أعلن الرئيس الاميركي جورج بوش هذا الاسبوع، انتهاء المعارك الكبرى في العراق. وأرسل وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الى المنطقة في مهمة متعددة الاهداف باعتباره المنتصر الاول في عملية اسقاط نظام صدام حسين. واعترف رامسفيلد أمام الضباط بأن زيارته الحالية لبغداد تختلف في طبيعتها عن زيارته السابقة سنة 1983، يوم كلّفه الرئيس رونالد ريغان حمل رسالة تأييد للرئيس العراقي يمتدحه فيها بسبب تصدّيه للثورة الخمينية. وتمنى للجنرال جاي غارنر، قائد الادارة المدنية، نجاحاً أفضل من النجاح الذي حققه الرئيس حميد كارزاي في افغانستان. وكان رامسفيلد بهذا التلميح يشير الى المعالجات الخاطئة التي استخدمتها واشنطن من اجل تأسيس نظام متقدم ينسي الأفغان مساوئ نظام "طالبان". وفي تصوره ان تدخّل ممثلي الاتحاد الاوروبي والاممالمتحدة أدى الى تعثّر محاولات البناء بحيث اصبح الرئيس كارزاي مجرد محافظ للعاصمة كابول. ولكي لا يتحوّل العراق الى نسخة مكرّرة عن افغانستان اي مناطق مقسّمة يحكمها زعماء القبائل طرح وزير الدفاع الاميركي فكرة تمديد مرحلة الاحتلال ومنع كل القوى الخارجية من التدخل. ويبدو ان فكرة تمديد فترة الاحتلال استهلكت وقتاً طويلاً من النقاش قبل ان يطلب الرئيس بوش من وزير الدفاع ووزير الخارجية كولن باول التوجه الى الشرق الاوسط. والسبب ان رجال الادارة اختلفوا على اسلوب التعامل مع مرحلة ما بعد صدام، الامر الذي أثار مخاوف الكونغرس من احتمال تنامي موجة الفوضى والتشرذم السياسي. ذلك ان المتطرفين - من امثال رامسفيلد وديك تشيني وبول ولفوفيتز ودوغلاس فايث وريتشارد بيرل يؤمنون بأهمية جني مكاسب الحرب والتورط اكثر فأكثر في رسم مستقبل العراق. وحجّتهم ان الانسحاب العسكري السريع قد يحول دون انشاء نظام عراقي موال لواشنطن يمكن ان يتحوّل الى قدوة للدول المجاورة. في حين يرى فريق آخر بقيادة وزير الخارجية كولن باول، انه من الضروري إشراك الاممالمتحدة في عملية البناء والإعمار قبل ان يتغيّر المزاج الشعبي ويصبح طرد الاميركيين مطلباً وطنياً. خصوصاً بعد المواجهات التي حصلت في "الفلوجة" وحوّلت التيار المعادي للاحتلال الى كتلة عريضة يمكن ان يستغّلها البعثيون لتوسيع حجم الرفض. يقول رئيس وزراء بريطانيا توني بلير ان تغيير النظام ليس هدفاً بحدّ ذاته، وانما هو وسيلة لبناء نظام ديموقراطي مستقر لا يمثّل تهديداً لجيرانه. ولكي يضمن تحقيق هذا التصور، طرح بلير فكرة تحويل الاتحاد الاوروبي الى شريك في تأسيس العراق الجديد بدلاً من معاملته كمنافس ومعارض. وهو يميل الى سحب قواته في أقرب فرصة ممكنة، شرط ان تتولى الاممالمتحدة الإشراف على حل المشاكل الانسانية. ولقد هيّأ هذا التوجه السياسي الى اجتماع عُقد في لندن تحت شعار "حفظ الأمن في العراق" بحضور ممثلي 12 دولة. وواضح من مظاهر الاهتمام التي أبدتها بريطانيا نحو تشكيل قيادة متعددة الجنسيات، ان هناك رغبة ملحة في رفض التفرّد برسم مستقبل العراق. وهذا ما سمعه بلير من الرئيس الروسي بوتين الذي طلب إسقاط دور "سلطات الاحتلال" ومنح الاممالمتحدة دوراً اكبر للإشراف على تطبيق برنامج "النفط من أجل الغذاء". وتؤكد الصحف البريطانية ان لهجة التشدّد التي قوبل بها توني بلير في موسكو، تعكس الى حدّ كبير، عمق الهوة التي تفصل موقف الولايات المتحدة عن مواقف الدول الاخرى. كما تؤكد ايضاً ان لكل فريق روزنامة خاصة يسعى الى تحقيقها بوسائل مختلفة. فالروزنامة الاوروبية التي وضعت سنة 1989 تدعو الى خلق نظام عالمي جديد يحول دون وجود أسباب للحروب بين الدول… ودون انتاج ايديولوجيات عدائية كالشيوعية والنازية. وترى الدول الاوروبية ان توفير الاستقرار يعتمد على مدى قبول المشاركة