بعد أن نشرت "الحياة" الحلقة الأولى من مذكرات الملكة نور الحسين يوم الثلثاء الماضي، وفيها حديث عن لقائها الأول بالملك حسين، ارتأينا أن ننتقل فوراً إلى الفصول المتعلقة بحرب الخليج الثانية بعد غزو الكويت بسبب علاقة تلك الفصول بالأحداث الراهنة في العراق. ونعود اليوم إلى الجوانب الشخصية المتمثلة بطلب الملك الحسين يدها للزواج. مما دونت في يومياتي بتاريخ 25 نيسان ابريل 1978 الجملة التي قالها لي الملك الحسين ذلك المساء: "أريد أن أرى أباك". ولم أدرك وقتها أهمية كلامه. لم أكن أعلم أن الملك الحسين كان يخطط لرحلة ربيعية الى الولايات المتحدة، مثلما كان يفعل كل سنة. هل كان ينوي التباحث مع والدي في قضايا تخص الطيران؟ لم أفهم وقتها ان الملك، بروحه المحافظة على التقاليد، كان يلمِّح الى أنه يعتزم لقاء والدي لكي يطلب يدي للزواج. وجاء ذلك بعد أقل من ثلاثة أسابيع على انضمامي الى والدي وماريتا تري لمقابلة الملك. لا أزال أتذكر تلك اللحظة التي بدأت فيها بإدراك مقصده. كان ذلك بعد العشاء في القصر عندما كنت أقشر تفاحة - فاكهته المفضلة - لنتقاسمها. وكرر الملك نيته لزيارة أميركا والكلام مع أبي. لكن كان في الطريقة التي تكلم بها هذه المرة، وكذلك في نظرته إلي أثناء ذلك، ما أعطى قوله أهمية خاصة. وبلغ من ذهولي عندما فهمت قصده انني لم أجد ما أقول سوى: "هاك قطعة تفاح ثانية!". فيما واصلت تقشير التفاحة وتقطيعها. كان الملك ألطف من أن يلحّ في الكلام عن الموضوع، واكتفى بإيصالي في السيارة الى شقتي بعد وقت قصير. كان عليه المغادرة الى يوغوسلافيا في زيارة رسمية صباح اليوم التالي، وأعطاني هديتيّ وداع. فتحتهما عندما صرت وحدي. الأولى كانت ولاعة سجائر محلاة بالماس. الثانية، خاتم ذهبي محلى بقطع صغيرة من الماس الأبيض والأصفر. وفي اليوم التالي أخذت الخاتم معي الى المكتب، لكن وضعته على قلادة لبستها تحت قميصي، لأنني لم أطق ردود الفعل لو ظهرت فجأة في المكتب أو مع الأصدقاء وفي إصبعي ذلك الخاتم. لقائي الوحيد بالملك خلال اليومين التاليين كان لدى مشاهدة الأخبار المسائية على التلفزيون. كانت المرة الأولى التي نفترق فيها فترة كهذه، وفوجئت عندما رأيت التغطية الإخبارية لزيارته الى يوغوسلافيا بمدى شوقي له ومدى ارتباطي بذلك الرجل على الشاشة. وعندما عاد الى الأردن واصل ذكر والدي أثناء كل كلام بيننا تقريباً. وفي أحد الأيام خاطبني بكلمات اختارها بعناية عارضاً الزواج. كان الملك الحسين وقتها "الأعزب الرقم واحد" في العالم. وكانت الأسر في الأردن وخارجه تحلم بتزويج ابنتها للملك، لما في ذلك من المزايا الكبيرة. وقام مرة بعد وقت قصير على وفاة زوجته الثالثة بزيارة رسمية الى الولايات المتحدة شملت رحلة الى تكساس. وكان انطباعه، كما قال لاحقاً، انه شهد استعراضاً لكل الشابات العازبات، وكأنها مسابقة لاكتشاف غريس كيلي الجديدة. لكن اعتبار الحصول على امتيازات مادية أو اجتماعية من خلال الزواج لم يخطر في