بدأ الاوروبيون بتخفيف الاضرار الجانبية لحرب العراق عليهم وجددوا محاولة اتحادهم للتوافق على مسودة مشروع انشاء قوة امنية مستقلة عن حلف الاطلسي "الاميركي". وتظهر تطورات الاوضاع على الساحتين العربية والدولية ان رئيس الوزراء الاسباني خوسيه ماريا اثنار الذي راهن على التحالف مع الاميركيين والبريطانيين مبتعداً عن حلفائه الطبيعيين قد اتخذ موقفاً "نابعاً عن قناعته الشخصية لا أكثر ولا اقل" - كما قال - سيمكن اسبانيا من الوصول الى ابعد ما كان يفكر فيه. ها هو يدخل اللعبة بشكل كامل، بما في ذلك ما يتعلق منها بالجانبين السوري والايراني، وهو يعرف ان كسب السلام أصعب من كسب الحرب. اتهم اثنار بالمساهمة في وقف بناء اوروبا الكبرى وبالتغريد خارج سربه وبأنه ضل الطريق الصحيح. واستفاض البعض بالحديث عن طموحاته الشخصية وعن عقدة نقص عنده تفسر رغبته في "اللعب في فريق من الدرجة الاولى". وانتقد بعض اعضاء حزبه سياسته الخارجية، لكنه تصرف بصمت وحذر. ردّ الاشتراكيون المعارضون موقفه الى عقدة اخرى سببها فشل مشروعه باستضافة مدريد لمؤتمر للسلام يجمع العرب والاسرائيليين اكمالاً لمؤتمر مدريد عام 1991 الذي نظمه الاميركيون خلال الحكم الاشتراكي. مصادر قريبة من اثنار اكدت لنا قبل الحرب، انه وضع نصب عينيه حل نزاع الشرق الاوسط وقطع الطريق امام أي ازمة جديدة مع المغرب، كأزمة جزيرة ليلى وغيرها وكسب تعاون الاميركيين في مكافحة ارهاب منظمة "ايتا" الباسكية نظراً الى انهم ما زالوا يعتبرونها منظمة انفصالية. وربما كانت هذه الترجمة الصحيحة لمواقفه. ففي نظره تبدو اسبانيا مؤهلة كي تلعب دوراً كبيراً في الشرق الاوسط، مدركاً ان في يد الولاياتالمتحدة مفتاح كل هذه القضايا وأنها في الوقت ذاته عامل استقرار لبلاده. انه يدين لها بحل الازمة مع المغرب الصيف الماضي في حين وقفت فرنسا على الحياد. سبق لاثنار ان تدخل اكثر من مرة ل "انقاذ" الرئيس الفلسطيني عندما كان الاسرائيليون يقصفون مركزه ويطرقون حائط غرفته. كان تدخله يحصل احياناً في ساعات متقدمة من الليل. لم يستقبل شارون على رغم رغبة الاخير في زيارة مدريد، فيما خصّ الرئيس بشار الاسد اسبانيا بأول زيارة دولة الى الخارج وبدعوة رسمية منها. اذا نظرنا الى هذه المعطيات بالاضافة الى العلاقات التاريخية التي تربط اسبانيا بالدول العربية والدور المهم الذي تلعبه في اطار الدول المتوسطية والحوار بين الشمال والجنوب، نجد ان رغبة اثنار في فرض نفسه على الاميركيين كوسيط في معادلات الشرق الاوسط، الى جانبهم طبعاً، كان ثمنها تلك "القناعة" التي تحدث عنها. هذا ما دفعه الى جانب وزيرته آنا بالاثيو الى الاسراع في الدفاع عن سورية وتلطيف "التهديد - المناورة" الذي اطلقه الرئيس بوش ومعاونوه بنفي وجود اي خطة لمهاجمة سورية. ويجدر التنويه بدور مهم لعبه بعض الديبلوماسيين، فبمقدار ما ننتقدهم علينا ان نعترف بانجازاتهم. فور نشر التهديد الاميركي لسورية ومحاولة الوزيرة بالاثيو تلطيفه، بقولها انه كان مجرد تصريح صحافي وليس موقفاً رسمياً، ظهر سفير سورية في مدريد محسن بلال في وسائل الاعلام الاسبانية وطالب "رئيس وزراء اسبانيا وحليف بوش وصديق سورية والعرب بالاعلان عن موقفه شخصياً". واستجاب اثنار طلب السفير وصرح من وارسو حيث كان بزيارة رسمية بأن "سورية غير مهددة وأنها بلد صديق