تابعتُ الشأن الإيراني عن كثب منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي مع ما اعتقدتُ -وقتها- أنه مقدمات ثورة، قد تطيح بالشاه محمد رضا بهلوي. وأذكر أنني كتبتُ عن مقدمات الثورة واحتمالاتها عقب حريق وقع بدار سينما عبدان في أغسطس من عام 1978، وراح ضحيته المئات من الإيرانيين، وأزعم أنني ربما كنت بين أول من تناولوا -في العالم العربي- أحداث إيران -آنذاك- باعتبارها مقدمة لثورة، ومع أنني كتبت مقالي الأول في سبتمبر 1978 إلا أنه لم ينشر إلاّ في نوفمبر من العام ذاته بسبب خوف رئيس التحرير -آنذاك - (الأستاذ أنيس منصور) من أن يستثير المقال غضب الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي ارتبط مع الشاه بعلاقات أكثر من وثيقة، ولكن ما إن مر المقال بسلام حتى دخل أنيس منصور من الباب الواسع بسلسلة مقالات حول الموضوع ذاته، يومها شعرت أنني ربما استخدمت ككاسحة ألغام، فتحت الطريق لمن يريدون معالجة ما يدور في إيران، وكان الدكتور سعد الدين إبراهيم أحد أبرز مَن ولجوا الطريق خلف الأستاذ أنيس منصور. قبل عامين فقط من الثورة أثناء احتفالات الشاه الأسطورية في برسبوليس بمرور ثلاثة آلاف عام على تأسيس مُلك قورش، همس الرئيس الأمريكي جيمي كارتر في أذن الشاهبانو بأن “إيران تبدو كجزيرة للأمن والأمان وسط بحر مضطرب”، ومع ذلك فقد بدا الأمريكيون أقل حماسًا لحماية نظام الشاه عندما بدأت رحلة السقوط، رغم وجود فريق يضم أكثر من أربعمئة عنصر بالسفارة الأمريكية في طهران كان يتابع عن كثب ما يدور في الشارع الإيراني، وربما حتى ما يجري خلف الأبواب المغلقة في طهران، وفي باريس، حيث كان يقيم الإمام الخميني. أغلب الظن (الآن) أن واشنطن كانت على علم بما يجري للإطاحة بالشاه، وأغلب الظن كذلك أنها تعمدت التعتيم على الشاه، فلم يتم اطلاعه على ما يجري، أو تحذيره ممّا يدور، هكذا كشفت الإمبراطورة السابقة فرح ديبا في حوار لها مؤخرًا مع إحدى الفضائيات المصرية، قالت أرملة الشاه بالحرف الواحد: “بعد وفاة الشاه التقيت مسؤولاً أمريكيًّا وفاجأني بقوله: لو كنا نعلم بحقيقة مرض الشاه -الذي توفي في القاهرة متاثرًا بسرطان البنكرياس- لما تركنا النظام يسقط”!! أي أن الولاياتالمتحدة كانت ترصد مقدمات الثورة، وتتابع مجرياتها، لكنها لم تشأ حتى أن تحذر الشاه من أنه يسير فوق أرض مبتلة. تحالف واشنطن مع الشاه كان نموذجيًّا خلال سنوات الحرب الباردة، فالأمريكيون هم من أعادوه إلى عرشه بعدما أطاحت به ثورة محمد مصدق مطلع الخمسينيات، وهم الذين حذّروه من ثورة أخرى ضده مطلع الستينيات عندما أخبره الرئيس الراحل جون كينيدي بضرورة إجراء إصلاحات داخلية عميقة إذا ما أراد أن ينال دعم واشنطن. لكن لحظة السقوط في الداخل صاحبها باعتراف المسؤول الأمريكي السابق سحب الغطاء الأمريكي من فوقه، فيما كان الشعب الايراني يسحب البساط من تحت أقدامه، فأصبح الرجل فجأة في منتصف يناير 1979 بلا أرض شعبية تحته، ولا غطاء أمريكي فوقه. بل إنه في رحلة البحث عن منفى لم يجد مَن يجرؤ على استقباله سوى صديقه الراحل أنور السادات، بعدما تخلّت واشنطن عنه رسميًّا برفضها منحه تصريحًا بالإقامة في نيويورك، وامتدت رحلة الشاه في البحث عن منفى غربًا إلى المغرب، ثم نيويورك، ثم بنما حيث استقر قبل أن يعود لأول مرة باتجاه الشرق إلى القاهرة، ولكن هذه المرة بحثًا عن قبر، حيث دُفن إلى جوار والده رضا شاه بمسجد الرفاعي بالقاهرة. أجندة الإصلاح الأمريكية كما كتبها للشاه الرئيسان الديموقراطيان جون كينيدى مطلع الستينيات، وجيمي كارتر في منتصف السبعينيات سرّعت إيقاع حركة التغيير في طهران التي نجحت في الإطاحة بالشاه قرب نهاية السبعينيات، وبرغم ان السقوط جاء ثمنًا معقولاً لإنصات الشاه العميق لحلفائه في واشنطن، إلاّ أن أحدًا في المكتب البيضاوي لم يأبه حتى بتحذير الرجل من السقوط، ثم جاءت اعترافات المسؤول الأمريكي للإمبراطورة السابقة بأن بلاده كانت تعلم بما يجري وأنه كان بوسعها إن أرادت أن تتدخل مجددًا لإنقاذه، لتثير بدورها أسئلة في العمق حول مدى التزام واشنطن بالدفاع عمّن تقول إنهم حلفاؤها، وكذلك لتبدد بعض أوهام من يظنون أن للتواصل الشخصي قيمة في موازين المصالح في السياسة الدولية، فالولاياتالمتحدة تخلّت عن رجلها طوال سنوات الحرب الباردة ضد السوفييت (الروس)، بل وتركته يسقط فيما كان الجيش السوفييتي يدق أبواب كابل، وهى لم تبالِ بوجود حكومة دينية في طهران كانت مراكز الأبحاث الأمريكية تعرف سلفا مآلات سياساتها وتوجهاتها، بل وربما كانت تعلم أيضًا بما يمكن أن تثيره من قلاقل مذهبية وإقليمية لدول الجوار، فهل ثمة مجال لنظرية المؤامرة هنا، ونحن بصدد محاولة فهم ما جرى ويجري بين واشنطنوطهران منذ سقوط الشاه وحتى مقدمات المواجهة حول الملف النووي الإيراني؟ وهل ثمة مَن يراهن على الغطاء الأمريكي بعدما سقط القناع بعد تصريحات الإمبراطورة السابقة فرح ديبا التي بدت مصابة بخيبة أمل كبيرة في الحليف الذي راهن عليه زوجها طول الوقت؟ أسئلة تستحق محاولة البحث عن إجابات لها. [email protected]