إتاحة تخصيص عقارات الدولة لأكثر من جهة حكومية    السجن مدى الحياة ل«مغتصب التلميذات» في جنوب أفريقيا    خوفاً من الورثة.. مغربية تحتفظ بجثة والدتها !    6 توصيات لتعزيز الهوية الثقافية ودعم الاستثمار في تعليم اللغة العربية محلياً و دولياً    إسرائيل تقصف الضاحية.. مصير خليفة نصر الله غامض    ترامب: على إسرائيل ضرب المنشآت النووية الإيرانية    هل أوقف الاتحاد الدولي المُلاكمة الجزائرية إيمان خليف وجردها من ألقابها ؟    في مباراة الفريق أمام الرياض .. القادسية يحتفي بوزير الإعلام "الدوسري"    عبدالعزيز بن سلمان يشارك في اجتماعات مجموعة العمل الخاصة بالتحولات في مجال الطاقة    الفتح يختتم تحضيراته لمواجهة التعاون    جمعية الأدب تعتمد 80 سفيراً في 30 مدينة    الهيئة السعودية للسياحة تطلق تقويم فعاليات «شتاء السعودية»    الخليج يعبر الخلود بهدف في دوري روشن السعودي للمحترفين    ميندي يوجه رسالة لجماهير الأهلي    مدرب القادسية يُفسر الخسارة أمام الرياض    الشباب يتعرض للخسارة أمام ضمك    الجيش الأميركي يعلن قصف 15 هدفا للحوثيين في اليمن    مسؤولون وأعيان يواسون أسرتي القاضي وآغا في فقيدتهم    محافظ الطائف يعزي أسرة الحميدي في فقيدهم    تعليم مكة : 1485 مدرسة تحتفي بأكثر من 30 ألف معلم ومعلمة في يوم المعلم    لوحة «ص ق ر 2024» لمركبة «المرور» تلفت أنظار زوار «الداخلية» في معرض الصقور والصيد    رصد طائر «سمنة الصخور الزرقاء» في الحدود الشمالية    القبض على (4) يمنيين في جازان لتهريبهم (120) كجم "قات"    الوطنية للإسكان NHC تكشف مزايا ومكونات حديقة خزام الكبرى شمال الرياض    الجيش الإسرائيلي يستعد لتوسيع عملياته البرية في جنوب لبنان    انطلاق حملة الحي يحييك للاحياء السكنية بالمنطقة الشرقية    تعرف على غيابات الأهلي عن الكلاسيكو أمام الهلال    ب 3 مناطق.. مركز «911» يتلقى 98 ألف مكالمة خلال 24 ساعة    تجمع الرياض الصحي الأول يكرم 14 استشارياً    إمام المسجد النبوي: آية ((إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) تحمل في طياتها معاني عميقة    وفاة 866 شخصًا بمرض جدري القردة في أفريقيا    "الصحة العالمية"تستعدّ للقيام بالجولة الثانية لتلقيح أطفال غزة ضدّ شلل الأطفال    أثر الشخصية واللغة والأمكنة في رواية «الصريم» لأحمد السماري    أحلام على قارعة الطريق!    «زلزال الضاحية».. ومصير حزب الله    غريبٌ.. كأنّي أنا..!    ذكورية النقد وأنثوية الحكاية.. جدل قديم يتجدّد    إنجاز في ملف «البطالة»    الشاهي للنساء!    اختتام مشاركة الهلال الأحمر في المعرض التفاعلي الأول للتصلب    كتب الأندية الأدبية تفتقر إلى الرواج لضعف التسويق    محافظ الطائف يلتقي مدير جمعية الثقافة والفنون    مدير تعليم الطائف يطلق مبادرة غراس لتعزيز السلوك الصحي    الأمير سعود بن نهار يعزي أسرة الحميدي    90 مبادرة لأمانة الطائف تعزز الوعي البيئي وتدعم الاستدامة الخضراء    أمانة الطائف توقع عقد إنشاء مشروع (قبة الفراشات) بمساحة ٣٣ ألف م٢    درجات أم دركات معرفية؟    