بالي في أي وقت من الأوقات، ناهيك عن ذلك الوقت بالذات. ذلك انني أنتمي الى جيل يتزوج من أجل الحب دون سواه. في الأسبوعين التاليين فكرت ملياً في الأمر، خصوصاً في التساؤل عما اذا كان اختياره لي كزوجة هو الخطوة الصحيحة بالنسبة إليه والى البلد. وعلى رغم أن أياً من زوجاته الثلاث السابقات لم تكن من مواليد الأردن فقد كان علي أن أقرر ما إذا كانت هناك سلبيات بالنسبة إليه في العالم العربي نتيجة زواجنا. هل سيجدون ضيراً في انني أميركية المولد؟ هل أنا الشخص المناسب؟ هل لدي ما يكفي من الانضباط الذاتي ليؤهلني لأكون زوجة مناسبة لملك؟ وقد كنت دوماً امرأة عاملة، وليس فقط بسبب الضرورة المادية ولكن أيضاً لأنني اعتبرت ان من المهم المساهمة في المجتمع. وأقلقني انني لم أتكلم مع الملك الحسين كثيراً عن حياتي قبل المجيء الى الأردن. وكنت أعرف قدرات وسائل الإعلام العالمية على تقصي دقائق حياة الشخصيات العامة. وأردت للملك أن يتروى في الاختيار. إذ لم أرد له أبداً أن يدفع ثمن اختيار زوجة تزيد من تعقيدات حياته. وتساءلت على الصعيد الشخصي أين سأجد القوة اللازمة لمواجهة الأوقات الصعبة التي لا بد من أنها في الطريق. هل سأستطيع التحمل؟ هذه كانت الأسئلة والهموم التي أرَّقتني خلال تلك الأيام. كان عليّ أيضاً أن أتمعن في معلوماتي القليلة عن الملك، وتمحيص الشائعات والأقاويل عن حياته الخاصة. كما لا أنكر عدم ارتياحي لأن أكون الزوجة الرابعة للملك، أو لأي شخص كان. وكان أخبرني عن زيجته الأولى التي استمرت 18 شهراً الى الشريفة دينا عبدالحميد الملكة دينا لاحقاً وهي من بنات أعمامه وكانت تكبره بسبع سنوات ورزق منها ابنته عالية. ثم زوجته الثانية، وهي الشابة الانكليزية انطوانيت غاردنر، التي أصبحت الأميرة منى، التي رزق منها بولدين هما عبدالله وفيصل، وابنتين توأمين هما زين وعائشة. ثم طلق منى بعد 11 سنة وتزوج من علياء طوقان، وهي من أسرة فلسطينية، توفيت في حادث مؤسف بعد أربع سنوات. وفكرت ما إذا كان زواجي منه سيجعلني الأم بالتبني لأولاده الثمانية، من ضمنهم أطفال الملكة الراحلة علياء. وبدا لي أن ذلك يشكل مسؤولية كبيرة، لكن منظوري المثالي جعلني أرحب. كانت هناك أيضاً اعتبارات أخرى، من بينها أن الولايات المتحدة حلّت محل بريطانيا كقوة رئيسة في الشرق الأوسط، ولقيت عداء شديداً من العالم العربي، من ضمنه الأردن، بسبب دعمها السياسي الكامل لإسرائيل. هل سيشعر شعبه بالاستياء منه، أو حتى أنه يخونهم، في اختياره الزواج من أميركية، ولو كانت امرأة ذات جذور عربية؟ لقد كانت هذه قضية جدية. وكان هذا الاحتمال وارداً تماماً، أخذاً في الاعتبار التوتر المتصاعد في المنطقة، الذي عاد الكثير منه الى الرئيس أنور السادات. وكنت أمر بباريس خلال رحلة متعلقة بعملي في خطوط الطيران عندما قام السادات بزيارته التاريخية الى اسرائيل في تشرين الثاني نوفمبر 1977 ليلقي كلمته في الكنيست، ثم ليصلي في المسجد الأقصى، الثالث في المكانة لدى المسلمين بعد مكةوالمدينة، ومنطلق الرسول صلى الله عليه وسلم في المعراج. وأتذكر تغطية التلفزيون لوصول السادات الى تل أبيب ونزوله من الطائرة، واحتباس نفسي عندما رأيت قدميه تطآن أرض إسرائيل. وكان ذلك مشهداً مذهلاً. وأتذكر انني فكرت، من منظوري المثالي، أن الزيارة تعطي أملاً بالسلام. لكن الأصدقاء اللبنانيين الذين كانوا معي استبشعوها تماماً. وعكس هذا التفاوت في ردود الفعل الجدال الذي يلفّ زيارة السادات. فحين اعتبر العديد من الغربيين السادات بطلاً، كان العالم العربي يتحرّق سخطاً. فكانت التظاهرات تجتاح دمشق بينما ترمى القنابل على السفارة المصرية، واجتاح الطلاب العرب السفارة المصرية في اثينا بينما اقتحمت مجموعة من الفلسطينيين السفارة المصرية في مدريد واعتصمت فيها لفترة. وعلى رغم غياب العنف في عمّان، كان الغضب يخيم على الشعب. كان كابوس الملك الحسين ان تُضعف اسرائيل الموقف العربي مع تقسيم قادته وترك الفلسطينيين تائهين امام الإسرائيليين، ومصر كأقوى وأكبر دولة مع اكبر عدد سكان ومن غير أراض محتلة تشكل مشكلة. كان من السهل استرجاع سيناء من اسرائيل التي احتلتها عام 1967 اذا استطاعت الأخيرة اقناع السادات بالتنازل عن التضامن العربي والمضي في سياسته على رغم ان السادات ظل يردد علناً ان هذا مستحيل. وشكّل إعلان السادات وعزمه على زيارة فلسطين والتحدث امام الكنيست في تشرين الثاني نوفمبر 1977 مصدر حيرة كبيرة للملك الحسين الذي طلب التحضير لجلسة طارئة لمجلس الوزراء. لكنه كتم انتقاداته لزيارة الرئيس المصري التاريخية وطالب البلدان العربية بالمثل. فقد خشي ان يحرّض الرفض العلني السادات على عقد اتفاق منفرد مع اسرائيل. كما رأى نقاطاً ايجابية في حديث السادات امام مجلس الوزراء الإسرائيلي مثل رفضه عقد اتفاق منفرد عن القضية الفلسطينية. فتمسك الملك الحسين بتفاؤله الدائم معتقداً بأن نية السادات قد تكون طيبة. وكنت بدأت اتعلّم بأن عدم التخلي عن احد هي احدى صفات الملك المميزة. كان يعتقد بشراسة ان الخير دائماً ينتصر عند الإنسان لكن فتور رد فعله على زيارة السادات اثارت غضب بعض الأردنيين الذين اعتقدوا ان الزعيم المصري يستحق معاملة قاسية. من هؤلاء زوجة رئيس البلاط الملكي التي تحدثت الى زوجها قائلة: "مع كل ما يفعله السادات، هذا هو ردّك؟" فجاء ردّه ليعيد ما قاله الملك: "اما ان نعيد السادات الى صف العرب وإما ان نخسره". قبيل زيارة السادات اسرائيل، كانت حكومة جيمي كارتر الجديدة في واشنطن تتباحث مع اسرائيل والدول العربية حول عقد مؤتمر عالمي للسلام في الشرق الأوسط في جنيف. وخلال الأشهر الأولى من صداقتنا، كان الملك الحسين يعمل ليل نهار مع الأممالمتحدة فيسافر دائماً الى مصر وسورية والسعودية وبعض دول الخليج لينال مساندة هذه الدول في مؤتمر للسلام مع اسرائيل وفي ايجاد حل يرتكز على القرار 242 للأمم المتحدة. كان يعود من سفره مرهقاً جسدياً إنما مملوء بالأمل. كان يعتقد ان