الطريق الوحيد لفهم حرب إسرائيلية لا معنى لها في غزة لا يتأتى إلا من خلال فهم السياق التاريخي. تأسيس دولة إسرائيل في مايو/إيار 1948 حمل قدراً كبيرا من الظلم والجور للفلسطينيين. لقد كان المسئولون البريطانيون مستاءين وبشكل مرير من التحيّز الأمريكي فيما يتعلق بتلك الدولة الناشئة. في يونيو/حزيران 1948، كتب السّير جون ترويتبيك إلى وزير الخارجية، إرنست بيفين، إن الأمريكان هم المسئولين عن قيام دولة عصابات يرأسها \"وبشكل مطلق مجموعة من القادة عديمي الضمير\". كنت أعتقد بأنّ هذا الحكم كان قاسياً جدا لكن هجوم إسرائيل الآثم الشرير على سكان غزة، وتواطؤ إدارة بوش في هذا الاعتداء، أعاد فتح السؤال. أكتب كشخص خدم بإخلاص في الجيش الإسرائيلي في منتصف الستينات وكشخص لم يشك يوماً في مشروعية دولة إسرائيل داخل حدودها قبل 1967. ما أرفضه تماماً هو المشروع الاستعماري الصهيوني وراء الخطّ الأخضر. الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة إثر حرب 1967 يونيو/حزيران لم يكن له علاقة كبيرة بالأمن ولكن كان وبشكل كبير يخدم مصالح الكيان التوسعي في المنطقة. الهدف كان أن يؤسّس دولة إسرائيل الكبرى ومن خلال السيطرة العسكرية والاقتصادية والسياسية الدائمة على الأراضي الفلسطينيّة. والنتيجة كانت إحدى أكثر الوظائف العسكرية الوحشية المطوّلة في عصرنا الحديث. أربعة عقود من السيطرة الإسرائيلية تسببت بأضرار لا تحصى في اقتصاد قطاع غزة. فهناك عدد سكان كبير من لاجئي 1948 والذين تم حشرهم إلى ذلك الشريط الصغير جدا من الأرض، حيث لا بنىً تحتية ولا مصادر طبيعية، فبلا شك فرصة ازدهار غزة لم تكن أبدا مشرقة. غزة ،على أية حال، لم تكن ببساطة حالة من التخلّف الاقتصادي لكنها كانت حالة استثنائية قاسية من اللا تنمية المتعمّد. ولعلي أن استخدم العبارة التوراتية لأصف الحالة، إن إسرائيل حوّلت شعب غزة إلى شعب من الخدم لا يقوم سوى فقط بتلكم الأعمال الحقيرة من قطع الخشب وجلب المياه (وهذا اجتهادي في ترجمة النص الذي اقتبسه الكاتب من الكتاب المقدس -hewers of wood and drawers of water-). لقد حولت إسرائيل سكان غزة إلى مصدر للأيدي العاملة الرخيصة وحولت غزة لسوق أسير ومقيد للسلع الإسرائيلية. لقد قامت إسرائيل بشكل نشط بعرقلة تطوير الصناعة المحليّة كل ذلك لكي تجعل الأمر مستحيلا على الفلسطينيين لإنهاء تبعيتهم إلى إسرائيل أو حتى لتأسيس الدعامات الاقتصادية الضرورية للاستقلال السياسي الحقيقي. إن غزة هي حالة كلاسيكية من الاستغلال الاستعماري في حقبة ما بعد الاستعمار. إن تلك المستوطنات اليهودية في المناطق المحتلة لاهي شرعية ولا هي أخلاقية بل إنها تشكل عقبة كأداء أمام السلام . بل أكثر من ذلك إنها أداة ووسيلة من وسائل الاستغلال ورمز للاحتلال البغيض. في غزة عام 2005، كان عدد المستوطنين اليهود فقط 8,000 مقارنة مع 1.4 مليون من السكّان المحليّين. رغم ذلك سيطر المستوطنون على 25% من الأرض، 40% من الأراضي الصالحة للزراعة والحصّة الأسد من مصادر المياه الشحيحة. يعيش ،وبشكل ملاصق لهؤلاء الدخلاء الأجانب (يقصد ال 8000)، أغلبية كبيرة من سكان غزة المحليين من الفلسطينيين في فاقة مدقعة وبؤس لا يمكن تصوره. ثمانون