ومتعاون في مكافحة الارهاب"، وتكلم مع الرئيس الاسد في الليلة ذاتها. اذا سلمنا بأن العلاقات الدولية هي مجرد مصالح مشتركة وانه ليس للاميركيين عدو دائم ولا صديق دائم، يمكن ان نتساءل عن اهمية دور اثنار بالنسبة الى الاميركيين على الساحة الدولية ومكاسب بلاده من استعمال نفوذها في الشرق الاوسط واميركا اللاتينية عندما يأتي دورها. تعززت علاقة اثنار مع بوش الذي أصبح يصفه ب "صديقي خوسيه ماريا" بعدما كان يخطئ في لفظ شهرته ويخاطبه بالسيد "انصار". كان بوش في حاجة الى تأييد بلد اوروبي يواجه به موقف المانياوفرنسا. ايطاليا بعيدة عن الشرق الاوسط وبيرلوسكوني يعاني مشاكل داخلية. فأيدت اسبانيا بوش معنوياً وشاركت بامكاناتها المتواضعة، بنحو ألف جندي يقومون بمهمات انسانية في مستشفى ميداني اقاموه في العراق. والحق يقال، ان اثنار كان شريفاً خلال الحرب وبعدها. لم يتكلم مثل البريطانيين والاميركيين عن توزيع حصص أو مغانم ولا عن مكاسب. كان يركز على المكاسب السياسية للشعب العراقي وعلى الامن الدولي الذي يهمه وينبه الاميركيين اليه. ولدى مراقبة المستجدات على الساحتين العربية والعراقية نرى ان الاميركيين يدغدغون شيعة العراق لا لأنهم اكثرية بل تعويضاً عن الموقف الاميركي العدائي لشيعة "حزب الله". انهم يستخدمون العصا من دون الجزرة مع العراق وربما سيستخدمون الاثنتين مع غيره. كما يبدو انهم لا يستسيغون سماع تعبير "التاريخ يعيد نفسه". عام 1917 اجتاح البريطانيون العراق فدخل الجنرال ستانلي مود بغداد وكان يردد: "لم نأت بصفة محتلين بل محررين". والكل يعلم كيف خرجوا من العراق. يقول المثل الفرنسي انه "لا يدوم الا الموقت". وبات الاميركيون يضفون صيغة "الموقت" على وجودهم في العراق وبقية مخططاتهم، حتى ان "خريطة الطريق" تضمنت هذه الكلمة. وربما تحول رئيس وزراء اسبانيا ذاته الى وسيط "موقت" لهم، فهو بات يتلقى اتصالات، بصفته هذه، من رؤساء دول عربية واسلامية لينقلها الى الاميركيين، كان آخرها اتصال من الرئيس خاتمي. لكن اعتماد الاميركيين عليه وعلى وزيرته ما زال محدوداً على رغم اهمية مهمتهما وسهولة تفاهمها مع العالمين العربي والاسلامي. ففي الوقت الذي يستعد اثنار للقيام بجولة الى بعض دول الشرق الاوسط ربما للتحضير لعقد "مؤتمر مدريد 2" الذي كانت مصر تعارضه عندما كان اثنار اقرب الى اوروبا منه الى الولاياتالمتحدة كان باول ورامسفيلد ومساعدوهما ينفذون برنامج عملهما كاملاً. وعندما كانت بالاثيو تتحدث عن دور للدول الاساسية في المنطقة مثل سورية، كان بوش يحذر فرنسا من التحرك. وما هذا التحذير سوى ضغط على فرنسا لتتخلى عن دعمها لسورية فتصبح الطريق خالية من العراقيل. تصريحات الوزير الفرنسي دومينيك دو فيلبان الاخيرة بهذا الشأن تؤكد ذلك. اما الرأي القائل بأن الاميركيين لن يقبلوا ان يكون لسورية او غيرها دور اقليمي بعد اليوم ولا قوة عسكرية، فمبالغ به كثيراً، على رغم ان ما يجري على الساحة السورية ربما كان اكثر مرارة من هجوم عسكري، لكنه أقل ألماً، اذ ان اسبانيا تلعب دور "المبنّج". اذا كان لأثنار فعلاً رأي الى جانب الاميركيين فكيف يفسر مشاريعهم المستقبلية وبأي شكل يتعامل معها؟ هل يلعب دور الاطفائي ام ان هناك توزيعاً للادوار بين "صالح وسيىء وقبيح" - اتمنى ان اكون مخطئاً في هذا الاعتقاد - لماذا سكت عن تسهيل حرق تراث العراق بما في ذلك المكتبة القرآنية ما دفع احد المسلمين الى القول: "ربما يخططون الاميركيون لتغيير القرآن الكريم بعد حرق المكتبات وتغيير انظمة التعليم". كيف ينظر الى طرق اختيار طراز الديموقراطية في العراق؟ هل ان حلفاءه ما زالوا يعتقدون مثله بضرورة المحافظة على نظام علماني في سورية؟ تجربة الجزائروايران ما زالتا حديثتين. هل انه مرتاح الى نجاح صديقه بوش في تغيير من فرضت تعيينه وزارة الدفاع جاي غارنر برئيس اللجنة الوطنية الاميركية لمكافحة الارهاب الديبلوماسي بول بريمر الذي صرح قبل 15 يوماً لصحيفة "فولدسكرانت" الهولندية حيث عمل سفيراً ان "تغييرات دراماتيكية تتوالى بسرعة غير متوقعة... ايران غيرت موقفها ورفسنجاني هو الشخص المناسب لمصالحة الاصلاحيين مع رجال الدين... على المدى القصير ان التأثير في سورية هو ثاني أهداف الحرب على العراق اما الغاية الاشمل فهي بدء التغيير في التركيبة السياسية... لن تُضرب سورية ولا ايران... لكن ديكتاتوراً مثل صدام لا يفهم إلا القوة ويستحيل التفاوض معه حضارياً... اوروبا! لم اتوقع منها إلا العنجهية"... فكيف سيتعامل اثنار الاوروبي مع حاكم للعراق جاء بمنطق وزارة الدفاع من وزارة الخارجية؟ هل يوافقه الرأي ويرسل اليه مساعدين؟ باول قال الشهر الفائت ان سورية هي "عامل قلق". زار اسبانيا وتشاور مع اثنار وطالب بدعمه في الانتخابات بسبب صحة مواقفه ليحمل الى سورية "اقتراحات" لا "املاءات". استعمل كلاماً موزوناً، في حين اطلق لسانه في بيروت مركزاً على اشعار اللبنانيين وتحذيرهم بأن "سورية بدأت بالتعاون". فهل هناك في يد اثنار ورقة ايجابية بالنسبة الى فلسطين وسورية وغيرهما؟ ليس واضحاً كيف سيتمكن من تنفيذها في ظل آحادية القرار او بمعزل عما يخطط في واشنطن وما زال في اطار المبهم. أي ان المكاسب المتوقعة لاثنار ليدخل اسمه في التاريخ كرجل سلم لم يشارك في الحرب سوى من اجل السلام، ما زالت غامضة. اما اسبانيا فساهمت حتى الآن بحسب قدراتها وبما يتطابق مع قناعات مجتمعها. انها لا تشكل قوة عسكرية مهمة كما ان شعبها لا يتقبل المشاركة الحربية في حين يدهم بقوة الاعمال الانسانية. سترسل قوات من الحرس المدني لتدريب شرطة العراق وعينت موظفين وتقنيين بينهم وزير دولة وجنرال للاشراف على الاعمار الذي ستشارك به كبار شركاتها اضافة الى تقديم خبرتها في عملية الانتقال من الديكتاتورية الى الديموقراطية ووضع الدستور والانظمة المؤسساتية نظراً الى أن تجربتها الناجحة في هذا السياق حديثة جداً. اصبحت ايضاً مركزاً للقيادة الجنوبية لحلف الاطلسي وسمح لها بتصدير الليمون الافندي الى الولاياتالمتحدة وربما ستصبح، بتأييد اميركي، مركزاً لمشروع المفاعل النووي "ايتر" الذي قررت الولاياتالمتحدة وروسيا واوروبا واليابان انشاءه وتتنافس على استضافته فرنسا وكندا واليابان. وبما ان الاميركيين قرروا تغيير الخريطة السياسية للشرق الاوسط من دون المساس، في الوقت الحاضر بجغرافيتها على رغم تقسيمهم "الموقت" للعراق الى 4 مناطق، فإنهم سيستمرون في تنفيذ مشاريع كيسنجر منقحة وما من خلاص إلا بالتجاوب وقطع الطريق امامهم من خلال اجراء اصلاحات ديموقراطية قبل ان تفرض عليهم. شارل ديغول نفسه حارب الشيوعية بسلاح الاصلاحات فكيف لا تستعمل دول العرب هذا السلاح وهو حيوي لها؟