نشرت مجلة "تايم" على غلافها الاسبوع الماضي صورة طريفة للرئيس الاميركي جورج بوش وهو يرتدي بزة طيار حربي كأنه متوجه لتنفيذ مهمة خطرة! وكتبت تحت الصورة عنواناً بارزاً يقول: هل تستطيع التغلب على هذا الرجل؟ بعد قراءة الموضوع يكتشف القارئ ان المنازلة التي أوحت بها المجلة لا تشير الى خوض معركة عسكرية جديدة، بل الى معركة انتخابية ستحسم عام 2004 ضد منافس ديموقراطي لم يظهر على الساحة حتى الآن. وكما افتتحت الصحافة الاميركية معركة الرئاسة باكراً وربطتها بكل نشاط سياسي يقوم به الرئيس، هكذا ربطت الصحافة الأوروبية بين جولته الواسعة وبين المكاسب التي سيجنيها على الساحة المحلية. ولوحظ ان غالبية وسائل الاعلام في فرنسا والمانيا وسويسرا حرصت على وصفه بماركس أورلوس، الامبراطور الروماني الذي خاض أربع حروب خلال عشرين سنة من حكمه. وفسرت هذه المقارنة بأنها مجرد تحذير أوروبي من أن ولاية بوش الثانية ستشهد مزيداً من الحروب بعد افغانستان والعراق، وان انهيار الامبراطورية الاميركية سيتم على عهده مثلما بدأ انهيار الامبراطورية الرومانية على عهد اورلوس، علماً بأن صقور البيت الأبيض يستخدمون دائماً مصطلح "باكس اميريكانا" Pax Americana للتدليل على ان قوة بلادهم العسكرية ستوفر للبشرية نظاماً عالمياً مستقراً مثلما وفر "سلام روما" لأباطرة ذلك الزمان ألف سنة من الأمن والاستقرار والازدهار. وحجتهم ان الولاياتالمتحدة تستخدم قوتها القاهرة للقضاء على دول محاور الشر، الأمر الذي ينهي عنف التهديد والارهاب، ويؤسس لبناء نظام عالمي خال من الاضطرابات والصدامات المسلحة. ولكن هذا التفسير المبسط لقدرة اميركا على تغيير الواقع لا ينسجم مع تفكير الأوروبيين الذين عانوا طويلاً من تجارب تغيير الأمم عن طريق الاحتلال. وعليه يرى الرئيس الفرنسي جاك شيراك ان المقياس الصحيح الذي يُحكم بمقتضاه على سلامة العالم يجب اخضاعه لنتائج العمليات العسكرية، في افغانستان والعراق. وفي تصوره ان ما حدث في الرياض والدار البيضاء، وما يحدث حالياً في كابول والمدن العراقية، ليس أكثر من إفراز لأخطاء واشنطن وتخبطها الأعمى في الشرق الأوسط. ويتردد في باريس ان شيراك متخوف من تنامي الحملة السياسية الاميركية ضد ايران، خصوصاً انها تحمل خصائص الحملة التي شنت ضد العراق كتمهيد لضربه. أي انها تتهمها بإيواء عناصر من "القاعدة"، وبتجديد تعاونها النووي مع موسكو، وبتحريض شيعة العراق على اقامة نظام شبيه بنظام الملالي، ومع ان الحوار بين واشنطن وطهران كان قد قطع شوطاً بعيداً في مجال التفاهم، إلا ان الوفد الايراني انسحب فجأة، واتهم الادارة الاميركية بعدم الجدية لكونها طالبت بتقديم تنازلات مخالفة لقيم الثورة. ويخشى الأوروبيون ان يكون صقور البيت الأبيض قد جددوا مطالبتهم بتغيير النظام الثاني في دولة صنفها بوش بين دول محور الشر - أي ايران - مقابل اقتناع شارون بأن المنطقة أصبحت اكثر استعداداً لتقبل المصالحة التاريخية مع اسرائيل. وفي هذا السياق يتطلع ياسر عرفات الى تراجع مفاجئ قد يطرأ على اللقاء الثلاثي في العقبة كأن بوش يريد استجلاء موقف أبو مازن في اجتماع "شرم الشيخ" قبل الإقدام على خطوة ناقصة لا يستطيع تحمل عواقبها. وترى الصحف الفلسطينية ان الرئيس الاميركي يريد استكشاف امكانات القيادة الفلسطينية الجديدة ومدى تأييد الزعماء العرب لموقفها. وهو في هذه الحال سينقل تحفظ شارون حول تشكيكه بقدرة محمود عباس ورفاقه على