بالمائة من هؤلاء الغزاويين يقتات على أقل من 2 دولار في اليوم. إن الأوضاع والظروف المعيشية في ذلك الشريط الصغير ستظل دوماً إهانة إلى القيم المتحضّرة، كما ستظل مادة قويّة مهيأة للمقاومة، و تربة خصبة للتطرّف السياسي. في أغسطس/آب من عام 2005 قررت حكومة الليكود برئاسة أريل شارون القيام بانسحاب إسرائيلي أحادي الجانب من غزة، فقاموا بسحب جميع المستوطنين ال 8,000 مستوطن كما قاموا بتحطيم البيوت والمزارع التي تركوها وراءهم. لقد قادت حماس ،حركة المقاومة الإسلامية، حملة فعّالة لإبعاد الإسرائيليين من غزة. في الوقت الذي كان ذلك الانسحاب فيه صورة من صور الإذلال لقوات الدفاع الإسرائيلية، إلا أن شارون قدّم للعالم ذلك الانسحاب من غزة كمساهمة من حكومته في إحلال السلام في المنطقة مستنداً على حل قيام دولتين. ولكن في السنة التي تلت هذه السنة أي في العام 2006 قام 12,000 إسرائيلي آخرين بالاستقرار في الضفة الغربية للحد من مجال (أو رؤية) قيام دولة فلسطينيّة مستقلة. بكل بساطة أقول إن الاستيلاء على الأرض واحتلالها وصنع السلام ضدان لا يتوافقان أبدا. لقد كان لدى إسرائيل خياراً ولكنها اختارت الأرض على السلام. لقد كان الغرض الحقيقي وراء هذه الخطوة هو أن تعيد إسرائيل ومن طرف واحد رسم حدود إسرائيل العظمى عن طريق دمج كتل المستوطنات الرئيسية على الضفة الغربية إلى دولة إسرائيل. إذا فقد كان انسحاب إسرائيل من غزة ليس من منطلق اتفاق سلام مع السّلطة الوطنية الفلسطينيّة لكنه كان مقدمة إلى مزيد من التوسّع الصهيوني على الضفة الغربية. لقد كانت هذه الخطوة الإسرائيلية والتي كانت أحادية الجانب تعتبر ، وذلك خطأ في رأيي، مصلحة وطنية إسرائيلية. فهي ترتكز أساسا على رفض الهوية الوطنية الفلسطينية، كما أن الانسحاب من غزة هو جزء من جهد طويل الأجل لحرمان الشعب الفلسطيني من أي وجود سياسي مستقل على أرضهم. صحيح أن إسرائيل سحبت المستوطنين من القطاع ولكن فعلياً الجنود استمروا في السيطرة على جميع المعابر للوصول إلى قطاع غزة عن طريق البر والبحر والجو. وبين عشية وضحاها تحول قطاع غزة إلى سجن كبير ولكنه في الهواء الطلق. ومن هنا أصبح سلاح الجو الإسرائيلي يتمتع بحرية مطلقة لإسقاط القنابل أو تفجير القنابل الصوتية طائراته تحلق على ارتفاع منخفض خارقة جدار الصوت ، ولا بأس بترويع السكان التعساء في هذا السجن الكبير. في الحقيقة إن إسرائيل تحب تصوير نفسها على أنها واحة أو جزيرة الديمقراطية في بحر من الحكم الاستبدادي. عملياً فإنه لم يسبق لإسرائيل في تاريخ الأممالمتحدة بأسرها أن فعلت شيئا لتعزيز الديمقراطية على الجانب العربي، بل على العكس من ذلك فقد قامت بالكثير من أجل تقويضها. فإسرائيل لديها تاريخ طويل من العمل السري بالتعاون مع الأنظمة العربية الرجعية لقمع القومية الفلسطينية. وعلى الرغم من كل تلك العوائق إلا إن الشعب الفلسطيني نجح في بناء الديمقراطية الحقيقية الوحيدة في العالم العربي إن استثنينا لبنان تجاوزاً. ففي كانون الثاني/يناير من عام 2006 ، وبعد إجراء انتخابات حرة ونزيهة للمجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية وصلت إلى السلطة حكومة بقيادة حركة حماس. إلا أن