معالي وزير العدل    2238 مصابا بالناعور في 2023    تعيين عدد من الأئمة في الحرمين الشريفين    أول فريق نسائي من مفتشي البيئة في المملكة يتمم الدورية رقم 5 آلاف في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    بدء الاجتماع الطارئ لمجلس الجامعة على مستوى المندوبين لبحث التحرك العربي للتضامن مع لبنان    نيابة عن ولي العهد.. وزير الخارجية يشارك في القمة الثالثة لحوار التعاون الآسيوي    خادم الحرمين يهنئ رئيس غينيا بذكرى الاستقلال ويعزي رئيس نيبال في ضحايا الفيضانات    تثمين المواقع    مملكة العز والإباء في عامها الرابع والتسعين    وزير الداخلية يعزي ذوي شهيد الواجب أكرم الجهني    مفتي عام المملكة يستقبل مفوّض الإفتاء بمنطقة جازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشهور الستة الأولى للرئيس بشار الأسد : الإصلاح في بيئة مشحونة بالمخاطر
نشر في الحياة يوم 26 - 01 - 2001

تدخل سورية بقيادة الرئيس بشّار الأسد مرحلة من التحولات العميقة. واذا كان من المبكر تحديد المدى الذي قد تصله التغيرات، فإن ارادة الرئيس بشار في اصلاح وفتح وأيضاً تنظيف كل مرافق الحياة السورية واضحة بما لا يقبل الشك. انه يطمح الى اقامة دولة ومجتمع حديثين، وهي مهمة صعبة لا بد ان تستغرق زمناً، ولا يتوقع منه أحد اجتراح معجزة. ان مخلفات الماضي ثقيلة، ولن يكون من السهل تغيير العقليات والعادات المستحكمة في شعب بأكمله. مع ذلك يمكن القول ان البداية واعدة.
المقارنات طبعاً دوماً غير دقيقة. لكن اذا نظرنا الى شبيه أوروبي لما يحدث الآن في سورية فلا بد أن يكون اسبانيا غداة موت فرانكو.
تركة صعبة
توفي الرئيس حافظ الأسد في حزيران يونيو الماضي بعد 30 سنة في السلطة، استمر خلالها في البعد عن الأضواء والتفرد بالقرار والانطواء المتزايد. كان الأسد لاعباً قديراً في ساحة السياسة الاقليمية، ولا بد ان التاريخ سيذكر له نجاحه في تحويل سورية الى قوة اقليمية رئيسية. وآمن دوماً أن على العرب ان يكونوا سادة أنفسهم، ما جعله الخصم الأعند والأكثر صموداً لمحاولات اسرائيل والولايات المتحدة فرض "نظامهما" على المنطقة.
لكن تركيز الأسد الطويل على الجانب الجغرافي - السياسي ترافق مع ما يشبه العزوف عن معالجة الأوضاع الداخلية، ما أدى الى ركودها، بل تحجرها في نواح كثيرة. ويصح هذا في شكل خاص على العقد الأخير من حياته. وكانت التسعينات سنوات بالغة الصعوبة بالنسبة اليه، ويكفي في هذا المجال ان نتذكر ما يلي:
زوال الاتحاد السوفياتي، حليفه الرئيسي على الساحة الدولية.
دمار العراق وانهيار التضامن العربي اثناء حرب الخليج.
اتفاق أوسلو في 1993، الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي المنفرد الذي جاء اثر مفاوضات سرية وأضعف ديبلوماسية الأسد للسلام.
الضربة النفسية العميقة بوفاة نجله باسل في كانون الثاني يناير 1994، وكان الأسد يهيئه لخلافته.
حرب العصابات لطرد اسرائيل من لبنان، والعمليات العدوانية الاسرائيلية المتكررة خلالها، مثل عملية "المحاسبة" في 1993 و"عناقيد الغضب" في 1996، التي هددت بجر سورية الى الحرب.
أعوام بنيامين نتانياهو العجاف بين 1996 و1999 التي أوقفت عملية السلام تماماً.
التعاون الاستراتيجي بين تركيا واسرائيل ضد سورية وحليفتها ايران.