تسويق قرار التقسيم الاسرائيلي لدى زعماء الانتفاضة الذين رفضوا اتفاق اوسلو، واعلنوا رفضهم لأي اتفاق يكتفي بمساحة 22 في المئة من أرض الضفة الغربية. وعندما يقول أبو مازن انه سيظل وفياً لمبدأ حق العودة، فإن واشنطن تعتبر التوصل الى اتفاق تاريخي غير وارد اذا لم تتغير الحلول المطروحة في شأن مشكلة اللاجئين. يبدأ الرئيس جورج بوش جولته بزيارة بولندا كتعبير عن شكره العميق لإحدى دول "أوروبا الجديدة" التي يرى فيها دعامة لحلف اقتصادي - عسكري قد تخرج منه دول "أوروبا القديمة" مثل فرنسا والمانيا وايطاليا. وواضح من الطريقة السلبية التي تعاملت بها قيادة "البنتاغون" مع المعرض الجوي الفرنسي، ان الدولة الاميركية لا تختلف عن الشعب في حماسها الى مقاطعة المنتجات الفرنسية، بدءاً بالأجبان... مروراً بالنبيذ... وانتهاء بمياه ايفيان وبيريه. ويرى المراقبون ان اختيار بلدة ايفيان لاستضافة قمة الدول الصناعية الثماني الكبرى، كان قراراً هادفاً يُراد من ورائه تجيير الموضوع الأمني الى سويسرا أولاً، واظهار اهمية منتجع ايفيان، ثانياً. ولقد نجحت باريس في هذا الانتقاء بحيث حولت جنيف ولوزان الى ثكنتين عسكريتين يتناوب على حماية الرؤساء فيهما اكثر من 5600 جندي نظامي و3800 شرطي. وبسبب الخوف من عمليات السلب والنهب والتحطيم بواسطة المتظاهرين الذين قدرت الصحف المحلية عددهم بثلاثمئة ألف شخص، انتعشت حركة النجارين الذين غطوا صالات العرض وواجهات المحلات بالألواح الخشبية. حتى ساعة الزهور في جنيف نالت نصيبها من الحماية المكلفة التي دفعت حكومة "بيرن" الى تخصيص اكثر من خمسة ملايين دولار لتنظيم حملة الأمن. وكان واضحاً ان فرنسا تريد تحميل جارتها سويسرا مسؤولية حماية الرؤساء، اضافة الى رغبتها في اشعار الرئيس الاميركي بأن شعب الدولة المحايدة لا يقل معارضة عن الشعب الفرنسي في رفض سياسة العولمة وتجاوز دور الأممالمتحدة. وبما انه من الصعب استبدال زجاجات "ايفيان" في بلدة المنشأ، فإن الرئيس شيراك سيحدث ضيوفه السبعة عن مقاطعة المنتجات الفرنسية في الولاياتالمتحدة بسبب موقفه من لا شرعية الهجوم العسكري على العراق. وخشية ان يسمع بوش عن هذا الموضوع اكثر مما تحتمل أعصابه، قرر اختصار زيارته كتعبير عن استيائه من المشاركة في مؤتمر لا تفيده مناقشاته. من قبيل المجاملة سيضطر جورج بوش الى مشاركة صديقه فلاديمير بوتين في احتفالات المئوية الثالثة لتأسيس مدينة سان بطرسبورغ. وسيكون هذا اللقاء ايضاً مناسبة لاجتماع الرئيس الاميركي بمن لا يحب الاجتماع بهم مثل شيراك وشرودر ورئيس وزراء كندا جان كريتيان. صحيح ان بوتين أيد الرؤساء الثلاثة في معارضة شن الحرب على العراق من دون دعم الاممالمتحدة. ولكن الصحيح انه تميز عن الآخرين بالامتناع عن انتقاد التهور العسكري الاميركي. وهكذا احتفظ بعلاقات طيبة مع بوش الذي وعده بمكافأة اقتصادية ضخمة وبتأييد مطلق في محاربة ثوار الشيشان. وكان من نتيجة هذه الديبلوماسية المتوازنة ان شنت اميركا حملة انتقاد واستياء ضد فرنسا والمانيا، في حين تعاملت مع روسيا بأدب وكياسة. ولقد طور بوتين هذه الديبلوماسية المرنة عندما احتفظ بعلاقات جيدة مع دول لا ترضى عنها اميركا مثل ايران وسورية وكوبا. ولكن علاقته بهذه الدول ظلت خاضعة لمراقبة واشنطن التي سمح لها بأن تحدد له هامش التعاون مع أنظمة يعتبرها جورج بوش مشاغبة. كل هذا بهدف الحصول على عضوية مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، وتوظيف