اتحاد العرب مع بعضهم البعض هو القوة القصوى لموقف الدول العربية في المفاوضات، ليس لمصالحهم فحسب بل لمصلحة الفلسطينيين بالأخص الذين كانت مأساتهم قلب الصراع. بالنظر الى الوراء، أتعجب كيف كان الحسين يجد الوقت الكافي ليمضيه معي. وعلى رغم انني طلبت بعض الوقت للتفكير في عرضه، فقد استمرت لقاءاتنا على العشاء في الهاشمية وسماعنا الموسيقى ومشاهدتنا الأفلام. كان المغنون المفضلون لديه المطربة اللبنانية الرائعة فيروز، فريد الأطرش وهو عازف ومغن وممثل من اصل سوري، جوني ماتيس، والفريق السويدي "أبا". في بعض الأمسيات، كان القليل من أصدقائه ينضمون إلينا. أتذكر بوضوح اول لقاء لي مع ليلى شرف لبنانية امضت السنوات التسع الأخيرة في واشنطن ونيويورك مع زوجها الشريف عبدالحميد شرف الذي كان سفير الأردن في الولايات المتحدة وممثله لدى الأممالمتحدة اعجبت تواً بذكاء ليلى الحاد ومعلوماتها السياسية الواسعة. كان زوجها، الذي سيصبح في ما بعد رئيساً للوزراء بعد ان تولى منصب رئيس البلاط الملكي، مثقفاً تقدمياً وذكياً، فقد اصبحا سريعاً صديقيّ الحميمين ومستشاريَّ. في احد اوائل لقاءاتنا، شرحت لي ليلى معنى الحدث الذي كنت قد شهدته قبلاً. حين كنت اتمشى في احد الشوارع الرئيسة في المدينة، علقت في دوّامة من السيارات الرسمية والحرس الملكي والحواجز البوليسية المتمركزة خارج مدخل مبنى البرلمان التاريخي المؤلف من طابقين. كان سبب الاضطراب الاجتماع الذي دعا إليه الملك المجلس الوطني الاستشاري وهو المجلس النيابي الأردني الموقت. فسّرت لي ليلى انه مع ضم الضفة الغربية الى الأردن عام 1950 بناء لطلب المسؤولين الفلسطينيين لحمايتهم من التوسع الإسرائيلي، انتخب عدد متساوٍ من النواب من الضفتين الغربية والشرقية لنهر الأردن. وكنتيجة مباشرة لحرب 1967، علّق البرلمان لأن إسرائيل منعت النواب المقيمين في الضفة الغربية من العبور الى الأردن لحضور الجلسات. وحتى لو تمكّن النواب من العبور بسهولة فهم لا يمثّلون بعد الآن جمهور الناخبين تحت القانون الأردني. قالت ليلى "خوض الانتخابات في ظل الاحتلال سيعني القبول به". ومع غياب نصف اعضاء البرلمان علقت اعماله وترك الأردن من دون مجلس تمثيلي حتى اللحظة التي شهدتها. عيِّن الأعضاء الجدد للمجلس الوطني الاستشاري من جميع فئات المجتمع، مع الأخذ في الاعتبار جغرافيا الطوائف والمهن وحتى الجنس، فلأول مرة ضم مجلس النواب العنصر النسائي. كان على الانتخابات ان تؤجل في انتظار استرجاع الضفة الغربية وحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، لكن المجلس الوطني الاستشاري كان خطوة مهمة وشاملة للأردن. كنّا، الملك وأنا، نرى الأولاد كل مساء، وقد اصبح هذا روتيناً بالنسبة الينا. ذات يوم، جاء ليقلّني مع عبير، كانت في الخامسة من عمرها، شعرها اسود جعد وعيناها كبيرتان بنيتان وشخصيتها مفعمة بالحياة. اختفت في غرفتي ثم دخلت خزانتي، وأخرجت احذيتي ولبستها لتتمشى في غرفة الجلوس. وأثارت