- 1 - "خلف اللغة يكمن الإنسان" هكذا تحدث الشاعر المكسيكي البارز "أوكتافيو باث" وربما كان لي أن أضيف الى هذه المقولة "ويكمن الشعر أيضاً" فاللغة هذا العالم الواسع من المفردات التي تظل بالنسبة الى الشاعر طرية طازجة تمتلك حضوراً هائلاً وطاقات عالية مشحونة بالإشارات والمعاني، هي التي تمكن الشاعر من نحت عالمه الشعري الخاص بعيداً من أسلافه ومجايليه. وهي - أي اللغة - بما تختزنه من قدرات رمزية وما تنطوي عليه من إمكانات إيحائية تشكل المادة الخام للشعر الذي نحلم به ونشتهي قراءاته وكتابته. والشاعر فاروق شوشة، هذا الشاعر العاشق المتيم باللغة العربية والذي لم يتوقف يوماً عن الحديث عن جماليات هذه اللغة وامكاناتها الأدبية والابداعية لم يشعر أنها بخلت عليه أو استعصت بل لقد غمرته بطقسها الغنائي والإيحائي العميق وساعدته في استحضار صور الواقع العربي والإنساني، ومكنته عبر ثلاث عشرة مجموعة شعرية من التحليق روحياً في فضاءات إبداعية بالغة العذوبة والجمال على رغم انشغاله بالعمل الإذاعي، وتفرغه لهذا العمل الذي جعل منه واحداً من أبرز من وقفوا - عربياً - أمام الميكروفون. ومعلوم للدارس المتابع لحركة الشعر المعاصر في مصر أن بداية الشاعر فاروق شوشة لم تكن تبعد كثيراً عن بدايات الشاعرين الأكثر شهرة في مصر وبقية الوطن العربي، وهما: صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي. وديوانه الأول "الى مسافرة" الذي ظهر في منتصف الستينات كانت بعض قصائده ظهرت على صفحات مجلة "الآداب" اللبنانية في آخر الخمسينات وهو تقريباً الوقت الذي ظهر فيه ديوان "الناس في بلادي" لصلاح عبدالصبور و"مدينة بلا قلب" لأحمد عبدالمعطي حجازي. وهذه الاشارة تعزز الرأي القائل إن انشغال فاروق شوشة بالعمل الإذاعي اقتص جانباً كبيراً من وقته وطاقته الشعرية، وربما لعبت الإذاعة التي أعطته دوراً مميزاً بما قدمه في البرنامج الثاني أولاً وفي إذاعة القاهرة ثانياً من أدباء كبار وما اضطلع به من برامج أدبية كانت محل إعجاب ومتابعة عربية. أقول ربما لعبت الإذاعة والتلفزيون من بعد بأضوائهما الساطعة دوراً في إبعاد النقاد والدارسين عن أعماله الشعرية الى وقت متأخر اعتقاداً منهم بأنه ليس بحاجة الى مزيد من الأضواء وهو موقف يتسم - إذا صح - بالسذاجة واللاموضوعية وبالاجحاف في حق شاعر ومبدع سعى الى أن يجعل الشعر والكلمة الجميلة غذاء روحياً لأبناء الأمة العربية التي كانت الأحداث عصفت بها وشغلتها عن متابعة أشكال الإبداع الأولى وكادت تباعد بينها وبين أجمل ما في لغتها وما في الموروث من روائع. هذه الإشارات الموجزة عن الشاعر فاروق شوشة تأتي في مناسبة صدور ديوانه الجديد "الجميلة تنزل الى النهر" والذي يتساءل في آخر قصائده: هل يكفي أن نقتات معاً خبز الأيام الملعونة ونردد أن الكون فسدْ والناس وحوشٌ مفترسة تنهش أحلام الشعراء؟! ونحن إذ نحس مع الشاعر وحشية العالم الذي ينهش أحلام الشعراء بقسوة، نحاول، كما فعل فاروق شوشة بذوقه الرفيع وصوته العذب أن يقاومها، ويحبب لغتنا الجميلة لأهلها اللاهين عنها هذه الأيام والمنصرفين - غالباً - الى ما يضاعف من أحزان الأمة وتعاستها. - 2 - عرفت فاروق شوشة عن قرب أثناء إقامتي الطويلة في مصر. فكان البعيد القريب من العائلة