسية، والتشبث بها، لا يتأبد وضعهم الراهن، مفضياً بهم، من حيث يدرون أو لا يدرون، الى احتراب أهلي بالواسطة، تكون تبعاته مماثلة أو أنكى.