إسرائيل رفضت الاعتراف بحكومة حماس المنتخبة ديمقراطيا بدعوى أن حماس بكل بساطة هو منظمة إرهابية محضة. أمريكا والاتحاد الأوروبي بلا مواربة ولا خجل انضمت لإسرائيل في نبذ وتشويه سمعة حماس المنتخبة شعبياً بل ذهبوا جميعاً أكثر من ذلك عندما حاولوا الإطاحة بها عن طريق حجب عائدات الضرائب والمساعدات الخارجية عنها. وأكثر من ذلك فقد قاموا برسم حالة سريالية (كناية عن الغرابة والشذوذ) حول تلك الحكومة المنتخبة ومعهم جزء كبير من المجتمع الدولي بفرض عقوبات اقتصادية ليس ضد المحتل الغاصب بل ضد صاحب الحق الشرعي، ليس ضد الظالم ولكنه ضد المظلوم. وكما هو الحال دوماً مع التاريخ الفلسطيني المأساوي فقد تم وضع كامل اللوم على الضحايا وأنهم (أي الفلسطينيين) هم أسباب كل المحن. بدأت الآلة الدعائية والإعلامية الإسرائيلية الضخمة بالعمل وقامت بتصدير مصطلح أن الفلسطينيين هم الإرهابيين وأنهم يرفضون التعايش مع الدولة اليهودية وأن قوميتهم ليست سوى أكثر من أنها تعني معاداة السامية وأن حماس ليست سوى مجموعة من المتعصبين دينياً وأن الإسلام دين يتعارض مع الديمقراطية . ولكن الحقيقة البسيطة هي أن الشعب الفلسطيني هو شعب مثل بقية الشعوب له مثل تطلعاتهم الطبيعية . صحيح أنهم ليسوا الأفضل ولكنهم في نفس الوقت ليسوا الأسوء. بعد تسلمها لزمام السلطة ومثل غيرها من الحركات الراديكالية (المتجذرة) بدأت حماس برنامجها السياسي المعتدل. بالرغم من أن ميثاقها ينض على الرفض الأيديولوجي إلا أنها بدأت بالتحرك البرجماتي حول حل دولتين (فلسطين وإسرائيل). في آذار/مارس 2007 شكلت حماس وفتح حكومة وحدة وطنية على استعداد للتفاوض حول مشروع طويل المدى لوقف النار بين الطرفين. إلا أن إسرائيل رفضت التفاوض مع حكومة تشارك فيها حماس. والأمر هكذا قررت إسرائيل مواصلة لعبتها المعتادة بين الفصائل الفلسطينية المتنافسة والمنطلقة من قانون فرق تسد. ففي أوآخر عام 1980 قامت إسرائيل بدعم حماس الناشئة آنذاك على حساب إضعاف فتح، تلك الحركة القومية التي كان يقودها ياسر عرفات (رحمه الله) آنذاك. وبنفس الطريقة بدأت إسرائيل تشجيع الطغمة الفاسدة المرنة (من وجهة نظرهم) من قيادات فتح للإطاحة بخصومهم السياسيين الدينيين والاستيلاء على السلطة. شاركت الحكومة العدوانية الأمريكية من المحافظين الجدد في التحريض على قيام حرب أهلية بين الفلسطينيين. هذا التدخل (البغيض) كان سبباً رئيسياً في انهيار حكومة الوحدة الوطنية وجر حماس للاستيلاء على السلطة في غزة في حزيران/يونيو 2007 لإجهاض أو منع حركة فتح من الانقلاب عليهم. حرب إسرائيل والتي شنتها على غزة يوم 27 ديسمبر/كانون الأول كان تتويجاً لسلسلة من المواجهات والاشتباكات مع حكومة حماس (انتبهوا هو يقول حكومة). في الحقيقة وبالنظر إلى أن هذه الحكومة هي حكومة منتخبة من قبل الشعب الفلسطيني فإن هذه الحرب هي حرب على الشعب الفلسطيني بشكل أعم وليس حكومة حماس فقط. إن الهدف المعلن لهذه الحرب هو إضعاف حماس وتكثيف الضغوط على قادتها للقبول بوقف جديد لإطلاق النار على شروط إسرائيل. أما الهدف الغير معلن من هذه الحرب هو التأكيد على أن يرى العالم ككل بأن الفلسطينيين في غزة واقعين في مشكلة إنسانية كبرى