الاعتقاد الذي ساد طوال ولايتي الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون لم تنغّصه الشكوك بحتمية طور ونمو نظام العولمة باعتبارها آلية ناجزة ستمضي قدماً في فتح الحدود ورفع الحواجز وتخفيض النزاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الرئيسية حول العالم، إذ أن المصالح التي ستتشابك وتتقاطع ستكون اكبر من ان يغامر أي طرف بخسارتها. إلا ان أحداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر اسقطت فجأة الفكرة الرومانسية عن العالم الحر الخالي من كافة أنواع الحدود ودفعتها للاحتجاب خلف ستار سميك من العوازل الوقائية التي انبنت بسرعة خيالية، بهدف حماية الولاياتالمتحدة من التهديدات العسكرية والاقتصادية المماثلة لحادث الحادي عشر من ايلول. وإذا كان سعي ادارة الرئيس الاميركي جورج بوش لمزيد من الانعزال سابقاً على أحداث ايلول، كما تدلنا الدعوات المبكرة للانسحاب من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية الموقعة مع الاتحاد السوفياتي عام 1972، فإن هذا التوجه وجد له في اعتداءات ايلول فرصة لتعميم المذهب اللاتكاملي على بقية المساحات في العلاقات الدولية، والتي كان آخرها الحرب على العراق. ولم ينج الاقتصاد من هذا السياق اللاتكاملي، اذ بدت ادارة الرئيس الاميركي اكثر انسجاماً مع الاتجاه الانعزالي المضاد لكل مفاعيل العولمة الاقتصادية. فقد زادت الادارة من القيود على حركة السياحة والمهاجرين ومعاملات التجارة الدولية، كما ضاعفت من المنح الحكومية للقطاع الزراعي بالإضافة الى صرامتها في انتهاج سياسات حمائية لصالح صناعة الصلب التي فجرت على ضفتي الاطلسي من الخلافات ما يقف اليوم عائقاً أمام أي تطور في مناقشات جولة الدوحة ويهدد العقد التجاري الدولي برمته. وبذهاب الإدارة الاميركية هذا المذهب الانعزالي فإنها تغذي بذلك صعوداً مشوهاً للوطنية الاميركية يرى في الحد الأدنى من تباين المصالح مع الآخرين سبباً للشقاق والفراق، على مثال الدرب الذي تسلكه العلاقات الأوروبية - الاميركية والذي تختصره الدراسات الصادرة عن أكثر مراكز البحوث اتصالاً بالإدارة الاميركية. فالصور التي اظهرت الاميركيين يسكبون المياه والنبيذ الفرنسيين في المراحيض، بالإضافة الى تصويت الكونغرس على حرمان "أعداء الحرب" من حصص اعادة اعمار العراق معطوفاً على التلويح بالعقوبات التجارية، تقدم نموذجاً على المستوى الذي من الممكن ان ينحدر اليه الشعور الوطني المتولد تحت وطأة الشعور بالاستهداف الذي يعزف عليه المحافظون الجدد في الادارة الاميركية. فهذا الضرب من الوطنية الموتورة يقدم التنافس على مثال الصراع والاحتراب ويوثّق مفاعيله بالضدية على نحو يغلّب احتمالات النزاع على غيرها من الاحتمالات، لا سيما وان الخطاب الاميركي ينهض على شعار "واشنطن أولاً" وبأي ثمن. الجواب الأسرع على "واشنطن أولاً" تنطحت له بيونغ يانغ بإعلانها إعادة تشغيل مفاعلها النووي خلافاً لاتفاق الإطار الموقع عام 1994، على قاعدة تفيد ان القوة هي اللغة الوحيدة التي تفهمها الولاياتالمتحدة. "ايران أولاً" تنضج على نار تحرق كل آليات التحول نحو الاعتدال وتعيد التمركز حول المقولات الخمينية على نحو يطيح ما انجزته التجربة الخاتمية. واذ تبدو "أوروبا القديمة" اكثر تريثاً في توضيب ردها في هذا الخصوص فإن مضي الولاياتالمتحدة قدماً في هذا الاتجاه لن يؤخر احياء قطبية جديدة تنهض على انقسام صراعي يرجح احتمالات الحرب على غيرها. هكذا يجد العالم نفسه مدفوعاً باتجاه ضد-عولمي، أو مضاد للعولمة، يربك السياقات العالمية التي تبلورت خلال العقد ونصف العقد الماضيين ويعيد النفخ في القصبة القومية على نحو بالغ النشاز. أما عربياً فإن العلاقة الجدلية بين أحداث الحادي عشر من ايلول و"مسوغاتها" من جهة وتحولات العلاقات الاميركية - العربية من جهة اخرى، تعيد أحياء كل العفن القومي في الداخل على نحو ينصب صدام حسين بطلاً لا يشق له غبار... بينما يردد الشارع نقلاً عن قيادته: "هذه اميركا... ألم نقل لكم".