عشرة أعوام مضت على تفجيرات الحادي عشر من أيلول سبتمبر، التي استهدفت مركز التجارة الدولية في نيويورك، ومبنى وزار الدفاع الأميركية (البنتاغون) في واشنطن. لقد دفعت هذه الأحداث باتجاه إعادة صوغ الكثير من خيارات الولاياتالمتحدة، محلياً وخارجياً. وأعادت، في الوقت ذاته، تشكيل صورة العلاقات الدولية، أو لنقل بيئة النظام الدولي. وربما تكون الصورة الخارجية للولايات المتحدة قد تغيّرت كثيراً عما كانت عليه قبل عشرة أعوام، إلا أن هذا التغيير ظل محسوباً ومسيطراً عليه. بل ومقصوداً في الكثير من جوانبه. وعلى المستوى الدولي، هناك العديد من المناطق والدول التي تأثرت بتطورات الحادي عشر من أيلول سبتمبر. بيد أن العالم الإسلامي كان في طليعة المعنيين بهذا الحدث، بالمعايير السياسية والأمنية. كما في السياق القيمي العام. وبموازاة تداعياته المباشرة، كان للحدث عواقب استراتيجية بعيدة المدى، عكست نفسها على طيف واسع من قضايا السياسة الدولية. وتبقى تطورات الحادي عشر من أيلول سبتمبر حدثاً مستمراً، بمعيار العواقب والتداعيات. ولعل هذا هو البُعد الأهم في تاريخيته. المتغيّرات التابعة لأحداث 11 سبتمبر بدت بحد ذاتها بمثابة أحداث كبرى، رمت بإسقاطاتها وتداعياتها على طيف واسع من القضايا الأمنية والسياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي، وما هو أبعد منه.. لقد رأى البعض في تطورات الحادي عشر من أيلول سبتمبر حدثاً تاريخياً، يوازي في تاريخيته سقوط جدار برلين عام 1989، وهو الحدث الذي كان إيداناً بانتهاء عصر الحرب الباردة. في المقابل، قال البعض الآخر إن أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر لا ترقى، على صعيد بُعدها التاريخي، إلى حدث سقوط جدار برلين، لكون هذا الأخير قد أسس لعصر جديد، مختلف كلياً عما سبقه. وذلك بمعيار تفاعلات النظام الدولي، وصورة العلاقات الدولية، وموازين القوى العالمية. بل ومفاهيم القوة ذاتها. وفي الحقيقة، ان كلا القولين يُعد صحيحاً. والفرق هو في ماهية المضامين المكونة، أو المؤسسة، لتاريخية الحدث، بالتوصيف النظامي للمصطلح. كان شكل ومضمون العلاقات الدولية هو المعني الأساسي بتداعيات سقوط جدار برلين. وقد اندمج هذا المتغيّر الاستراتيجي بمتغيّر قيمي هو العولمة، ليصوغا معاً ملامح عالمنا الراهن. في المقابل، جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر لتعيد توجيه عالم ما بعد الحرب الباردة، مستنهضة شكلاً جديداً من الهموم الأمنية. ودافعة، في الوقت ذاته، باتجاه موجة جديدة من التقاطب الأيديولوجي. كذلك، كان لأحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر عواقب قيمية الطابع، ترتبط بقضايا التعايش والاندماج الحضاري. وبالطبع، كان هذا البُعد حاضراً أيضاً في منظومة التداعيات الناجمة عن سقوط جدار برلين، لكن مضمونه اليوم مختلف عما كان عليه يومذاك. لقد كان هذا المضمون موجباً في الحالة الأولى وسالباً في الثانية. بعد الحادي عشر من أيلول سبتمبر، بات العالم أمام شبح توترات دينية، أو بالأصح توترات ذات منشأ ديني، كان من نتائجها سيادة الشعور العام بضرورة الفهم المتبادل، على مستوى الديانات المختلفة. وربما تحقق بعض من هذا الأمر في السنوات العشر الماضية. وأياً يكن الأمر، فقد شهد العالم بعد الحادي عشر من أيلول سبتمبر موجة ثانية من التحوّلات السياسية والأمنية، التاريخية الطابع. وذلك بعد موجة التحوّلات التي أعقبت سقوط جدار برلين، وانتهاء الحرب الباردة، وزوال الثنائية القطبية. وقد حدث كل ذلك بالتوازي مع تعاظم آليات التأثير على المنظومات الثقافية للشعوب المختلفة. تلك الآليات التي تجسدت، بصفة خاصة، في ثورة الاتصالات، وسيادة مفهوم القرية الكونية. على صعيد العالم الإسلامي، على وجه خاص، يُمكن رصد ثلاثة أشكال من التداعيات بعيدة المدى لأحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر: أمنياً وسياسياً وثقافياً. على المستوى الأمني، قادت أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر إلى حرب أفغانستان، التي لا تزال مستمرة. كذلك، قادت هذه الأحداث، على نحو غير مباشر، إلى حرب العراق، أو حرب الخليج الثالثة. وأسست هذه الأحداث، من جهة ثالثة، لمرحلة العنف الدموي، الذي ضرب عدداً من الدول الإسلامية. وما برح ماكثاً في البعض منها، مثل باكستان واليمن. وبررت أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر، من جهة رابعة، للخيارات التسلطية في عدد من دول العالم الإسلامي، كما هو الحال في دول آسيا الوسطى، على سبيل المثال. كانت هذه النتائج متغيرات تابعة للمتغيّر الرئيسي، ممثلاً بأحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه المتغيّرات التابعة بدت بحد ذاتها بمثابة أحداث كبرى، رمت بإسقاطاتها وتداعياتها، على طيف واسع من