الأزمة الخطيرة مع تركيا في 1998 حول الزعيم الكردي عبد الله أوجلان.
فوق كل ذلك، الاحباط المتزايد من ديبلوماسية السلام الأميركية بتخبطها وانحيازها، والتي تكللت بقمة جنيف الفاشلة في آذار مارس الماضي. وأدت هذه الديبلوماسية الى التوقف الكامل لعملية مدريد للسلام.
أمام هذه التحديات الخارجية لا غرابة في اختيار الرئيس حافظ الأسد نهج الاستمرارية والاحتراس في الداخل.
صعود الدكتور بشار
بدأت تهيئة الدكتور بشار للسلطة مباشرة بعد وفاة أخيه باسل في 1994. كان عمر بشار وقتها 28 سنة، وأكمل تخصصه في طب العيون في بريطانيا. ولم يبد وقتها انه الخيار الأمثل لحكم بلد مثل سورية. لكنه دخل دورة تدريب مكثفة على الحكم خلال الأربع سنين ونصف السنة التالية، بدءاً بسنتين في القوات المسلحة، ثم العمل مباشرة مع والده حيث تعرف على تفاصيل السياسة على الأصعدة الوطنية والاقليمية والدولية.
والواضح انه استوعب هذه الدروس بسرعة. فهو على مستوى عال من التعليم، بشخصية مفكرة معتنية، وخلق راق وغريزة ليبرالية. وله اهتمامات علمية ومعرفة بتكنولوجيا المعلومات تفوق مستوى الهواة. كما برهن سريعاً على مقدار كبير من صلابة الشخصية.
وكان الرئيس الراحل عانى في السنتين الأخيرتين من حياته من تدهور حاد في الصحة. ودخل نجله بشار في شكل متزايد الى عملية صنع القرار، اذ كان يُعدّ الأوراق الرسمية لكي يوقعها والده، وبدأ بتسلم الملف اللبناني الصعب والمعقد مع لبنان، وأطلق حملة ضد الفساد، ودعم استعمال الكومبيوتر والانترنت. اضافة الى ذلك دفع الدكتور بشار الى التقاعد عدداً من أفراد "الحرس القديم" الذي عمل مع والده سنين طويلة، مستعيضاً عنهم بمسؤولين اقرب سناً الى جيله. واصبح الدكتور بشار في شكل متزايد بمثابة "الرقيب العام" المسؤول عن معالجة تظلمات وشكاوى المواطنين تجاه السلطة، ومن هنا أثار توقعات كبرى بالتغيير.
وفي آذار مارس الماضي، أي قبل ثلاثة أشهر من وفاة والده، لعب الدكتور بشار دوراً رئيسياً في اختيار أعضاء حكومة جديدة برئاسة محمد مصطفى ميرو. ثم قام بعد وفاة والده مباشرة وتسلمه الأمانة العامة لحزب البعث الحاكم بتغييرات كبيرة في قيادات الحزب، مُدخلاً اليها عناصر جديدة من الرجال والنساء.
ومكنه وضعه خلال كل ذلك من رصد الأخطاء والنواقص على أصعدة كثيرة في سورية، مثل الاقتصاد والمؤسسات السياسية والأجهزة البيروقراطية والقضاء والسجون وسجل حقوق الانسان ووسائل الاعلام الرسمي والنظام التعليمي، وادراك الحاجة الملحة الى الاصلاح الشامل.
سيل من المراسيم
أطلق الرئيس بشّار منذ تسلمه السلطة في تموز يوليو الماضي "رياح تغيير" حقيقية في كل أوجه الحياة في سورية تقريباً. وأصدر خلال الشهور الستة الأخيرة عشرات المراسيم وصاغ عدداً كبيراً من القوانين وقدمها الى مجلس الشعب للمصادقة. وبما انه لا يمكن في هذه المحاضرة القصيرة اعطاء تفاصيل عن هذه الاصلاحات، فعلينا الاكتفاء بعدد من العناوين الرئيسية:
الاقتصاد: لسورية امكانات اقتصادية كبرى - في السياحة والزراعة والنفط والغاز والخدمات - لكنها الى حد كبير لم تُطور بعد. وهناك الآن محاولة جادة لتشجيع القطاع الخاص وصولاً الى التحول من الاقتصاد المركزي الى اقتصاد السوق.