في السيادة بحيث يتم بناء فيديرالية جامعة تضم كل الدول الواقعة غرب آسيا وأوكرانيا. بالمقابل فإن الروزنامة الاميركية مقيّدة بتحفظّات أملتها أحداث 11 ايلول سبتمبر وما نتج عنها من مواقف صارمة. وهي ترى ان الاولويات ستظل محصورة في مقاومة الارهاب ومنع انتشار اسلحة الدمار الشامل. وهذا ما يفسر الحملة السياسية ضد سورية وايران و"حزب الله" و"حماس" و"الجهاد الاسلامي". كما يفسّر حرص الولايات المتحدة على ممارسة اسلوب الهيمنة ورفض كل موقف لا يقرّ بصوابية موقفها. ولقد قادت هذه النظرة المتحجّرة الى ولادة تكتل اوروبي معارض دعت الى إنشائه اربع دول هي: فرنساوالمانيا وبلجيكا ولوكسمبورغ. وفي قمة مصغّرة عُقدت في بروكسيل هذا الاسبوع اتفق رؤساء الدول المؤسسة للحلف الاطلسي على ضرورة تشكيل قيادة اوروبية مستقلة تعمل على تشكيل قوة للتدخل السريع. ومع ان جاك شيراك لا يعتبر القيادة الجديدة منفصلة عن التزامات وثيقة الحلف الاطلسي، الا ان حصر عملية الانضمام بالدول الاوروبية وحدهما يدل على ان قوة التدخل ستكون مستقلة في مهماتها الامنية والدفاعية. وهذا ما أثار انتقادات الصحف الاميركية التي اعتبرت ان واشنطن تعارض ازدواجية آليات التخطيط والقيادة المركزية. ويرى الوزير كولن باول ان الموافقة على هذه الاقتراحات في القمة الاوروبية المقبلة حزيران - يونيو سيدشن ولادة قوتين متنافستين داخل حلف شمال الاطلسي. وربما تمثّل هذه الازدواجية إحراجاً كبيراً لتوني بلير الذي وعد الشعب البريطاني بالانضمام سنة 2004 الى الاتحاد الاوروبي. ويرى المراقبون في واشنطن ان صقور الادارة سيعملون على شق صفوف دول الحلف بطريقة تعزل فرنساوالمانيا. وفي حديث نشرته صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية قال نائب وزير الدفاع الاميركي بول ولفوفيتز، "انه على فرنسا ان تدفع ثمن معارضتها للحرب، وان تصرفها كان مشيناً جداً بالنسبة للحلف الاطلسي" وختم حديثه بعبارة تهديد مفادها "انه يجب على فرنسا تحمّل نتائج موقفها، ليس معنا فقط وانما مع الدول الاخرى التي تفكّر مثلنا". ويستنتج من هذا التهويل ان شرخاً كبيراً قد باعد بين الولايات المتحدة وحليفاتها الاوروبيات، وان الخلاف قد يأخذ شكل الانتقام والخصومة على مختلف الاصعدة السياسية والاقتصادية والامنية والسياحية. قبل الهجوم على العراق، اعلنت الرياض انها لن تشارك في الحرب، ولن تسمح للقوات الاميركية باستخدام الاراضي السعودية في الحرب. وكرّرت القيادة الاميركية التزامها بهذا الشرط مؤكدة تفهّمها للموقف السعودي المعارض لأي تدخّل عسكري لا يراعي قرارات مجلس الامن واتفاقات جنيف. وعندما زار الوزير رامسفيلد الرياض يوم الثلثاء الماضي اعلن في مؤتمر صحافي مشترك عقده مع النائب الثاني وزير الدفاع والطيران الأمير سلطان بن عبدالعزيز، عن التوصل الى تفاهم ينهي الوجود العسكري الاميركي في الاراضي السعودية. وبرّر الوزير الاميركي هذا القرار بالقول ان الحاجة الأمنية قد انتفت اثر انهيار النظام العراقي ووقف التهديد. وكان بهذا الكلام يعلّق على خبر سابق نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" ادّعت فيه ان المملكة قررت وقف التعاون العسكري مع الولايات المتحدة. وقال رامسفيلد ايضاً ان تحرير العراق بدّل الظروف في المنطقة كما بدّل الاجواء الامنية فيها. وبناء على المعطيات الجديدة قررت واشنطنوالرياض إنهاء الوجود العسكري الاميركي في السعودية بعد انقضاء فترة 12 سنة تقريباً. وأكد الأمير سلطان ان الدولتين اتفقتا على انتفاء الحاجة لبقاء هذه القوات، وان مغادرتها قبل الصيف جاء نتيجة تفاهم مشترك. الوزير رامسفيلد اعلن ايضاً ان تغيير القواعد العسكرية يخضع عادة لاستراتيجية كاملة، وان