النقاش العراقي شائك. العراق نفسه شائك. إثني مذهبي قبلي… قائمة طويلة من التراكيب التي تختزن مادة صراعية ثرية عززتها وأنضجتها دولة البعث العراقية بمؤسستها الوحيدة: "القائد صدام حسين". النقاش شائك وما يُطرح حتى اللحظة تبسيطي واختزالي. فالقول الذي يريد ان ينزع الشرعية عن الاحتلال الاميركي تخلص به العبارة الى اضفاء شرعية ما على صدام حسين. ومن يستهدف العكس لا تعينه الحقائق الاميركية. ففي الادارة الاميركية الحالية من لا يقل صدامية عن ابي عدي… لا يقل أدلجة واختزالية وعماء وإن فاقه الاخير اجراماً. فهو اساساً لا يُجارى، وخصاله في هذا المقام شخصية وغير مسبوقة بين اقرانه من الديكتاتوريين. من أراد العكس قلما نجا من شبهة العمالة. هذه مانوية مألوفة في الادبيات السياسية العربية. مانوية خطيرة قبل ان نجبر على فتح الملف العراقي ربما هذه فضيلة تسجل للاحتلال، واكثر خطورة ونحن مدعوون للنبش والغوص في الوحل العراقي. غوص خال من الاوهام. من خبث تكبير المطالب لاجهاضها ضمناً، على نحو ما يتساءل "قوميو" الفضائيات العربية. اين الحكومة الانتقالية؟ اين التمثيل العادل؟ اين حقوق العراقيين بمواردهم؟ اين… اين… اين… ولن يخجل احدهم من القول: "بعد أسابيع على الاحتلال لم يصبح العراقسويسرا. اذاً فلنعلن الجهاد والمقاومة". هذا اسئلة مشروعة بالطبع وضرورية من دون شك. لكنها بحاجة الى اكتساب مشروعيتها من الاداء العراقي نفسه. من احتكاك العراقي بحاجاته. من حراك نخبه ومكوّناته السياسية والاجتماعية بعيداً عن الضجيج القومي والعفن العروبي. فبعد ان نجح صدام في تغييب الصوت العراقي لعقود ثلاثة لا يجوز ان تتاح الفرصة لنفس العناوين بأن تغيّب الصوت العراقي لعقود اخرى… ولا حتى لساعات… هذه مانوية مخيفة اذاً. فأكثر ما يحتاجه العراقيون توسيع النقاش. مدّه الى مساحات اقفلها صدام طويلاً. لكن ما تفعله المانوية هو التضييق حكماً. الاجهاض. اجهاض للعقل ولصفات انسانية وبشرية بدرجة اولى: فلا يكون البشر بشراً الا بقدرتهم على التحرك بين خيارات متعددة. التجربة الانسانية برمتها ما هي في العمق الا عملية توسيع لانهائية للخيارات. لكل الخيارات. اما وان الانسانية العراقية انتهكت طويلاً فهي اليوم مستفزة مضاعفة وتستحق ان لا يكون العراقيون اسرى الخيار بين السيدين بوش وصدام… تخلص العراقيون من صدام بمساعدة السيد بوش. هذه واقعة وليست تقويماً. خلاصهم من بوش و"صداميته الناعمة" يجب ان يكون في متن النقاش العراقي. في تجديد الادوات السياسية العراقية. في توفير المعطيات للدولتية العراقية. والديموقراطية العراقية… واولى هذه المعطيات تتصل بالفصل الايجابي بين العراقي والعربي. بين الواقعي والمتخيل. وبمعنى اكثر فجاجة: سد الذرائع على الرغبوية العربية الكامنة ل"فلسطنة" العراق. فانهاء الاحتلال الاميركي للعراق لا يتم بمعزل عن انضاج الفكرة العراقية نفسها بالمحتوى والمعنى اللذين يفتقدهما فريق الرئيس الاميركي. وانضاج هذا المحتوى لا يصلح بغير تغليب الوطني على القومي. العراقي على العربي. فشح منسوب الهاجس الديموقراطي في التفكير الاميركي الحالي تماماً في شح المنسوب الديموقراطي في التفكير العربي. وبهذا المعنى على العراقيين، في سياق سعيهم الى تركيب العقدين الاجتماعي والسياسي، تركيب "صورة بمعنى مزدوج" مؤلفة من الوجهين الاميركي والعربي، لوضع الصورة العراقية. الاميركي مسؤول بدرجة كبيرة. الاوروبي لا يقل مسؤولية… وان كان كثير من مسؤولية المعطيين الاخيرين جزءاِ من مسؤولية المعطى العربي. حتى خلال الازمة كان المعطى العربي اكثر مسؤولية عن النتائج الراهنة. فبدل التكتل لاسقاط المشروعية عن النظام العراقي، رأينا علي الكيماوي في دمشق وطارق عزيز في بيروت وقنوات مصرية عراقية فاترة بالنشاط. هذه مهمة صعبة بالطبع… لكن علينا ان نعترف مع العراقيين بان العراق نفسه صعب. فهو، اذا ما سمحت لنفسي بإسقاط ملاحظة وضّاح شرارة عن لبنان وعليه، لم يُمل نفسه على العراقيين وطناً ومعتقداً من غير مشاطرة وتردد، فيما أوغلت دولة البعث بمؤسستها الوحيدة القائد صدام حسين في تبديد ادنى مكونات فكرة الوطن حين صار هذا الوطن مقبرة جماعية كبيرة يختلط فيها لحم الاحياء بعظام الموتى… مقبرة جماعية كبيرة اسمها العراق.