وتشمل محاولة اجتذاب الاستثمار المحلي والأجنبي السماح بشراء أراض تزيد على الحد الذي يسمح به الاصلاح الزراعي، وضريبة أعمال لا تتجاوز 25 في المئة، وحرية أكثر في التعامل بالعملات الأجنبية واخراج الأرباح ورؤوس المال، اضافة الى قرار بسعر موحد لصرف الليرة السورية، وحق انشاء الشركات القابضة. وفوق هذا كله اتخاذ الخطوات اللازمة لاقامة نظام مصرفي حديث بعيد عن سيطرة الحكومة، من خلال السماح بعمل المصارف الخاصة، ليس فقط في المنطقة الحرة فحسب بل في عموم سورية.
لدمشق علاقات جيدة مع الاتحاد الأوروبي، وتواصل التفاوض معه بهدف عقد اتفاق للمشاركة. كما تتعامل سورية مع مؤسسات مالية عربية، متوقعة منها المساعدة في تسريع برنامج الاصلاح الاقتصادي. كما استعادت علاقاتها الجيدة مع البنك الدولي، اذ انها ستوفي هذه السنة كل متأخراتها على البنك.
التخطيط الاقتصادي بإشراف وزير الدولة المعروف بفاعليته الدكتور عصام الزعيم: يوفر العهد دوراً أكبر للتخطيط الاقتصادي لتقديم هيكل نظري للتنمية، وهو ما افتقر اليه الاقتصاد حتى الآن، وتوضيح دور كل من القطاعين الخاص والعام الأخير الآن يعاني من ركود شبه كامل، وسيخضع من الآن فصاعداً لمعايير الربح.
وزير التعليم العالي الجديد هو الدكتور حسن ريشه، الذي اوكلت اليه المهمة الصعبة في تطوير المهارات ورفع مستويات التعليم، خصوصاً في العلوم والتكنولوجيا.
للرئيس بشار الأسد اهتمام خاص باصلاح الجهاز الاداري - معتبراً انه الشرط الضروري للتنمية - والقضاء على الفساد فيه. وتم بالفعل رفع مستوى المرتبات بنسبة 25 في المئة، وهي ليست كافية لكنها خطوة في الاتجاه الصحيح. ولاحقت السلطات عدداً من المسؤولين بتهمة الفساد، في شكل جعلهم عبرة للآخرين.
أما بالنسبة الى المؤسسات السياسية فهناك محاولات لادخال دم جديد في حزب البعث الحاكم - اضافة الى التركيز على مبدأ المساءلة - عن طريق اجراء انتخابات حرة تبدأ هذا الأسبوع على كل مستويات قيادة الحزب.
الجبهة الوطنية التقدمية: تضم الجبهة عدداً من الأحزاب الصغيرة والأجنحة الملتفة حول حزب البعث الحاكم، وكانت من دون وزن أو نفوذ واقتصرت مهمتها في الماضي على الموافقة على قرارات السلطة. هناك الآن محاولات لتنشيطها توخياً لتعددية حقيقية، من خلال السماح للمنظمات المشاركة باصدار صحفها الخاصة وافتتاح الفروع وتوسيع عضويتها. وسارع الحزب الشيوعي السوري الى استغلال الفرصة، وكانت صحيفته "صوت الشعب" الأولى التي تباع علناً.
من جهته أوضح الرئيس الجديد كرهه لعبادة الفرد التي رافقت عهد والده الراحل. كما اعلن انه لا يريد ان يكون المرشح الوحيد للرئاسة بعد انتهاء ولايته في 2008 .
يقظة المجتمع المدني
في ما يخص حقوق الانسان أطلق الرئيس 600 سجين سياسي وأغلق سجوناً كانت رمزاً للانتهاكات. وقدم الى مجلس الشعب لائحة قانون بالعفو عن عدد من الجرائم العادية من بينها التحايل على الخدمة العسكرية والتهريب. ورحبت بهذه الخطوات لجنة الدفاع عن حقوق الانسان في سورية، التي خرجت الى العلن بعد عقد من العمل السري.