الشعرية، في قاهرة المعز وفي بقية العواصم العربية، يضيء من خلال صوته الذي تبرز فيه جمالية الإلقاء بصفته فناً، ومن خلال شعره الذي ينتسب الى شجرة القصيدة الجديدة التي تمتد جذورها في أعماق اللغة الشعرية الى أكثر من عشرة قرون وإن كانت فروعها الحديثة لم تظهر إلا في آخر النصف الأول من القرن العشرين. كان فاروق نموذجاً فريداً في علاقته بالمبدعين المحليين والوافدين من أنحاء الوطن العربي، ابتسامة ودودة، ومشاركة وجدانية عالية المستوى، مع عزوف تام عن المهاترات والصراعات التي شهدتها الساحة الأدبية في الستينات والسبعينات من القرن المنصرم والتي شدّت إليها عدداً من الشعراء الكبار والصغار حول قضايا كانت في أكثر الأحيان لا تمت الى الإبداع بأدنى صلة. ولم يكن فاروق يوماً منتمياً الى "شلة"، أو طرفاً في خصومة. فقد نأى بنفسه عن كل ما يتفشى في الحياة الأدبية، في مصر أو في غير مصر، من خلافات وخصومات ومشاحنات واكتفى بأن يعيش الجانب المضيء والمشرق فيها وإن كان شعره انعكاساً إبداعياً للواقع في كل إشراقاته وتناقضاته: السباق الذي لم تعد طرفاً منه يبدأ قبل انطلاق الأذان وقبل انبلاج الصباح الذي لن تراه وقبل اعترافك بالذنب هل أنت أذنبت؟ لا تبتئسْ فالجميع يدور مع الدائرة رغبة /أو مخافةْ طمعاً أو إضافةْ أو دنواً من العرش عرش الخلافةْ. ربما لن يكون في مقدور النص النثري مهما اكتملت لصاحبه شروط الإبداع أن يعيد تجسيد الواقع كما يفعل النص الشعري، ومن هنا فليس ثمة كالشعر وسيلة لكشف الجوهر الحقيقي للإنسان وسبر أغوار نفسه. في النصوص النثرية نستطيع أن نقرأ عوالم لا دخل لها بأصحابها بينما لا يستطيع الشعر بلغته الإشراقية المكثفة أن يفعل ذلك. إنه مرآة النفس كما قيل عنه بحق، وكل كلمة في النص الشعري تحمل مفتاحاً خاصاً الى قلب صاحبه وهنا تكمن أهمية الشعر واهتمام صفوة العالم به. يستطيع الشاعر أن يخفي أحزانه وراء مئات الكلمات النثرية لكنه يعجز عن أن يفعل ذلك مع القصيدة، هذا المستوى من اللغة الذي يرفض أن يبدأ حديثه مع الشاعر إلا بعد أن يجبره على خلع ما يحول دون حقيقة الجوهر الكامن في ذاته: الرماد أمامك والبحر خلفك فاترك - لمن خلعوك - الخلافة هذا زمان لدهماء هذا الزمان يعيشون فيه فساداً ويرجون منه امتداداً ويحيون... يرتكبون صنوف الخطايا. أي زمن هذا الذي يتحدث عنه الشاعر؟ زمن أية مدينة عربية أو أجنبية؟ إنه الزمن الراهن، زمن الجميع من دون استثناء، زماننا الذي تحاول كاميرات الشعر العميقة أن تسلط عليه الأضواء الساطعة لعل أبناءه يتنبهون ويشعرون بالحد الأدنى من المسؤولية تجاه ما يحدث في هذه الأيام التي تدافعت فيها الرغبات المكبوتة طاغية على كل القيم النبيلة. ولكي يقترب الشاعر من الناس محذراً ومنذراً فقد أمسكت بعض قصائد ديوانه الجديد "الجميلة تنزل الى البحر" بالمعنى الصوفي واستحضرت لغته المصفاة والبسيطة بعمق مما يجعلها قادرة على النفاذ الى أعماق النفس وإيقاظ الهاجع فيها من المعاني والقيم الإنسانية العليا بشفافية شعرية رفيعة المستوى: رأيت الذي لا يراه سواي. فقلت لنفسي: لو اني نطقت بما أسعدتني به الحال ما صدّق الناس وارتاب أكثرهم في يقيني وظني وقالوا: "له الله"! يهذي بما ليس يدري ويبصر ما لا يُرى ويضل ضلالاً بعيداً له الله!