تشهد العلاقات السورية - الأميركية مرحلة من شد الحبال، تدفع إلى السؤال عما الذي يدفع واشنطن إلى النظر إلى دمشق بعين الرضى حيناً والسخط أحياناً. والحقيقة المعروفة أن الولاياتالمتحدة لا تكن لسورية كبير ود، لكنها تحتاج إليها ما دامت تبدي أي نوع من التعاون وإن كان مشوباً بالحذر، ما يسم العلاقة بينهما بغموض تغذيه تصريحات بعض المسؤولين السوريين التي لا تتعدى الشعارات السياسية فيما الواقع يراوح بين مد الثوابت السياسية وجزر المتغيرات الدولية، فكثيراً ما تبدو الشعارات متشنجة فيما تكون العلاقة حسنة وإن شابتها منغصات من آن لآخر. ويطرح التصعيد الأميركي الأخير تجاه سورية علامات استفهام كثيرة. وأدرجت زيارة وزير الخارجية السوري كولن بول لدمشق في إطار التأكيد أن عالم ما بعد صدام غير ما قبله، وأن الولاياتالمتحدة دخلت العراق لترتيب البيت الشرق الأوسطي برمته، وأن التعاون السابق لم يعد كافياً فيما ضاق هامش المناورة وسقط الحوار لتحل محله سلسلة مطالب تبدأ بمكافحة الإرهاب ولا تنتهي بالمطالبة بالتخلص من أسلحة الدمار الشامل، تحت التلويح بإجراءات عقابية كتفعيل مشروع "قانون محاسبة سورية". ويعكس خفوت اللهجة الهجومية الأميركية ضد دمشق استجابة سورية لبعض مطالب واشنطن، خصوصاً في ما يتعلق بضمان استقرار العراق والموافقة على "خريطة الطريق" الفلسطينية. والعلاقة بين سورية والولاياتالمتحدة متناقضة وغير واضحة المعالم ومعقدة. فمنذ نشأته أعلن حزب البعث في سورية عداءه للإمبريالية الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، ولا تزال أدبيات الحزب زاخرة بذلك. وعقب تسلم حزب البعث السلطة في سورية بدأت وسائل الإعلام السورية تهاجم السياسة الأميركية. ولكن منذ تقلد الرئيس الراحل حافظ الأسد السلطة عام 1970 حاول تحسين العلاقات مع واشنطن وانتهج سياسة انفتاحية على الغرب. وعقب حرب تشرين الأول أكتوبر 1973 وافق الرئيس الراحل على بدء مفاوضات سورية - إسرائيلية برعاية أميركية انتهت باتفاق فك الاشتباك مع القوات الإسرائيلية، ومذذاك بقيت الحدود السورية - الإسرائيلية أكثر الجبهات هدوءاً. وأثبتت العقود الماضية أن هناك أرضية واسعة لالتقاء المصالح السورية - الأميركية، فالحركة التصحيحية التي قادها الرئيس الأسد قضت على الجناح اليساري المتشدد في حزب البعث الذي كانت تربطه بالحركة الشيوعية العالمية علاقات وثيقة، وفتحت آفاقاً جديدة لعودة العلاقات الرأس مالية تحت هيمنة السلطة الحاكمة، وبالتالي أدت إلى ظهور طبقة رأس مالية جديدة، وشجعت الاستثمارات الأجنبية وفي طليعتها النفط. وتجدر الإشارة هنا إلى أن "شركة النفط السورية" التي تشكل مصدراً ل50 في المئة من عائدات العملة الصعبة يهيمن عليها رأس المال الأميركي. ويزخر تاريخ العلاقات الثنائية بمحطات تعاون كثيرة بدءاً من دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976 بحجة حماية الأقلية المارونية من القوى اليسارية اللبنانية المتحالفة مع حركة "فتح" ما أثار ارتياح الأوساط الأميركية، مروراً بالمجابهة العسكرية مع ياسر عرفات والمشاركة في إطلاق الرهائن الغربيين الذين احتجزوا في لبنان خلال الحرب الأهلية وانضمام سورية البعث إلى التحالف الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة لإخراج القوات العراقية من الكويت والموافقة على مؤتمر مدريد عام 1990 ما فتح الباب أمام بقية الأطراف العربية للدخول في مفاوضات مع إسرائيل أدت إلى اتفاقات وادي عربة وأوسلو. كما دخلت سورية في مفاوضات مع إسرائيل تحت رعاية أميركية في مدينة واي بلانتيشين الأميركية وكانت على وشك الوصول إلى تسوية، وساعدت الولاياتالمتحدة في حربها ضد الإرهاب، ووافقت عشية الحرب الأخيرة ضد العراق على القرار الأميركي 1441 في مجلس الأمن. وشهد العقد الماضي تغيراً كبيراً في لهجة دمشق الإعلامية المعادية لواشنطن ولم تعد دولة البعث في سورية أسيرة شعاراتها وإن لم تتخلَ عنها، فاختفت