تمت صياغة لائحة قانون جديد للمطبوعات ينهي احتكار الحكومة للصحافة. وطلب رسام الكاريكاتور المعروف علي فرزات الترخيص لصحيفة ساخرة، تكون الأولى من نوعها منذ ثورة البعث في 1963 .
لكن ربما كان الأكثر اثارة للاهتمام في الشهور الستة الأخيرة التوسع الكبير في حرية التعبير عن الرأي والتجمع. وتشهد سورية حالياً تفجراً حقيقياً في النقاش.
وفي أوائل الشهر الجاري وقع نحو ألف مثقف على وثيقة أساسية تحض الرئيس على اجراء اصلاحات سياسية واسعة. وتدعو الوثيقة التي صاغتها "لجان إحياء المجتمع المدني" الى انهاء حال الطوارئ واطلاق جميع السجناء السياسيين وعودة المبعدين السياسيين وتوفير الحريات السياسية واستقلال القضاء واطلاق الحريات الاقتصادية جميع الى كل المواطنين... ثم المطلب الأكثر اثارة للخلاف: انهاء احتكار حزب البعث للسلطة.
ولعل انتشار "لجان احياء المجتمع المدني" التي شكلها الكتاب والفنانون والأكاديميون، وشارك فيها أيضاً رجال اعمال ومهنيون، المؤشر الأهم على اليقظة السياسية التي يشهدها المجتمع السوري.
وأثارت هذه الظاهرة، كما هو متوقع، عند بدايتها السنة الماضية قلق أجهزة الأمن، لأنها لم تعرف شبيهاً لها من قبل وأرادت قمعها. وطلب قادة الأجهزة تعليمات الرئيس في هذا الشأن، واذا ما كان سيخولهم إسكات هذه الأصوات المتمردة. وكان جوابه بالغ الوضوح: "لكم كل الحق - بل واجبكم - معرفة ما يجري، لكن ليس لكم حق وقفه". هكذا أصبح الرئيس حامي هذا التحرك الليبرالي الجديد.
تأثير الانتفاضة الفلسطينية
تأتي هذه الاصلاحات في مرحلة من الاضطراب الذي يفوق المعتاد في بيئة سورية الاقليمية. وتتطلب المرحلة من الرئيس الشاب أكثر ما يمكن من الاحتراس وصوغ ردود الفعل المناسبة. أي انه لم يكن منهمكاً في الشأن الداخلي فحسب، بل الخارجي أيضاً.
التطوران اللذان أديا الى تغيير جذري في البيئة الاستراتيجية هما: أولاً، الانتفاضة الفلسطينية المشتعلة منذ أواخر أيلول سبتمبر، وتحولت الى حرب عصابات ضد القوات الاسرائيلية والمستوطنين في الأراضي المحتلة. وثانياً، الانهيار الكامل تقريباً لسياسة اميركا تجاه الشرق الأوسط، ليس تجاه عملية السلام العربية - الاسرائيلية فحسب بل في الخليج أيضاً.
للتطورين نتائج لا يمكن احتسابها بعد. اننا لا نعرف حتى الآن ما اذا كانت المحادثات "الماراثونية" الفلسطينية - الاسرائيلية في طابا ستؤدي الى اتفاق في اللحظة الأخيرة. ولا شك في ان الفلسطينيين ينظرون بقلق الى وصول آرييل شارون الى السلطة على رأس حكومة جديدة، في ما لا يمكن ان تكون اسرائيل سعيدة تماماً بتسلّم ادارة جورج بوش السلطة في واشنطن، وخسارتها اصدقاءها الكثيرين في الادارة السابقة و"فريق السلام" الأميركي. وقد تشكل مخاوف كل من الطرفين دافعاً نحو التوصل الى صفقة.