القضايا، الأمنية والسياسية والاجتماعية، في العالم الإسلامي، وما هو أبعد منه. على صعيد الانعكاسات السياسية لأحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر على العالم الإسلامي، يُمكن القول إن هذه الأحداث قد دفعت باتجاه إعادة صوغ جملة من تحالفات هذه الدول، إقليمياً ودولياً. إقليمياً، يُمكن القول ان أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر قد أحدثت نوعاً من الفرز الأيديولوجي، المصحوب بتقاطب سياسي حاد، داخل الساحتين العربية والإسلامية. في هذا الفرز والتقاطب، تعمقت مستويات التموضع التقليدي للقوى المختلفة، وتعزز بُعدها الإيديولوجي، وتكاثرت محفزاته. وكانت حربا أفغانستان والعراق كفيلتين بإحداث هذا القدر الواسع من الفرز، فضلاً عن المضامين المباشرة لأحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر ذاتها. في حرب أفغانستان، انقسمت الدول الإسلامية على نفسها، على الرغم من أن العديد منها قد أخذ بخيار دعم هذه الحرب، أو حتى المشاركة المباشرة فيها. وكانت هناك جملة من الدول الإسلامية، التي بدت أكثر ارتباطاً بالحدث الأفغاني في مساره الجديد. وهذه الدول هي: باكستان والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى وإيران. وقد تباينت مواقف هذه الدول على نحو ملحوظ من الحرب، بل بدت متناقضة في بعض حالاتها. وعلى الرغم من ذلك، لم تعكس هذه الحرب نفسها في صورة تقاطب مباشر بين الدول المذكورة، وذلك بسبب تداخل مصالحها، وترابطها الجغرافي والاجتماعي الوثيق. بيد أن فرزاً سياسياً، بقدر ما، أمكن ملاحظته منذ البدء على خلفية الحدث الأفغاني. وربما أمكن القول أيضاً إن الفرز قد بدا أكثر وضوحاً في السياق الإسلامي العام، أو الكلي. فيما يرتبط بحرب العراق، يُمكن القول إن هذه الحرب قد كشفت حجم التقاطب الأيديولوجي، السائد في الساحتين العربية والإسلامية، أكثر مما أسست له. على صعيد تداعيات أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر على التحالفات الدولية للبلدان الإسلامية، يُمكن القول، بصفة خصة، إن التقاطب الدولي حيال حربي أفغانستان والعراق قد عكس نفسه، بمستويات متفاوتة، على هذه الدول وخياراتها الخارجية. ويتصل هذا الأمر، في سياق أكثر وضوحاً، بالجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، التي وجدت نفسها بين خيارين: الخيار الداعم للحرب، بقيادة حلف شمال الأطلسي (الناتو). والخيار المعارض لها، أو المتحفظ عليها، والذي تقدمته روسيا والصين. وكانت المفاضلة بين الاتجاهين أمراً صعباً، بل بدت مستحيلة، بمعنى من المعاني. وعلى الرغم من ذلك، يُمكن القول إن إحدى نتائج الحرب في أفغانستان قد تجسدت في تحقيق اقتراب، تاريخي الطابع، بين الولاياتالمتحدة والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى. بالنسبة لباكستان، التي تعززت علاقاتها بالحليف الأميركي، دفعت الحرب الأفغانية الجديدة باتجاه تعاظم مكانتها في الجيوبوليتيك الدولي عامة، الأمر الذي أدى إلى مزيد من الاقتراب الصيني حيالها. كما سعى الروس، في السنوات الأخيرة، لفتح ثغرة في جدار العلاقة معها، على الرغم من تحالفهم التقليدي الوثيق مع الهند. على صعيد حرب العراق، يُمكن القول إن هذه الحرب قد عززت من الخيارات الدولية القائمة في الأصل لدى الدول الإسلامية، سيما الشرق أوسطية منها. ويبقى البُعد الإقليمي لتداعيات حرب العراق هو الأكثر مغزى. على مستوى التداعيات الثقافية لأحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر على الساحة الإسلامية، يُمكن القول إن هذه الأحداث قد دفعت باتجاه البحث عن الجذور الأولى لثقافة الغلو والتطرف، وماهية العواقب الوخيمة التي قد تجلبها للمجتمعات المختلفة. وربما تكون الدول الإسلامية، أو بعضها، قد نجح في استخلاص الدروس والعبر، إلا أن مقاربات الحل لا تبدو حتى اليوم على درجة كافية من الوضوح. ولذلك استمر الغلو، واستمرت عواقبه المدمرة، تضرب الأمة ومصالحها، في أكثر من بلد إسلامي. ولا ريب بأن هناك اليوم الكثير من الدراسات، داخل العالم الإسلامي وخارجه، التي تناولت وحللت ظاهرة الغلو والتطرف، وبحثت في جذورها والعوامل المحفزة لها. بيد أن المطلوب هو الانتقال من الأفكار إلى السياسات. وعلى الرغم مما سبق قوله، لا يجوز لأحد التذرع بظاهرة غلو أو تطرف هنا أو هناك، ليتخذ منها مبرراً للإساءة للإسلام الحنيف. وما يُمكن قوله، على نحو مجمل، هو أن العالم الإسلامي كان ولايزال في طليعة المعنيين بتداعيات أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر. إن علينا كمسلمين أن نسعى لنشر ثقافة التعايش والتسامح، واحترام الآخر، وعدم النظر إليه من زاوية اختلافه وتمايزه. ومتى فعلنا ذلك، فإننا نكون قد قدمنا نموذجاً مشرقاً لديننا الحنيف، الذي جعله الله ديناً قيماً وسطاً.