هذا المركز في سبيل التعويض عن الانهيار الاقتصادي الذي حل ببلاده. لهذا قيل ان دوره المصطنع يشبه دور شارل ديغول الذي كان يحرص على المشاركة في مؤتمرات روزفلت وتشرشل وستالين مع ان واقع فرنسا لم ينهض خلال الحرب الى مستوى هذه المهمة. وكما ان الرئيس بوش يسعى الى استثمار نتائج جولته بطريقة تعينه على كسب انتخابات الرئاسة، كذلك يسعى الرئيس بوتين الى استثمار حضور اكبر حشد من زعماء العالم كي يجدد ولايته الثانية، خصوصاً انه أمضى ثلاث سنوات من حكمه في الإعداد لهذه المناسبة على اعتبار ان المدينة التي ولد فيها، تمثل أفضل جسور الانفتاح والتقارب مع أوروبا. وبما انه فشل في تحقيق كل وعوده المتعلقة بإنهاء حرب الشيشان والقضاء على الفساد وتطوير الاقتصاد المتعثر، فإنه يتوقع من الاحتفالات ان تعمي البصائر عن رؤية الحقائق المؤلمة. حدث في قمة كندا السنة الماضية، ان حاول جورج بوش اقناع روسيا والأوروبيين بضرورة استبعاد رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات عن المفاوضات حول تسوية النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي. وهو في هذه المرة متيقن ان "أبو مازن" سيحصل على تأييد زعماء قمة "ايفيان" وزعماء قمة "شرم الشيخ" في حال أُدرجت "خريطة الطريق" على جدول أعمال القمتين. ويبدو ان هناك عناصر اميركية مؤثرة تحاول زرع الشكوك حول امكان نجاح "خريطة الطريق"، الأمر الذي يستفيد منه شارون للتراجع عن التزامات حكومته. ففي هذا الاسبوع نشرت المجلة الملحقة بصحيفة "نيويورك تايمز" تحقيقاً عن وزير مال السلطة الفلسطينية سلام فياض يروي فيه بعض الذكريات عن حصار رام الله. ويقول فياض ان القصف الاسرائيلي المتواصل اضطره لأن ينام في غرفة واحدة مع عرفات وهاني الحسن ونبيل أبو ردينة. وبما ان ياسر عرفات كان مصاباً بالزكام فقد اطفأ المكيف وحرم رفاقه من نعمة النوم الهنيء بسبب الحرارة في الغرفة الضيقة. وعند انبلاج الفجر فتش فياض وأبو ردينة والحسن عن جهاز التحكم بالمكيف فلم يجدوه. واقتنعوا بعد محاولات فاشلة ان عرفات خبأه في مكان يصعب العثور عليه. ويروي الوزير فياض هذه الواقعة لنائب القنصل الاميركي في القدس، مستخلصاً منها الدليل الواقعي على رغبة أبو عمار في التحكم بكل قرار صغير أو كبير، حتى لو كان قرار تشغيل جهاز المكيف! يستفاد من هذه الواقعة التي نشرت خصيصاً في هذا الوقت، ان الولاياتالمتحدة مقتنعة بأن دور عرفات لم ينته بعد، وبأن وريثه أبو مازن لا يملك السلطة المعنوية والعملية لوقف عمليات "حماس" و"الجهاد الاسلامي" و"كتائب شهداء الأقصى". وربما يستخدم شارون هذا الافتراض لاتهام عرفات بأن وجوده في الضفة الغربية أو غزة يؤثر على الوضع الأمني ويمنع حكومة أبو مازن من المصادقة على "خريطة الطريق". والمتوقع في هذه الحال ان يطالب الادارة الاميركية بالموافقة على طرد عرفات واخراجه الى مصر أو تونس. وقد يبرر هذا القرار بالقول انه يخدم التسوية ويسهل السير فوق طريق الخريطة الاميركية. لضمان عدم السقوط في هذه المحاذير كتب مارتن انديك يقول: "ان الرجل الذي اسقط صدام حسين يتوجب عليه اقناع أبو مازن وشارون بضرورة اتخاذ خطوات أولى للخروج من النار القاتلة. وعندما يعمل الرئيس بوش في هذا الاتجاه، يكون قد اعطى الدليل على انه قد تغير وان الدور الاميركي قد تغير ايضاً...". وإلا، فإن القضية الفلسطينية ستظل تراوح مكانها... * كاتب وصحافي لبناني.