صدام حسين، لعنة العراق حاكماً أو طريداً، إذ ليس أنكى من انفراد الديكتاتور السابق بالحكم طيلة عقدين أو ما يزيد، كلّفا العراق ما كلفاه من مصائب معلومة "تكللت" بالاحتلال، من انفراده بمقاومة ذلك الاحتلال، بعد أن استدرجه وكان سببه أو ذريعته. والحال أن "المقاومة" تلك، سواء تحفظنا عنها بالمزدوجات أم لم نفعل، ما انفكت تزداد عنفواناً وتنظيماً واحترافاً، وما انفك عودها يشتد، تتغذى من تفاقم البرم بالأميركان لدى أوساط واسعة من العراقيين، ومن إخفاق واشنطن، و"حاكمها المدني" بول بريمر الثالث، في إحلال الأمن أو في استتباب النصاب الإحتلالي، وفي إرساء استقرار الحياة الاقتصادية والمدنية، وفي التوصل إلى صيغة سياسية جامعة، يرتضيها العراقيون ويتعرفون على أنفسهم فيها. فقد ترك الديكتاتور السابق بلداً مفككاً، ممزق الأوصال، لا قبل بوعاء مثل مجلس الحكم الانتقالي ب"احتوائه"، وإن روعيت في صياغته التركيبة الإثنية والمذهبية والسياسية لشعب بلاد الرافدين أو لشعوبها. فإنشاء مثل ذلك المجلس، إن افترضناها خطوة تتسم بسلامة الحس، لا يمكنه أن يكون فاعلا إلا كتعبير عن تنوع داخل وحدة قائمة، في حين أن العراق، بعد ثلاثة عقود من مكابدة ذلك الإستبداد الشرس، تحول إلى نُثار بلد أو شظايا كيان، أو ربما عاد إلى سويته الأصلية، قبل انتظامه في إطار دولة "حديثة" بحيث أن المطلوب إعادة تأسيسه، لا مجرد إيجاد هيئة وسيطة بينه وبين محتليه، مثل مجلس الحكم، وتلك وظيفة تاريخية لا تخريجة سياسية لا طاقة للمجلس المذكور على النهوض بها. ومثل ذلك يشكل تقصيراً فادحاً لمن انتدب نفسه، شأن إدارة الرئيس جورج بوش الإبن، لمهمة "بناء الأمم". فالأمم لا تُبنى هكذا، خصوصاً إذا كانت في حال كتلك التي آل إليها العراق: بلد فقد وجوده الدولي، أو "شخصيته الاعتبارية" بفعل حرب لا قانونية، لم تقرها الإرادة الدولية، وأفضت إلى احتلال انصاع له العالم كأمر واقع، أو خوفا مما هو أدهى منه، احتراباً مستديما أو فراغاً كذلك القائم في أفغانستان، لهيباً يطال الجوار القريب والبعيد. كان يمكن لتلك الفعلة الأميركية أن تتدارك خرقها للقانون الدولي، ببعض الشرعية الأخلاقية، كما حدث في البلقان، لدى إطاحة ديكتاتور صربيا السابق سلوبودان ميلوشيفيتش، ذلك الذي خيضت ضده حرب كانت قابلة للجدل من الناحية القانونية، لكنها كانت مشروعة، أو اكتسبت مشروعيتها لاحقاً، لأنها أنقذت ألبان كوسوفو من الإبادة وآلت بصربيا إلى الديموقراطية. وربما عاد ذلك إلى أن مقاربة بيل كلينتون لشؤون العالم تختلف عن تلك التي يتوخاها خلفه في البيت الأبيض ومحافظوه المتطرفون، جدداً كانوا أو قدامى. أو لأن أوروبا الغربية، إذ باركت الحرب البلقانية الأخيرة وساهمت في إدارتها، وفي تصور "يومها التالي" وفي برمجته ومواكبته، وفّرت على تلك المنطقة مآسي كثيرة. الولاياتالمتحدة، لم تنل مثل تلك الشرعية في العراق، رغم إطاحتها مستبداً استثنائياً مثل صدام حسين، بل هي تبدو أبعد عن نيلها يوما بعد يوم. في بداية