لكن مهما كانت النتيجة فإن الانتفاضة لا تمثل نهاية مرحلة التوسع الاسرائيلية فحسب، بل أيضاً بداية مرحلة التراجع. فقد نسفت الانتفاضة ذلك الموقف الواثق السائد حتى فترة قريبة لا شك في انه مستمر بين المتشددين في قدرة اسرائيل على أن تواصل من دون معارضة تذكر قضمها التدريجي للضفة الغربية وتوسيع المستوطنات واعادة أقل من 50 في المئة من الأراضي الى الفلسطينيين، وذلك على شكل بقع متفرقة، اضافة الى المحافظة على السيادة على كل القدس، واغفال مشكلة اللاجئين. هذه المرحلة انتهت. والنقاش الان يدور على ترسيم الحدود النهائية لاسرائيل، والأرجح انها ستكون أقرب الى حدود 1967 مما كان يتصور الجميع سابقاً.
هذا التغير في الأجواء جاء بفعل القوة وليس المفاوضات، تماماً مثلما جاء انسحاب اسرائيل من لبنان عن طريق القوة وليس التفاوض. واذ استورد الفلسطينيون الى اراضيهم النموذج اللبناني لحرب العصابات فهم يدفعون ثمناً باهظاً في "حرب الاستقلال" هذه، لكنها في الوقت نفسه تعدهم بالحصول على الكثير.
اسرائيل بالطبع لا ترحب بهذه التطورات. فهي في حرصها على ادامة قدرتها الردعية تكره الاعتراف بأنها اضطرت الى التراجع امام العنف العربي، على رغم ان هذا هو الواقع. مع ذلك فالقصة لا تزال مستمرة. واذا تسلم شارون السلطة فقد يحاول صد تيار التراجع، ما يعني سفك المزيد من الدماء في حرب يمكن ان تنتشر شمالاً لتشمل لبنان وربما أيضاً سورية.
قد يسعى شارون، حسب المعروف عنه، الى سحق الانتفاضة بالقوة، في ما يقوم في لبنان ب"إكمال المهمة" التي لم يسمح له باكمالها في 1982، ولا بد انه قضى الاعوام العشرين الأخيرة في التحسر على ذلك. ويأتي الاحتمالان في الوقت الذي تجد واشنطن نفسها في مرحلة الانتقال بين ولايتين، ما يعني انها غير مستعدة للتعامل مع الوضع. كما ان سمعة أميركا في المنطقة في الحضيض الآن، حيث تواجه موجة من العداء وحتى الهجمات الارهابية - مثل الهجوم على البارجة "كول" في ميناء عدن في تشرين الأول اكتوبر الماضي - بسبب انحيازها الكامل الى اسرائيل واستمرارها في معاقبة العراق، وما يبدو من شنها الحرب على الاسلام ككل.
انهيار السياسة الأميركية
تركت ادارة بيل كلينتون وراءها سجلاً تعيساً فيما يخص الشرق الأوسط. فقد أثارت "الشارع العربي" ونفرت العالم الاسلامي. وقادت رعايتها المنحازة لعملية السلام الى انفجار للعنف أقوى من كل ما سبق في الأراضي الفلسطينية. وفشلت في التوصل الى تسوية للصراع السوري الاسرائيلي. كما انهارت سياسة "الاحتواء المزدوج" تجاه ايران والعراق، الهادفة الى عزل وشل البلدين. وتشهد العقوبات على العراق تآكلاً متزايداً، وترى اطراف كثيرة انها غير قابلة للاستمرار. أما ايران فقد أفلتت منذ زمن من "الاحتواء" المفترض. وكذلك فشلت محاولات واشنطن - في سياق حمايتها التفوق العسكري الاسرائيلي - وقف وصول السلاح الى سورية وايران من مصادر مثل روسيا وكوريا الشمالية. وجددت ايران اخيراً تعاونها العسكري مع روسيا.