القوات الموجودة في السعودية ستنتقل الى قاعدة "العديد" في قطر. وهي القاعدة التي سمحت قطر بإنشائها قبل شن الحرب على نظام "طالبان" في افغانستان، ورفض السعودية استخدام مطاراتها الحربية لانطلاق الطائرات الاميركية. ولقد جرى تطوير قاعدة "العديد" منذ سنة 1994 بطريقة تسمح للطائرات الحربية باستخدام مدارج يبلغ طول واحدها أربعة أميال. كما تقرر تحويلها الى قاعدة مركزية تتسع لأكثر من مئة ألف جندي على اعتبار انها ستضم طائرات المراقبة ووحدات الهندسة الخاصة بمنطقة تعرف ب"NESA" أي الشرق الأدنى وجنوب شرقي آسيا. وهي المنطقة التي تغطي ايرانوافغانستان وباكستان، وصولاً الى القاعدة الاميركية الجديدة في جورجيا. وتتميز قاعدة "العديد" بموقعها وسط الصحراء وبانفصالها عن كل الأماكن المأهولة بالسكان. ويقول العسكريون الاميركيون انها ستخضع للتوسع خلال هذا العام لكي تكون مهيأة لاستقبال قوة اضافية من القواعد الموجودة في المانيا. ويبدو ان التغييرات في مواقع القواعد العسكرية الاميركية بدأت تتأثر بالتغييرات السياسية التي فرضها خلاف أوروبا مع واشنطن. لذلك قرر الرئيس بوش مكافأة بولندا على موقفها المعارض لفرنساوالمانيا في شأن العراق. والمكافأة كانت عبارة عن اعلان نقل 120 ألف جندي وطيار من المانيا الى بولندا خلال فترة لا تتعدى السنة الواحدة. يقول وزير الدفاع رامسفيلد ان الاستراتيجية الاميركية الجديدة ستعتمد على مبدأ "زيادة الأسلحة المتطورة وخفض عدد الجنود". وهو يعترف بأن لمنطقة الخليج أهمية خاصة كونها تحتوي على أضخم مخزون للنفط. لذلك اضطرت الولايات المتحدة بعد سقوط نظام جعفر النميري في السودان الى نقل قاعدتها الى جزيرة "مصيرة"، التي أمّنت لها موقعاً متقدماً لمراقبة بلدان شرق افريقيا والمحيط الهندي ومضيق "هرمز". ويتوقع الاميركيون ان تطالب الحكومة الكويتية بإخلاء معسكر منطقة "الدوحة" في حال استقر النظام الجديد في العراق، واضمحلت دوافع التهديد. وكان الشيخ علي صباح السالم وزير الدفاع الكويتي الأسبق، قد وقع اتفاقاً ثنائياً مع وزير الدفاع الاميركي ديك تشيني، يظل ساري المفعول الى حين انتفاء الأسباب الموجبة. ولقد خلا مخيم "الدوحة" بعد تحرير الكويت، من الجنود الا في حالات استثنائية تفرضها المناورات المشتركة. بقي الحديث عن زيارة وزير الخارجية كولن باول لسورية ولبنان، قبل القيام بزيارة خاصة لاسرائيل بعد اسبوع تقريباً، ويمكن حصر مهمته باجراءات التغيير التي تطالب بها الإدارة الاميركية كامتداد سياسي لاجراءات التغيير بالقوة في العراق. ولقد سارعت دمشق الى وضع بعض المساحيق والألوان على وجه الحكومة اللبنانية السابقة بحيث بدت كخروف بدل لون جلده فقط. والهدف من هذا التشويه المتعمد اظهار الرفض لمبدأ المطالبة بالتغيير على اساس ان جميع الوجوه اللبنانية متجانسة ومتشابهة ومتماثلة، مارونية كانت أم سنية أم شيعية أم ارثوذكسية أم درزية. والمؤسف ان لبنان استعد لمواجهة كولن باول بالأسلوب ذاته الذي واجه به وزير الخارجية الاميركي السابق وارن كريستوفر. أي بالإدعاء ان لبنان لن يغير نهجه لأنه دائماً على حق، ولأن المتغيرات الاقليمية لن تؤثر على تماسك وضعه الداخلي. ولكن باول يعرف هذه الحقائق، ويعرف ان التطورات في العراق دفعت "خريطة الطريق" الى رأس جدول الاعمال الاميركي. وبما ان شارون يفضل تأجيل تنفيذ هذا المشروع الى ما بعد قيام حكومة عراقية متعاونة مع اسرائيل، فإن الانتشار العسكري في الضفة وغزة سيبقى الرد العملي على هجمات الانتحاريين. وفي حال ازدياد الضغوط السياسية، فإن شارون يحب ان يثبت لصديقه الجنرال جاي غارنر انه هو ايضاً يملك خطة عسكرية جاهزة لتدمير كل البنى التحتية في سورية ولبنان! * كاتب وصحافي لبناني.