حركاتها فرحي. أما هيا، التي جاءت للزيارة في أحد الأيام، فكانت حيوية أيضاً لكنها مغناج وظريفة كراقصة باليه صغيرة. كانت الفتاتان تحبّان اللعب بشعري لأوقات طويلة حين لا تكونان منهمكتين باللعب بدمى باربي وسيندي. أما علي وله من العمر سنتان فكان مملوءاً بالفرح يحب العناق، مع خديه المنتفخين وابتسامته العريضة الماكرة. ولأن أختيه تأخذان الاهتمام كله، كان يطالب بعطفي وحناني. في هذه الأثناء، بدأت أشعر بالحاجة الى الردّ على طلب الملك. كان يمكن أن يساعدني وجود شخص ما أتحدّث اليه، يشاركني في التفكير، لكن الأسرار لا تحفظ. لا أعني أنني لا أثق بتحفظ أصدقائي المقرّبين، لكنني أحسست بأنني أخون ثقة الملك إن تحدثت عنه لأحد. لم يكن أحد على علم بأنني أقابله، عدا الأشخاص المقربين جداً اليه، إضافة الى شقيقته الأميرة بسمة وزوجها الرائد تيمور داغستاني، اللذين كنا نزورهما في مناسبات ليلية. وعرفت انه لا يمكنني التباحث في قراري مع أصدقائي وعائلتي في الولايات المتحدة عبر الهاتف. كان عليّ اتخاذ القرار وحدي. بعد مضي عشرة أيام على طلب الملك الزواج مني، بدأت بالتردد. كنّا أمضينا عطلة آخر الأسبوع في منزل الملك البحري في العقبة برفقة الامبراطورة فرح الآتية من ايران. لم تكن الشاهبانو هي السبب، بل كان الحسين. لحظة وصلنا الى العقبة، رأيت الملك يتحول أمام عينيّ من الشخص الحساس الرقيق الذي عرفته الى شخص بارد ومتحفظ غريب تماماً عني. بدا كأنه يراقب أدق تفاصيل الزيارة، ويراجع أكثر من مرة أصغر الترتيبات. حين وصل الضيوف، تحوّل مجدّداً مع الشاهبانو وجماعتها فأصبح رسمياً وبارداً وهو عكس هذا تماماً مع أصدقائه وعائلته. نمط حياة الشاهبانو فرح المتكلف يختلف تماماً عن الحياة البسيطة التي عهدتها داخل البلاط الأردني. كان الحسين معجباً كثيراً بها حتى انني بدأت أتساءل عما إذا كان مخطئاً في شأني وبالصورة التي سأعكسها كزوجة له. عشت الأمرّين طوال الرحلة، مرافقة الملك الحسين وضيوفه الإيرانيين الى عشاء رسمي أقيم على شاطئ يبعد قليلاً من القرية السعودية البحرية، حيث نصبت خيم على طول الشاطئ. في يوم آخر، ذهبنا بالطائرة الى وادي رم حيث نصبت خيم أخرى وأقيم عشاء آخر. عادت الأمور تقريباً الى طبيعتها مع رحيل الضيوف، لكنني لم أستطع التوقف عن التفكير بالحسين الآخر الذي شاهدته طوال الزيارة الملكية. مع الوقت، عرفت كم يكاد يكون استقبال ضيوف مرموقين مهمة مقدسة بالنسبة الى زوجي. بداية، فكرة المضيف المثالي هي جزء لا يتجزأ من ثقافة الملك. في أنحاء العالم العربي، يعطى استقبال الضيوف كل اهتمام، ويوفّر المأوى الآمن حتى الى الأعداء الذين يطلبون اللجوء. فالبدوي الأردني يذبح آخر رأس في قطيعه أو يقدم طعامه الخاص الى ضيفه. زوجة الشاه كانت ضيفاً من الضيوف بما أن زوجي عرف زوجها وعائلته أكثر من 20 عاماً. في السنوات التالية، بدأت أقدّر المسؤولية التي يشعر بها زوجي تجاه ضيوف مثل ايرانيين استقبلوا عائلة الملك