وبالتالي عرقلة كفاحهم (الفلسطينيين) من أجل الاستقلال وإقامة دولتهم المستقلة. تم اختيار توقيت الحرب هذا بناء على ملائمته السياسية (بغض النظر عن كونه غير مناسب أخلاقياً ولا دينياً ولا اجتماعياً فهو والعالم يحتفل بنهاية العام وأعياد الميلاد والعام الجديد أضف أنه كان يوم سبت وهو يوم مقدس محرم عند اليهود). الانتخابات العامة الإسرائيلية من المقرر إجراؤها في 10 فبراير/شباط وفي الطريق للانتخابات كان لابد للمتنافسين الرئيسين من إثبات قدرتهم وصلابتهم. أيضاً هناك كبار القادة في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية يريدون مسح وصمة العار التي لحقتهم بسبب فشل الحرب في لبنان ضد حزب الله في يوليو/تموز 2006 عن طريق سحق حماس وتوجيه ضربة قوية لها. ثم إن قيادة إسرائيل وبتكم وسخرية يمكنها أن تعتمد على عجز ولا مبالاة الأنظمة العربية الموالية للغرب وعلى الدعم الأعمى الذي يقدمه جورج بوش من بداية ولايته في البيت الأبيض. وهاهو بوش ومنذ بداية الأزمة والاعتداء وبكل سهولة ألقى كامل اللوم على حماس وأنها هي السبب في الأزمة، ثم هاهو ينقض قرارات مجلس الأمن بالأممالمتحدة بالوقف الفوري لإطلاق النار ويمنح الفرصة المجانية لإسرائيل للقيام بالاجتياح البري لغزة. وكالمعتاد دوماً هاهي إسرائيل القوية تدعي بأنها هي ضحية العدوان الغاشم من قبل الفلسطينيين. إلا أن ما نراه بأعيننا من البون الشاسع بين تكافؤ القوتين لا يدع لنا مجالاً للشك بمعرفة وتحديد من هو الضحية الحقيقية. إن هذا كما هو الصراع بين داود وجالوت في الكتاب المقدس ولكن بصورة معكوسة (الأسماء كما وردت في المقالة عندنا طالوت وجالوت قد يكون خطأ في الأسماء من عند الكاتب وقد تكون هذه الأسماء التي وردت عندهم في كتابهم المقدس لم أتحقق). داود يمثل الفلسطينيين العزل والأضعف والأقل شأناً في الصراع يواجه الطاغية جالوت المدجج بالسلاح الذي لا يرحم. إن اللجوء إلى القوة العسكرية الغاشمة مترافقة ،كما هو الحال دائما ، بحملات دعائية إعلامية كلامية بأننا نحن الضحايا. هذا هو ما نسميه عندنا بالعبرية متلازمة النار أو بمعنى آخر \"أبكي وأطلق النار\". من المؤكد أن حماس ليست هي الطرف البريء تماماً في هذا النزاع. حماس وجدت نفسها أنها قد حُُرمت من ثمرة نصرها في الانتخابات وأنها تجابه عدواً معدوم الضمير فلجأت عندها لسلاح الضعفاء .... الإرهاب. فقام مقاتليها ومقاتلي حركة الجهاد الإسلامي بإطلاق قذائف القسام الصاروخية على المستوطنات القريبة من الحدود مع غزة. واستمر ذلك حتى قامت مصر بوساطة لإيقاف النار بين الطرفين ولمدة ستة (6) أشهر بدأت في حزيران/يونيو من العام الماضي 2008. فبالرغم من أنه لم تكن لهذه الصواريخ البدائية أضرار مادية ملموسة إلا أن أضرارها وأثرها النفسي على الإسرائليين كان كبيرا. مما دفعهم لطلب الحماية من الحكومة الإسرائلية. لاشك بأنه كان لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها ولكن درة الفعل المقابلة لوخز دبابيس الصواريخ هذه كانت غير متكافية ولا متناسبة كلياً. لندع الأرقام تتحدث عن نفسها فخلال الثلاث سنوات التي الانسحاب من غزة تسببت هذه الصواريخ بقتل (11) أحد عشر إسرائلياً فقط. على الجانب