باختصار، ان هدف تغيير النظام الاقليمي متماشياً مع مصالح أميركا واسرائيل انتهى الى الفشل، على رغم كل محاولات التوصل اليه. السؤال الأهم هو: هل ستتعلم ادارة جورج بوش هذا الدرس وتتخذ سياسة اكثر توازناً تجاه مشاكل المنطقة؟
الاستمرارية والتغير في سياسة سورية الخارجية
هذا هو السياق الاقليمي الخطير الذي صاغ فيه الرئيس بشار ووزير الخارجية المخضرم فاروق الشرع سياسة سورية الخارجية.
ما هي مواقف سورية الرئيسية ازاء هذا السياق؟ هنا أيضاً علي الاكتفاء برؤوس الأقلام.
اذا كانت التغيرات جذرية في ما يخص السياسة الداخلية فان السياسة الخارجية تبقى ثابتة ضمن الخطوط العامة التي وضعها الرئيس الراحل حافظ الأسد. ذلك ان سورية تواصل التزامها السعي نحو سلام عادل وشامل، يؤدي الى استعادة سورية كل شبر من أراضيها. لكن سورية تحرص في الوقت نفسه على ان يكون هذا "سلام الأقوياء" الذي سعى اليه الرئيس الراحل، أي ان يقوم على الردع المتبادل بين الطرفين العربي والاسرائيلي وليس على قوة اسرائيل لوحدها.
ويضاعف من أهمية الاعتبار الأخير ما تراه دمشق من ميل اسرائيل الى استعمال القوة أو التهديد بها كلما واجهتها الضغوط. وتلقت سورية اخيراً بالفعل تهديداً من اسرائيل بسبب دعم دمشق لحزب الله، بعدما نفذّ مقاتلوه عدداً من العمليات في "مزارع شبعا"، المنطقة الصغيرة من لبنان التي تستمر اسرائيل في احتلالها. ودعمت موقف دمشق الى حد ما المساندة من المملكة العربية السعودية وايران، عندما اكدتا انهما لن تتسامحا مع أي هجوم على سورية.
تستمر سياسة سورية الخارجية في التركيز على عدد من المحاور:
محور دمشق - الرياض - القاهرة يبقى حجر الأساس في سياسة دمشق ضمن العالم العربي. وبذل الرئيس بشار جهداً كبيراً لتقوية هذا المحور عن طريق الزيارات الى الرياض والقاهرة والتشاور الدائم مع قيادتي الدولتين.
محور دمشق - طهران الذي أقامه الرئيس الراحل قبل عشرين سنة ويبقى التحالف الاستراتيجي الرئيسي بالنسبة الى دمشق ويحظى منها بأشد الاهتمام.
المحور السوري - اللبناني، وهو جوهري لاستراتيجية سورية الأمنية منذ قيامه في 1976. لكن الرئيس بشار، ادراكاً منه بأن كثيرين في لبنان يستنكرون الوجود العسكري السوري، يحرص على وضع العلاقة السورية - اللبنانية على أساس المساواة والمصلحة المشتركة والتعاون الاقتصادي. وتراجع الى حد كبير التدخل التفصيلي المباشر في شؤون لبنان، والمحتمل انه سيتراجع أكثر.
المبادرات الجديدة من الرئيس بشّار
الخطوات الجديدة في سياسة سورية الخارجية هي توسيع الانفتاح على العراق، والتحسن الكبير في العلاقات مع تركيا، والدعم القوي للانتفاضة الفلسطينية. والأرجح أن النقطة الأخيرة ستؤدي، بعد سنين طويلة من الشكوك المتبادلة، الى اعادة العلاقات بين سورية والحركة التي يقودها ياسر عرفات. كما يتوقع ان يقوم الرئيس الفلسطيني بزيارة الى دمشق خلال الأسابيع المقبلة. وكان السوريون أوضحوا ان الترحيب به سيتزايد متوافقاً مع صموده في المفاوضات مع اسرائيل. خلال ذلك لا مجال لعودة سورية الى التفاوض مع اسرائيل في الوقت الذي يستمر قتل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
علاقات سورية مع العراق في تحسن مؤكد، وذلك بعد عقود من العداء. وزار طارق عزيز العاصمة السورية لا أقل من أربع مرات منذ تسلم الرئيس بشار السلطة. وتنشط التجارة بين الطرفين، ولا شك في انها ستزداد نشاطاً عند البدء باعادة الاعمار في العراق. وتم اصلاح خط كركوك - بانياس النفطي وهو الآن جاهز للعمل بل هناك من يقول ان الضخ بدأ بالفعل، سوى ان سورية لا تريد ان تظهر انتهاكها للعقوبات الدولية.
