بعد مرور 45 عاماً على انطلاقة حركة التحرر الفلسطينية، وبعد كل هذه التداعيات التي ولدتها في الواقعين الفلسطيني والإسرائيلي، بات من الممكن، بل ومن الضروري، طرح كثير من الأسئلة. فما الذي حققته هذه الحركة، على مدارها الطويل هذا، وبكل التضحيات والمعاناة التي بذلت خلالها؟ وما هي المعضلات التي تواجه هذه الحركة؟ هل هي في البرنامج أم في البنية أم في طبيعة القيادة؟ ثم ماذا عن التحولات والمآلات والتغيرات التي لحقت بهذه الحركة على ضوء التجربة الماضية؟ بالنسبة الى السؤال الأول، ثمة من يميل إلى نبذ حساب الجدوى والإنجاز، أو حساب المكاسب والمخاسر، في نقاشات حركات التحرر الوطني، على أساس أن قيام هكذا حركات أمر مفروغ منه، بدعوى أن قدر الشعوب الخاضعة للاستعمار والاضطهاد القومي أن تقاوم، وأن تصارع مستعمريها ومضطهديها، بغض النظر عن واقع موازين القوى، ومهما كانت النتائج. لكن مشكلة وجهات نظر كهذه إنها تنطلق من مسلمة بسيطة، تتعلق بحق الشعوب في مقاومة الاستعمار، لتؤسس عليها وجهات نظر سياسية متحيّزة، تغطي على إخفاقات حركات التحرر الوطني، وعلى سعي طبقتها السياسية إلى الاستئثار بالرأي العام، والتحكم بالمجال الجماهيري، والهيمنة على الموارد، من دون مراجعة أو مساءلة أو محاسبة. ولا شك في أن هذا الوضع لا يخدم البتة حركات التحرر الوطني، ولا الشعوب المعنية، بقدر ما يخدم تكريس علاقات الاستبداد والفساد والاستئثار داخلها، فضلاً عن أنه يبدد طاقات وتضحيات الشعب، ولايخدم عملية التحرر من الاستعمار. وبخصوص موضوعنا، المتعلق بالتجربة الفلسطينية، ليس ثمة جدال بأن انطلاق حركتها التحررية، في منتصف ستينات القرن الماضي، أدى إلى انتشال الفلسطينيين من حال الشتات والتمزق، المجتمعي والسياسي، وأسهم في بلورة هويتهم الوطنية، ووضع اللبنات الأولى للكيانية السياسية الفلسطينية، هذا على الصعيد الداخلي. أما على صعيد مواجهة إسرائيل فإن انطلاق هذه الحركة ساهم في وضع علامات استفهام حول شرعية وجود إسرائيل في المنطقة، وحول كونها ملاذاً آمناً لليهود في العالم، كما أسهم بكشفها على حقيقتها، أمام العالم، باعتبارها دولة استعمارية عنصرية ودينية، في هذه المنطقة. حتى إذا تجاوزنا سؤال الحساب بين الكلفة والمردود، فإن الوضع القائم اليوم يبيّن بأن هذه الإنجازات تعرضت لعمليات تآكل وتحول، بمعنى أن الإدارة السائدة للعمل الفلسطيني ليس فقط لم تستطع تطوير المنجزات المتحققة وإنما هي، أيضاً، لم تستطع الحفاظ عليها، أو صونها، بل وربما أنها في بعض المجالات أسهمت في هدرها وتبديدها. مثلاً، بالنسبة الى وحدة الشعب الفلسطيني اليوم، من الواضح أن ثمة مشكلة كبيرة وعميقة في هذا الأمر، ليس فقط بواقع الانقسام السياسي بين «فتح» و «حماس»، أو الانقسام الجغرافي بين الضفة وغزة، وإنما، أيضاً، بسبب ضمور الحركة الوطنية الفلسطينية في مناطق اللجوء والشتات، وعدم قدرتها على توليد إطارات جامعة وأشكال توسطية تسهم في تعزيز مشاركة الفلسطينيين في أماكن وجودهم كافة في العملية الوطنية. عدا ذلك أين هي الأشكال الموحدة للشعب الفلسطيني؟ أين هي اتحادات الطلاب والعمال والكتاب والمرأة وغيرها؟ أين هي منظمة التحرير ذاتها، التي كانت لمرحلة كاملة بمثابة الكيان السياسي الموحد للشعب الفلسطيني؟ ثم أين هي مراكز الأبحاث والدراسات والتخطيط؟ ثم أين هو البرنامج السياسي، أو الشعار السياسي الجامع والملهم للشعب الفلسطيني؟ من المفهوم أن ثمة عوائق وقيودات، خارجية وموضوعية، تحول دون عمل الحركة الوطنية الفلسطينية في مناطق اللجوء والشتات وفي مناطق 48، فمن غير المفهوم أن تعمد هذه الحركة من تلقاء نفسها للكف عن اعتبار نفسها، من الناحية العملية، حركة وطنية لمجموع الشعب الفلسطيني. طبعاً ثمة كثير مما يمكن قوله، أيضاً، عن كيفية إدارة هذه الحركة لصراعها مع إسرائيل، طوال 45 عاماً الماضية، وعن تخلف هذه الإدارة وتهورها ومزاجياتها، وعن تورطها في سياسات غير عقلانية، في أشكال صراعها مع إسرائيل، أو في إدارة علاقاتها العربية، ما أهدر وبدد الكثير من إمكاناتها وما بدد الكثير من التضحيات التي بذلها شعبها. وتحسباً لتشعب النقاش، وإثارة جدالات زائدة، فإنه من المفيد التركيز أساساً على الوضع الداخلي، لأن هذا الأمر بيد الحركة الوطنية ذاتها، على الغالب، هذا أولاً. وثانياً، لأن هذا الأمر يمكن أن يشكل معياراً مقبولاً للحكم على نجاحات أو إخفاقات هذه الحركة في المجالات الأخرى، وضمنها مجال الصراع مع إسرائيل. أما بالنسبة الى السؤال الثاني، المتعلق بنوعية المعضلات التي واجهت حركة التحرر الفلسطينية، فأعتقد بأن هذه الحركة واجهت مجموعة متشابكة من المعضلات، أسهمت في تحديد دورها، وتحجيم انجازاتها. ومن ذلك ثمة معضلات تتعلق بضعف التجربة السياسية، وتشتت البنية الاجتماعية وهشاشتها، والأوضاع والتدخلات العربية السلبية، والتفوق الفادح لإسرائيل في ميزان القوى وفي إدارة صراعها مع الفلسطينيين، إضافة إلى تحيز الدول الكبرى إلى إسرائيل. ويستنتج من ذلك أن معضلة الحركة الفلسطينية لم تكن فقط مجرد مشكلة في القيادة، ولا مشكلة في البرنامج (سواء برنامج التحرير أو التسوية/ المقاومة أو التسوية)، فالأمر، كما أوضحنا، أكبر من كل ذلك. ولنفترض جدلاً أن الشعب الفلسطيني توفر على قيادة أو إدارة أفضل لنضاله، وتوفر على برنامج سياسي أكثر نضجاً وقابلية، فإن هذا وذاك لن يغير كثيراً، من القيودات والضغوطات والمحددات، التي تحد من تطور حركته الوطنية، وتعوق قدرتها على مصارعة إسرائيل وتحقيق الغلبة عليها، بإنجاز أهدافه الوطنية. فقط، ربما كان بإمكان هكذا قيادة، أو إدارة، أن ترشد كفاح شعبها، وأن تقلل معاناته وتضحياته ومخاسره. كما كان من شأنها الحفاظ على الإنجازات الداخلية المتحققة، وربما تطويرها، على قواعد مؤسسية وديموقراطية جامعة، لا أكثر، وبالطبع فهذا ليس بالشيء القليل، في هكذا صراع ممتد ومعقد وإشكالي. يبقى السؤال الثالث، وهو يتعلق بمآل الحركة الفلسطينية، أي بالتحولات والتغيرات التي لحقت بها، بعد هذه المسيرة الطويلة، وكلها تؤكد أن الأمور لاتسير في الاتجاه الصحيح، وأن هذه الحركة باتت تفتقد لطابعها كحركة تحرر وطني.