من أجمل ما قيل في الشعر انه "لمحٌ تكفي اشارته". ومعظم الشعراء الكبار، على مر التاريخ، احتذوا على هذا القول الذي كان، ولا يزال، "القاعدة الذهبية" في الشعر. فأبدعوا أو أغنوا الشعر العربي ببيوت عالقة في أذهاننا. أما بقية الشعراء، فمنهم من أهمل تلك القاعدة الذهبية، وغاص في السرد والشرّح الممل، قاضياً على رونق الشعر وخفة المعنى. أما القسم المتبقي آثر على عكس شعراء السرد، أن يذهب باللعبة الى أبعد حدود. فتخطى مسألة التلميح والإشارة، وغدا الشعر "لغزاً لا تفك طلاسمه" وكم يؤسفني أن أقول ان معظم شعراء اليوم ينتمون الى القسم الأخير هذا، وذلك بعد أن قرأت كثيراً مما تنشره الصحف من قصائد لأولئك الشعراء، ومقتطفات من دواوينهم الجديدة. وأول ما لفت انتباهي في تلك القصائد الوجدانية الخالصة غرابة المعاني، وصعوبة تلقفها. فظننت لوهلة أنني أمام نص لفرانز كافكا أو أمام لوحة سريالية يكاد لا يفهمها راسمُها. وتذكرت فوراً المصطلح الذي أطلقه سعيد عقل: "الحالة الشعرية" والذي قد يكون تحول مع شعراء اليوم الوجدانيين والتجريديين الى "حالة نفسية معقدة وخاصة" يكاد أن يرقى بها الشاعر الى درجة التصوف، حتى لا أقول الانفصال الكلي عن الواقع. وأسأل من دافع حيرة: لماذا فضل هؤلاء الشعراء الابتعاد عن الواقع؟ لماذا فضلوا المُبهم والماورائي على السلس والسهل؟ لماذا راحوا يسردون ما يدور في أعماق أعماقهم بدلاً من أن يتوجهوا الى القارئ بأفكار وصور سهلة تحاكي واقعه وأحلامه؟ أنا لا أطالب بأن يكون الشعر واقعياً كرواية لتوفيق يوسف عواد، ولا أنكر أن على الشاعر ان يكون كتلة من الأحاسيس ومنبعاً للخيال. ولكن ما أتمناه هو الحفاظ على صلة الرحم مع القارئ بإبقاء موضوع أو شخصيات القصيدة ضمن اطار الواقعية، من دون أن يكون ذلك على حساب الخيال والصور الشعرية. والسؤال الأهم الذي يدور في ذهني هو: ما مدى شعبية هذا اللون الشعري؟ وهل هناك من ينكب على قراءة هؤلاء الشعراء؟ أين نزار الذي لو وصف المرأة جعلها حاضرة أمامك بشعرها، وسحرها، وعيونها؟ وإذا وصف حال العرب في شعره السياسي، جعلك تفكر في واقعك وكيفية تغييره؟ أليست العلاقة بين المرأة والرجل، والسياسة والحرية هي الأفكار التي تدغدغ أذهاننا كل يوم؟ أم أن الشعر الغزلي والسياسي صارا موضة قديمة في عصر الوجدانية والذاتية المتقوقعة؟ باسل الخليل [email protected]