الآخر فإنه فقط في الفترة 2005-7 (أظنه يقصد السنوات من 2005 إلى 2007) قتل جيش الدفاع الإسرائيلي –IDF- 1290 فلسطينياً في غزة منهم 222 طفلاً. بغض النظرعن تلك الأرقام فإن قتل المدنيين خطأ بجميع الأحوال. هذا القانون بقدر ما ينطبق على إسرائيل فإنه ينطبق على حماس، ولكن (على سبيل المقارنة) فإن السجل الكلي لإسرائيل هو سجل مليء بالوحشية الجامحة والمتواصلة التي تنطلق بلا هوادة تجاه سكان القطاع. أيضاً استمرت إسرائيل بعد اتفاق التهدئة ووقف إطلاق النار بفرض الحصار المفروض على غزة وهو من وجهة نظر قياديي حركة حماس يشكل خرقاً لاتفاقية التهدئة. وقامت إسرائيل كذلك خلال التهدئة ووقف إطلاق النار بمنع أية صادرات بمغادر شريط غزة في انتهاك واضح وصريح لاتفاقية عام 2008 مما تسبب في انخفاض حاد في فرص العمالة. النسبة الرسمية المعلنة للعاطلين عن العمل في القطاع هي 49.1%. كل ذلك لم يكفي إسرائيل بل وواصلت ضغطها على القطاع فقيدت بشكل كبير عدد الشاحنات التي تنقل المواد الغذائية والوقود، واسطوانات غاز الطهي، وقطع الغيار لمحطات الصرف الصحي والمياه، والإمدادات الطبية التي يحتاجها القطاع. إنه من الصعوبة بمكان كيف يمكن لتجويع السكان في القطاع وتجميد حياتهم أن يسهم في حماية الشعب على الجانب الإسرائيلي للحدود مع القطاع. حتى لو افترضنا جدلاً أن هذه الإجراءات ستحقق الهدف ولكن هل هي مقبولة أخلاقياً أم هي شكل من أشكال العقاب الجماعي والتي هي محرمة بقوة في القانون الدولي الإنساني. إن وحشية الجنود الإسرائيليين على أرض المعركة في غزة تكذب (بمرارة) الناطقين الرسميين عنها. قامت إسرائيل وقبل ثمانية أشهر فقط من إطلاق هذه الحرب (العدوانية) الحالية على غزة بتأسيس المديرية الوطنية للمعلومات. كان الهدف الأساسي من هذه المديرية هو إطلاق حملة من الرسائل الدعائية لمختلف وسائل الإعلام فحواها أن حماس قطعت اتفاقات وقف إطلاق النار (علماً بأن حماس لم تخرق التهدئة ولم تقطع أي وقف لإطلاق النار بل إن إسرائيل هي من فعل ذلك حماس فقط ولعدم جدوى التهدئة وإجماع جميع الفصائل الفلسطينية في غزة قررت عدم تجديدها وفرق بين القطع وعدم الرغبة في التجديد)، وأن هدف إسرائيل من الحرب على غزة هو حماية مواطنيها والدفاع عنهم، وأن القوات الإسرائيلية (الغاشمة المعتدية) ستبذل غاية وسعها في الحرص على الحفاظ على أرواح المدنيين. سعى ولا يزال يسعى مستشاري إسرائيل (وعملاؤهم من القريبين قبل البعيدين) وبكل قوة لإيصال هذه الأفكار الدعائية عبر العالم ونجحوا في ذلك. لكن الحقيقة الجوهرية أن هذه الحملة الإعلامية الدعائية ما هي إلا حزمة من الأكاذيب. فجوة كبيرة هي تلك التي تفصل مابين الواقع الفعلي على الأرض وحقيقة أعمال إسرائيل (الوحشية) وبين الخطاب الرسمي للناطقين باسمها. حماس لم تكن هي من خرق الاتفاقية (اتفاق التهدئة) وإنما من قام بذلك هو جيش الدفاع الإسرائيلي. قامت بذلك الخرق عندما أوقعت غارة إسرائيلية في يوم الرابع 4 من نوفمبر/تشرين الثاني ستة رجال من عناصر حماس وأردتهم قتلى. هدف إسرائيل من العدوان على غزة ليس فقط حماية شعبها ولكن الإطاحة بحكم حماس في القطاع عن طريق حث الناس على الانقلاب وتحريضهم للانقلاب على