وبينما تقترب سورية من اعادة العلاقات الديبلوماسية الكاملة مع العراق، يدور الكثير من الكلام في دمشق وبغداد وعمان عن مشروع لتكامل "الهلال الخصيب". وتكلم الرئيس بشار بحماس عن العراق كالعمق الاستراتيجي والاقتصادي والعلمي لسورية. لكنه في الوقت نفسه لا يسارع في التحرك في هذا الاتجاه لكي لا يغضب بعض القوى الغربية والخليجية.
اضافة الى ذلك فالكل يعرف أن القاهرة والرياض لن ترتاحا الى توصل دمشق وبغداد الى تحالف أو شراكة استراتيجية وثيقة، في حين سيغذي ذلك في الوقت نفسه العصاب الاسرائيلي تجاه "الخطر من الشرق".
العلاقات مع تركيا ودية الآن، ولم يبق من أزمة 1998 الا ذكرى بعيدة يفضل الطرفان أن يطويها النسيان. كما انهما عقدا اتفاقات أمنية تضمن أن أياً منهما لا يشكل خطراً أمنياً على الآخر. ويخطط الرئيس بشار لزيارة تركيا قريباً.
من نتائج هذا الدفء في العلاقات بين دمشق وأنقرة أن العلاقات التركية - الاسرائيلية تبدو حالياً أقل خطراً على سورية من السابق. لكن هناك عدداً من القضايا العالقة التي تحتاج الى مفاوضات معقدة طويلة، من بينها مطالبة سورية بحصة منصفة من مياه الفرات، ورغبة تركيا في تنازل دمشق عن مطالبتها بلواء الاسكندرون الذي خسرته سورية في 1939، وهو الآن اقليم هاتاي التركي.
تبين الزيارات والاتصالات الخارجية التي قام بها الرئيس بشار رغبته في الانفتاح على دول الجوار، مثلما فعل والده عند تسلم السلطة في 1970. وهو يرى أن الروابط التجارية والاقتصادية، اضافة الى المصالح الأمنية المشتركة، تشكل الأرضية الضرورية للعلاقات الصحيحة مع الأردن ولبنان والعراق ومصر. ويرغب في الحصول على التمويل للتنمية من المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج، ويبذل اقصى جهده لاقامة نظام اقتصادي يجتذب المستثمرين. واكثر ما يشغل الرئيس بشار على الصعيد السياسي الحاجة الى ثقل موازن لاسرائيل. وشعاره هنا، كما كان الحال دوماً مع والده، هو التضامن العربي، الذي يراه عنصراً ضرورياً في سعي سورية الطويل الى "سلام الأقوياء".
يأمل الرئيس السوري من ادارة الرئيس جورج بوش أن تبدي تفهماً لمصالح العرب أكثر من الادارة السابقة. لكن رأي سورية يبقى أن على العرب في الدرجة الأولى الاعتماد على انفسهم. وعبّر عن ذلك وزير الخارجية فاروق الشرع عندما قال في محاضرة القاها اخيراً في دمشق: "اذا اعتمدنا على الأجانب في سعينا الى السلام العادل والشامل فعلينا الانتظار زمناً طويلاً ودفع ثمن باهظ. على الجميع ان يدركوا ان المسؤولية تقع علينا، عرباً ومسلمين، للبرهنة على تماسكنا وتعاوننا وتضامننا. علينا ان لا نسمح لأحد باغفالنا أو اغفال حقوقنا".
يبرهن الرئيس بشار الأسد بعد ستة شهور على تسلم السلطة على انه قائد فاعل ذكي يعمل بجهد لتحديث بلاده وحمايتها في تلك البيئة الاقليمية المليئة دوماً بالخطر.
* ترجمة محاضرة أُلقيت أمس في المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.