مغامرتها العراقية، كانت صفتها كمُحرّر، أقله في نظر قطاعات من العراقيين لا يستهان بها، تلابس صفتها كمحتل، فتخففها أو تشفعها ببعض استدراكات. أما الآن، وبعد تسعة أشهر على سقوط النظام، فما عادت تظهر إلا بوصفها محتلا، لأن العراقيين لم يجنوا ثمار التحرير، بل بوصفها محتلا عاجزاً، أي غير مرهوب الجانب، يترنح أمام ضربات مقاومة صدّامية بالدرجة الأولى وإن استعانت بمقاتلي تنظيمات من قبيل "القاعدة" أو "أنصار الإسلام" مستغلة توقهم إلى الاستشهاد وإلى دحر "الصليبيين". حصيلة المواجهة حتى الآن، إذاً، راجحة لصالح الديكتاتور السابق. صحيح أن الولاياتالمتحدة أزاحته واحتلت بلده، لكنها أخفقت في إحكام سيطرتها، واستفحل إخفاقها ذاك يوماً بعد، كما دلت عملية ملاحقة عزت إبراهيم الدوري الثلثاء الماضي، تلك التي كانت تحركاً عسكرياً ضخماً، لبلوغ هدف عُدّ جليلا، إن من الناحية العسكرية وإن من حيث الوقع النفسي، أفضى إلى القناعة بما هو أقل، أي بإعلان إلقاء القبض على سكرتير الدوري أو مساعده، ما لبث أن أعقبه تكذيب، ثم إعلان نصر مؤزر تمثل في اعتقال 150 عراقياً مجهولي الهوية والمكانة. غير أن مصلحة العراق ومصلحة صدام ليستا مترادفتين في مقاومة الاحتلال، كما لم تترادفا أيام انفراد الديكتاتور السابق بالحكم. فالمقاومة تلك، وبالنظر تحديداً إلى صدّاميتها، لا يمكنها أن تفضي إلى تحرير، مهما بلغت من الشدة. قد تكتسب فاعلية قتالية أو تقنية متزايدة، لكنها لن تكتسب فاعلية سياسية تفضي إلى استعادة العراق سيادته، إذ لا أحد يمكنه أن يسمح لها بذلك، لا الأميركان الذين تجشموا عناء المجيء إلى هناك لإزالة الحكم البائد، ولا دول العالم. هذا فضلا عن أن المقاومة تلك، في صيغتها الراهنة، بفعل مصدرها وبفعل تمركزها داخل ما يعرف بالمثلث السني، تحمل بذور أو "جينات" الاقتتال الأهلي، سواء في طورها الحالي، إذ تميز بين العراقيين وتحرج بعضهم لحساب بعضهم الآخر بأن تصور البعض الأول في هيئة المتعاونين مع الاحتلال، على نحو فاعل أو تقاعساً، أو في صورة انتصارها المستبعد الذي لا يمكنه، بقوة الأشياء وبما هو معلوم من مواصفات صدام وفدائييه وحرسه الجمهوري، إلا أن يكون انتقامياً شنيعاً في انتقامه. هذه المقاومة، إذاً، ومع الاعتذار من أنصارها الكثر في العالم العربي، مسدودة الآفاق حتماً ولزاماً. وهي مشفوعة بهذا الاحتلال الأميركي الذي يزاوج، على نحو عبقري، بين أقصى القوة وأقصى العجز وسوء التقدير السياسي وغير السياسي، أسوأ ما يواجه العراق حاضرا ومستقبلا. لذلك، ولأن الاحتلال يجب أن يُقاوم، ولأن الأمر ذاك مبدئي وأصلي، فإنه لا خلاص ربما، إلا بانتزاع زمام المقاومة وهذه لا تنحصر فقط في العمل العسكري من الصداميين، ومثل ذلك قد لا يتحقق إلا باجتراح هيئة جامعة، تضم أحزاب العراق وفئاته وإثنياته ومذاهبه حول مطلب إنهاء الاحتلال، تُخاطب العالم، بما في ذلك الرأي العام الأميركي، على أساسه، ولا تتعاون مع القوة المحتلة إلا في ما يفضي إلى بلوغ ذلك المطلب وتحقيقه.