حكومتهم. بعيدا عن موضوع الحرص على تجنيب المدنين موضوع الصراع، فإن إسرائيل مذنبة بما تقوم به من قصف عشوائي الآن (على القطاع) وبما قامت به طيلة فترة امتدت لثلاث سنوات من الحصار (الظالم) على غزة، فإنه الآن يقع 1.5 مليون إنسان على شفير كارثة إنسانية (غير مسبوقة). إن الأمر التوراتي والذي يقضي بأن العين بالعين وحشي بما فيه الكفاية. ولكن الهجوم الإسرائيلي الوحشي على غزة جنون يقوم على أن العين بالرمش. وبعد ثمانية أيام (لاحظ تاريخ المقالة الآن عدد القتلى حسب تاريخ الترجمة تجاوز الضعف ليزيد عن 800 شهيد) من القصف، ومع أن عدد القتلى يزيد على 400، إلا أن المجلس الأمني المصغر طالب باحتلال الأرض مما سيؤدي إلى نتائج كارثية لا تحصى (ونحن نقول إن الله يملي للظالم فإذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر). لا يمكن لأي قدر من التصعيد العسكري الذي تقوم به إسرائيل أن يحصنها أو يمنع عنها الهجمات الصاروخية التي يقوم بها الجناح العسكري لحركة حماس. فبالرغم من كل هذا الموت والدمار الذي ألقته عليهم إسرائيل فإن حماس واصلت المقاومة وواصلت شن الهجمات الصاروخية. هذه الحركة حركة مقاومة تمجد التضحيات والاستشهاد. ببساطة أقول ليس هناك حل عسكري للصراع بين إسرائيل وحماس. المشكلة الكبرى في مفهوم إسرائيل للأمن أنها تنكر حتى فكرة أن يكون للطرف الآخر القدر الأولي من الأمن والأمان. السبيل الوحيد لحل أزمة أسرئيل وبالتالي تحقيق الأمن لها ليس من خلال إطلاق النار ولكن من خلال إجراء محادثات مباشرة مع حماس التي أعلنت مراراً استعدادها للتفاوض على هدنة ووقف لإطلاق النار طويل المدى مع الدولة اليهودية داخل حدود ما قبل عام 1967 لمدة 20 أو 30 أو حتى 50 عاماً. إسرائيل رفضت هذا العرض لنفس السبب الذي رفضت وازدرت به خطة السلام التي تقدمت بها جامعة الدول العربية عام 2002 والتي هي حتى الآن مازالت على الطاولة وتتضمن العديد من التنازلات والتسويات. إن هذا العرض المختصر للسجل الإسرائيلي خلال العقود الأربعة الماضية تؤكد لنا نتيجة مفادها أن الدولة أصبحت دولة مارقة يقوم عليها مجموعة من القادة عديمي الضمير. دولة مارقة تنتهك القانون الدولي بشكل اعتيادي، تمتلك أسلحة الدمار الشامل، وتمارس الإرهاب – فهي تمارس العنف في حق المدنيين لأغراض سياسية. إسرائيل مستوفية ومنجزة لكل النقاط الثلاثة التي سبق ذكرها (انتهاك القانون الدولي، امتلاك أسلحة الدمار الشامل، وممارسة الإرهاب) إذا القبعة مناسبة وهي لابد أن تلبسها (عبارة اصطلاحية بمعنى أنه مادمت إسرائيل تبرر لنفسها ماتريد فستقوم بعمله مهما كان ذلك العمل منتقدا أو غير صحيح). إن الهدف الحقيقي لإسرائيل ليس هو التعايش السلمي مع جيرانها ولكن أن تكون لها كامل الهيمنة العسكرية في المنطقة. فهاهي تستمر بمضاعفة الأخطاء الماضية بارتكاب أخطاء جديدة أكثر مأساوية. إن السياسيين، كما هم الآخرين، أحرار في تكرار الأكاذيب وأخطاء الماضي. ولكنه ليس إلزاميا القيام بذلك. البروفيسور/ إيفي شليم – أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد، ومؤلف كتاب: الحائط الحديدي-إسرائيل والعالم العربي، وكتاب: أسد الأردن-حياة الملك حسين في الحرب والسلم