الشعارات المعادية للولايات المتحدة من الملصقات الجدارية واكتفت بمطالبتها بأن تكون منصفة في الصراع العربي - الإسرائيلي. وعلى رغم أن محاولات دمشق للتفريق بين الإرهاب والمقاومة لم تلقَ آذاناً صاغية في الإدارة الأميركية، حاولت سورية إرضاء الولاياتالمتحدة عبر تقديم معلومات عن تنظيمات إسلامية وفتحت الملفات السورية للأميركيين وقدمت خبراتها في صراعها مع الجماعات الإسلامية. وأكد المسؤولون السوريون أنهم أول من أعلن الحرب على التطرف الإسلامي والقضاء عليه في منتصف الثمانينات عندما انتهت الصراعات الدامية بين السلطة و"الأخوان المسلمين" بين عامي 1976 و1982 بإصدار قانون يعتبر الجماعة غير شرعية. وعلى رغم تثمين الإدارة الأميركية للتعاون الأمني السوري الذي أدى إلى إنقاذ حياة أميركيين، إلا أن ما يعكر صفو العلاقات بين البلدين منذ عقدين تقريباً العلاقة الاستراتيجية السورية - الإيرانية وتأييد دمشق ل"حزب الله" في لبنان وتمركز بعض المنظمات الفلسطينية المعارضة للتسوية في دمشق. وفي الواقع ليس هناك ما يفصل السياستين السورية والأميركية سوى التأييد الأميركي غير المحدود لإسرائيل على حساب سورية والعرب. وعلى رغم ذلك، لا يخفى التوجه السوري الانفتاحي على الولاياتالمتحدة، إذ شهدت السنة الماضية لقاءات بين شخصيات رسمية وثقافية في كل من دمشق وهيوستن برعاية مؤسسة السفير الأميركي السابق إدوارد دجيرجيان والخارجية الأميركية. والسؤال: ما الذي تريده الإدارة الأميركية من سورية؟ لا شك في أن صقور الإدارة يريدون استغلال نجاحهم العسكري في العراق لتحقيق أهداف عدة أهمها تمرير تسوية فلسطينية - إسرائيلية وإعادة تشكيل شرق أوسط جديد خال من أفكار الوحدة العربية والإسلامية تلعب فيه إسرائيل دوراً محورياً. وتهدف الضغوط الأميركية إلى إحداث تغيير في السياسة الخارجية السورية من جهة وترك الساحة لواشنطن لإدارة العراق كما تشاء، إذ تدرك الولاياتالمتحدة أن حكم العراق أول مستعمرة أميركية خارج حديقتها الخلفية في أميركا الجنوبية ليست سهلة وأنها قد تكون على أبواب أزمة سياسية، لذلك تريد من دمشق موقفاً يتعدى الحياد إلى تعاون استراتيجي يرقى إلى مستوى حلف بغداد أو معاهدة "السانتو" في الخمسينات من العقد الماضي. فلسورية دور مهم تستطيع أن تلعبه ليس نتيجة الحدود المشتركة مع العراق فحسب، بل بسبب التداخل والتفاعل والتأثير الواسع في البيئة الشعبية والاجتماعية والعقائدية السورية - العراقية. أما في ما يتعلق بالشأن الداخلي السوري فيعتقد الأميركيون أن حكم الرئيس بشار الأسد بداية حقبة جديدة في تاريخ سورية وأن الرئيس السوري مستمر في صراعه مع الحرس القديم الذين يضعون العراقيل أمام مشروعه الإصلاحي، ومن ضمنه رغبته في حوار سوري - أميركي لحل المسائل العالقة. ولكن مع ذلك، تبدو السياسة الخارجية السورية غير واضحة للولايات المتحدة على رغم بعض المرونة السياسية في التعامل مع المستجدات الدولية خصوصاً بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر وملامسات شبابية شخصية والابتعاد عن الخطاب الصدامي والانفتاح على الاتحاد الأوروبي. وتدرك واشنطن جيداً أن أي تسوية مع إسرائيل لا يمكن أن تتحقق من دون سورية، كما لا تستطيع واشنطن تجاهل أن لدمشق تأثيراً في الموقف الشعبي الفلسطيني سلباً وإيجاباً وأن الشارع السوري لا ينظر بارتياح لأي تقارب سوري - أميركي نظراً إلى الدعم غير المحدود لإسرائيل، كما أن تخلي دمشق عن ثوابتها يفقدها الشرعية السياسية ويخالف جوهر مبادئ حزب البعث الحاكم. كما أن الإدارة الأميركية لا تزال تعتبر الدور السوري في لبنان محورياً، وتخشى من انسحاب سوري من لبنان قد يؤدي إلى إشعال فتيل أزمة سياسية. والحقيقة التي تخفيها واشنطن أنها لا تريد إسقاط الأنظمة المحيطة بإسرائيل على الطريقة العراقية تؤدي إلى فوضى عارمة قد تسخن الحدود الهادئة مع تل أبيب وتطلق العنان للمقاومة من منظمات معادية لإسرائيل. * كاتب سوري.