بحفاوة قصوى بل وقفوا الى جانب التطوّر الأردني سنين طويلة. بعد رحيل ضيوفنا، باح لي الحسين بأمر ساعدني على فهم انشغاله. فقد أخذته الشاهبانو على حدة وسألته: "إن حصل سوء لنا، هلاّ تعتني بأولادنا؟". قد تكون تفكر في صراع زوجها مع مرض السرطان، الذي لم نكن نعلم به وقتذاك وربما كانت تتحدث عن الوضع المضطرب في بلادها. فرجال الدين الشيعة يمارسون الضغوط على الشاه في مدينة قم المقدسة حيث أقيمت تظاهرة قبل ثلاثة أشهر. تمكّن رجال الشاه من السيطرة على العنف، لكن الاضطراب الذي شعرت به وأحسسته حين كنت أقيم في ايران لا يزال مستمراً. تأثر الحسين بمطلب الشاهبانو وبدأ يقلق من ارتفاع حدة التوهج الديني في الطبقة الإيرانية الدينية. أخبر الشاهبانو بأنه سيكلم الإمام موسى الصدر، وهو شخصية دينية لبنانية بارزة ويقنعه ليلعب دور الوسيط ليهدئ حدة الصراع. فالإمام هو الوحيد الذي قد يلعب دوراً بناءً. دعاه الملك الحسين الى الأردن لاجتماع في الهاشمية حيث أخبره الإمام بإن الثورة في ايران قريبة جداً وستسيل الدماء إلا في حال بذل جهود قصوى للتصالح. نصح الصدر بأن يطلب الشاه عودة آية الله الخميني من المنفى في العراق ويحاول التوصل الى حل سلمي. بعد اللقاء، توجّه الملك الحسين الى طهران وأخبر الشاه بما علمه، فقال رئيس الاستخبارات لدى الشاه الذي حضر الاجتماع: "ان الصدر كاذب. هو وخميني أفعيان. الشعب راضٍ ولا خوف من ثورة". بعد هذه الزيارة، أخبر الملك علي غندور برأيه فقال: "أخشى أن يكون الإمام الصدر على حق، وسيكون ثمن تجاهل حديثه غالياً". أرسل الملك رسالة الى الخميني الذي كان في المنفى قرب باريس يقود المعارضة ضد الشاه. جاء جواب خميني بكل احترام ولكن كان واضحاً انه لن يقبل التفاوض مع حكومة الشاه. في طريق العودة من العقبة الى عمان، توقفنا في وادي الأردن لزيارة ابن عم الحسين، الشريف زيد بن شاكر، وزوجته نوزت الشريف زيد يكبر الحسين بسنة، وكان من أعز أصدقائه وأقدمهم. درس مع الحسين في ثانوية جامعة فكتوريا المرموقة في الاسكندرية وسبقه بسنة في ساندهيرست. دخل الجيش الأردني بعد ذلك وأصبح القائد الأعلى للقوات المسلحة ليصير في ما بعد رئيس البلاط الملكي. تولّى رئاسة الوزراء لثلاث فترات متتالية. بعدها منحه الملك لقب أمير. حظينا بغداء ممتع ومفاجئ في المزرعة وهذا ما كنت في أشد الحاجة اليه بعد رحلة العقبة. تناولنا الطعام تحت خيمة ملوّنة نصبت في الحقل وتحدثنا عن أعمال العائلة المميزة في الزراعة. التقينا ثانية بعد بضعة أيام حين دعاني الملك لحضور حفل عسكري على شرف رئيس موريتانيا الزائر. أقلني الملك من شقتي وقاد حتى منزل الشريف زيد في مجمع القواعد العسكرية حيث من المفروض أن أكمل طريقي برفقة نوزت. وصلنا الحفل عقب وصول الملك وواكبنا الحرس حتى مقاعدنا على طول ساحة العرض أمام الجمهور الرسمي المترقّب. كنت شديدة الخجل في هذا الإطار، لكن، ولحسن الحظ، نسيت حقيقة أنني محط أنظار الجميع. غداً حلقة سابعة.